أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

حقيقة وأبعاد الشعور بين الرؤى المنامية وتلقين اليقظة

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة المغرب

أولا: الرؤيا واستشراف المستقبل بالتفاؤل

في القرآن الكريم نجد التعبير للرؤيا ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية في قصة النبي يوسف عليه السلام، حيث التمييز بين الرؤيا والحلم باعتبار الأولى شعورية والثانية غير شعورية ووهمية.
يقول الله تعالى في هذا المجال:”وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين،وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذرون في سنبله إلا قليلا مما تأكلون،ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون “.
فالرؤى غير الأحلام،لأنها شعور بالمتوقع،أما الأحلام فهي توهم الشعور بالمتوقع توهما كاذبا.ولهذا كانت الرؤى تمثل حقيقة نفسية ومستوى لها قد يدل على صحتها وسلامة وظائفها في التعامل مع الحقيقة الشرعية و الوجودية.
فكانت الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح امتدادا لأنوار النبوة في مطابقتها للحق،كما في الحديث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة”.
وقد نجد قاعدة التفاؤل على مستوى جمالي ذي الأثر النفسي وذلك من خلال حسن الظن والفأل بالكلام وجمال الأسماء.فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:”لا طيرة وخيرها الفأل قال: وما الفأل يا رسول الله ؟ قال : الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم “.
أما الفأل بالأسماء والتنبيه على آثارها النفسية فكما روى مالك :أخبرنا يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقحة عنده :من يحلب هذه؟فقام رجل فقال له:ما اسمك ؟ فقال له : مُرَّة . فقال : اجلس. ثم قال من يحلب الناقة فقام رجل فقال له : ما اسمك؟ قال:حرب. قال اجلس .ثم قال من يحلب هذه الناقة فقام آخر فقال:ما اسمك . قال:يعيش. قال : احلب”.
فهذه الوسائل التربوية كلها قد تدخل في إطار التزكية النفسية التي كان يمارسها الرسول صلى الله عليه وسلم في حق أصحابه حتى يصبحوا على مستوى شعوري دقيق سيعي من خلاله الصحابي حركات نفسه وكأنها أمام مرآة مجلوة، قد مثلوا عند استجابتهم لقواعد هذه التزكية أعظم مدرسة استبطانية شعورية في تاريخ الإنسانية جمعاء،لأنها تأسست على حسب مستوى المزكِّي واستجابة المزكَّى، سيجمع هذه المدرسة ومنهجها في معرفة النفس قول الله تعالى:”لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”. وقوله تعالى:”يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون”.

ثانيا: التلقين الروحي والتخصص الشعوري

وكدليل تطبيقي على ممارسة هذه التزكية النبوية وآثارها على أصحابه شعوريا سنجد هذا الحديث عن حنظلة الأسيدي قال،وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة ؟. قال قلت نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟:قال: قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا.قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا!.
فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسم قلت:نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة،ثلاث مرات”،وكذلك ما روي عن الحارث بن مالك أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:”كيف أصبحت يا حارث؟ قال:”أصبحت مؤمنا حقا. قال:”انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة،فما حقيقة إيمانك؟فقال:”عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بإرزا،وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها.فقال:”يا حارث عرفت فالزم ، ثلاثا”.
فالحديثان قد يؤسسان لمبدأ الشعور الحقيقي بكل معانيه،كما يدلان على مدرسة نفسية حقيقية من الطراز الأعلى سيضمن للمعرفة النفسية السلامة في محصلاتها والكشف عنها،وذلك لتضمنهما القواعد الرئيسية لضبط منهج معرفة النفس،أذكر من بينها :
أ – الاستبطان النفسي أو الملاحظة الداخلية:بالمعنى الإسلامي وممارسة هذه الوظيفة بشكل فردي و جماعي عند سائر الصحابة الذين كانوا يصاحبون الرسول صلى الله عليه وسلم. ويتجلى هذا في التوافق على نفس الملاحظة بين حنظلة وأبي بكر وكذلك الحارث بن مالك.
وهذه الملاحظة قد كانت على مستوى دقيق وعميق مركز،وليس أنها مجرد ملاحظة نفسية عادية وغير قصدية، لأن الحركات الباطنية التي طرأت على الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد كانت شيئا جديدا وشعورا خاصا سيدخل على الشعور النفسي العادي عنصرا أكثر إشراقا وتصحية مما كان قبل.
وذلك بسبب الدعوة إلى التزكية والمجاهدة التي كان صلى الله عليه وسلم يمارسها ويحض أصحابه على التزامها والوقوف عند نتائجها والحرص عليها، حتى تصبح قارة وملازمة للوعي والشعور عندهم كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للحارث بن مالك:”عرفت فالزم “.
ب -الوحدة الشعورية والاستفسار الجماعي عن الأحوال الذاتية:ويتجلى هذا في الجواب الذي عبر به أبو بكر بعدما شرح له حنظلة حالته النفسية وذلك بقوله:”فوالله إنا لنلقى مثل هذا”.
إذ قد تضمن هذا التعبير تأكيدا قويا لحد القسم على أن الحالة الشعورية التي يحياها حنظلة هي عينها عند أبي بكر، مما يعني أن حالة حنظلة لم تكن حالة توهم شعوري،وإنما هي شعور حقيقي مضبوط قد يخضع لقواعد وقوانين ستساهم في حضوره وغيابه. وهذه الحالة الشعورية الحقيقية بما أنها ثابتة وواقعية فإن وجودها لابد وأن يكون متفرعا وجماعيا سيستفيد منها عدة أفراد بحسب استعداداتهم واحترامهم لقواعدها.بحيث ستصبح الظاهرة النفسية ظاهرة جماعية تمثل قانونا وقاعدة يخضع لها جميع الناس.
ج -التمسك بالشعور والخوف من غيابه:ويظهر هذا من خلال شكوى حنظلة ووصفه لحالته بالنفاق بمجرد ضعف أو نقص مستوى من الشعور قد كان يجده وهو بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم،حتى توهم أنه بهذا النقص قد دخل في حالة غياب الشعور الذي وصفه بالنفاق،أي الانقطاع عن الحقيقة ومناقضة الظاهر للباطن وما إلى ذلك .
وهذا قد يؤسس لنا ،كما أكدنا من قبل، بأن الأصل في الإنسان هو الشعور،وأن المؤمنين الصادقين هم أهل الشعور الحقيقي وأن أخوف ما يخافونه هو غيابه مما قد يوقع الشخص في الطغيان والعمه والهلاك، وسيرمي به أيضا في دوامة الطبع والختم والإقفال والانجراف نحو الأهواء،فلم يعودوا مستفيدين حينئذ من تربية المزكي ولا من تلقينه كما في قول الله تعالى:”ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا. أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم”.
د- الأثر الشعوري للملقى على المتلقي أو نقل الظواهر النفسية:
وهذا العنصر يمثل أهم ركن في معرفة النفس،لأنه بمثابة مرآة مجلوة ستجعل الإنسان يكتشف ذاته من خلالها، ويتطلع إلى مستوى غير ذاته مما قد يكون عليه حال المزكي أو المربي الذي سيجعله يحرز تقدما كبيرا في معرفة النفس وأسرارها،وخاصة إذا كان المربي على مستوى كبير من الشعور والاستبصار الإيماني والانشراح الصدري والنفسي.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock