بداية العد العكسي في المواجهة ومرحلة إسلام الأقوياء
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الاختيار المركز في الدعوة وتهييء النخبة
بعدما استحلى كفار قريش اللعبة بتعود الاعتداء والتعنيف الجسدي والنفسي للمسلمين ،حتى توهموا في أنفسهم أنهم فعلا أقوياء وصناديد بامتياز ،جاهلين أن عنصر الضعف في المعادلة الصعبة قد يكون هو الحاسم في تحديد النتيجة واستخلاصها سليمة وثابتة ،كما يقول الناظم:
جاهدنا فكنا فوق المستوى وبالضعف نلنا جميع القوى
حينذاك جاء الإذن بالموازنة على مستوى الظاهر،بالرغم من أن أولئك المستضعفين كانوا أكثر استعدادا لقلب الطاولة وتكسير الموازين وإحداث ثورة عارمة وقائمة على التحدي لا يوقفها سد أو مانع.
لكن ،كما سبق وقلنا في عدة مقالات، فإن الرسولs قد كان يؤسس للعالمية ولمملكة القلوب قبل الأبدان وللمعاني قبل الأعيان ،سبق وفصلنا القول عنه في مرقى :نور الأمين ومقدمات إسعاد العالمين.
كان النبيs يريد أن يلين القلوب القاسية ويخضعها بالقلوب الخاشعة والرطبة من ذكر الله تعالى ومحبته ،وهذه كيمياء روحية ما بعدها من كيمياء وصناعة تحويلية لا تدخل في قائمة المختبر الإنساني العادي وإنما هي المعجزة الكبرى الحاملة لعناصر المفاجأة والتحدي .
وفعلا، فقد حدثت واسترسلت في الحدوث،فكان من أبرز هؤلاء المتحوَّلين شهمان متكافئان في العز والقوة والإباء والشجاعة والبأس وهما :حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.ومع هذا فكل له شخصيته وظروفه ومواقفه الخاصة به، ولكنهما قد يجتمعان عند نقطة القوة والتحدي والتصدي،حيث لا يعرفان الخضوع أو قبول الانصياع إلا لما اقتنعا به وسكن في قلبيهما واستوطن .
لكنهما هذه المرة سيصرعهما الرسولs بإذن من الله تعالى صرعا نورانيا من التيار العالي الذي اخترق صدريهما وامتلك شغافهما وشرحهما شرحا،تماما كالذي تم في عملية شق الصدر النبوي ومعالجة جبريل له ،ولكن هذه المرة وعند الرجلين سيتم بأنامل محمدية جاذبة كل الجذب ورافعة إياهما نحو أعلى المقامات في معراج روحي أسرع من البرق وأنصع من سطوع الشمس من الشرق !
فجدير بنا أن نقتطف جزء من قصة هذين البطلين، كما وردت في كتب السيرة وخُصص لها حيز مهم فيها ،ثم نعمل قدر الإمكان على المقارنة وتحليل نفسية كليهما ،مع الاعتذار عن هذا المصطلح ، وأنى لي وأنا الضعيف الخلَف المتخلف أن اقتحم عتبة هذين القطبين العظيمين !
إذ فيما يخص إسلام حمزة بن عبد المطلب يقول ابن إسحق:”حدثني رجل من أسلم،كان واعية،أن أبا جهل مر برسول الله sعند الصفا ،فآذاه وشتمه،ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره ،فلم يكلمه رسول اللهs ،ومولاة لعبد الله بن جدعان بن عمرو بن سعد بن تميم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك ،ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة،فجلس معهم،فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له،وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له ،وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ،وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم،وكان أعز فتى في قريش وأعز شكيمة،فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول اللهs إلى بيته قالت له:يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي بن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم(أبو جهل)بن هشام؟وجده هاهنا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره،ثم انصرف عنه،ولم يكلمه محمد.فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته،فخرج يسعى ،ولم يقف على أحد معدا لأبي جهل – إذا لقيه – أن يوقع به ،فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم،فأقبل نحوه ،حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال:أتشتمه؟فأنا على دينه أقول ما يقول،فرد علي ذلك إن استطعت،فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ،فقال أبو جهل:دعوا أبا عمارة فوالله إني قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا.وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه وعلى ما تابع عليه رسول اللهs من قوله.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللهs قد عز وامتنع وأن حمزة سيمنعه ،فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه”.
فقد يمر الكثير أو لنقل جل أهل السير على قصة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بسرعة لا تفي الرجل حقه من العناية والدرس ،كما أن المتأخرين يروون قصته في الغالب بالحرف ولا يلوون،كما هي منقولة عن ابن إسحق، أو أنهم يختصرونها ويصوغونها بعبارات عاطفية ربما قد تنقصها وزنها بدل من أن تزيدها رونقا وعمقا.
ثانيا:إسلام حمزة بن عبد المطلب ومرحلة التصعيد والتحدي
لكن في الحقيقة إن موضوع حمزة وإسلامه سيمثل محطة جد مهمة في تسريع وتيرة الأحداث وتطور العلاقة بين الدعوة وصاحبها وأتباعه وبين المعارضين من قريش وناديهم يتقدمهم أبو جهل في جميع مواقفهم المظلمة والمشينة .
فالشهم حمزة كان لا يرضى بالضيم ولا يقره،وإن وقع فيه بجهل وحمية،لكن سرعان ما يثوب إلى رشده وإلى جوهره ومعدنه الأصيل.كما أنه يكون في عمقه أقرب إلى عقيدة العدل والإنصاف من الظلم والتعدي.فقط يحتاج إلى من يزيح الرماد المتراكم على الجمر أو الغبار عن المصباح الذي لا يكاد ينطفئ حتى يعود إلى التوهج والاشتعال.
وحمزة هذا قد كان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة وشجاعة،وهو بالإضافة إلى أنه عم النبي فهو من جهة أخرى أخوه في الرضاع وأخوه في الروحانية ستتحقق حينما آخاه عند المهاجر إلى يثرب المدينة المنورة بمن حل بها.
ولهذا فالشعور متبادل و مشترك من عدة جوانب كلها تصب في العمق وليست مجرد توافقات وتواضعات اجتماعية وتآلف نفسي مصلحي وظرفي.
و عند هذه الحادثة التي كانت في الظاهر سبب إسلام حمزة يمكننا اقتناص بعض المعاني في التواصل الروحي والتحويل الكيميائي القلبي ،الصادر من قلب الرسولs كرسائل نورانية قوية ستخترق قلب حمزة بقوة ضاغطة وتوهج ساطع ،فتجمع له في آن واحد بين مقامي الجمال والجلال الذين فاضا عليه فيضا فبرز بهما معدنه الذهبي الخالص على قاعدة ” تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا “كما مر بنا.
والرواية تصور لنا المشهد الذي يحرك ويفجر بطبيعته الضمائر الحية نحو التضامن والنصرة والغيرة ،وذلك عند عبارة الجارية :”لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم(أبو جهل)بن هشام !!! وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره،ثم انصرف عنه ،ولم يكلمه محمد”.
فالنبي sقد كان جالسا ،أي أنه غير مستعد للمنازلة و لا مهيأ للمواجهة الشخصية ،ومع ذلك جاء أبو جهل بحماقته ونذالته محاولا استفزازه واستدراجه لأن يبادله السب بمثله ومن بعد القتال والرد .وهذا ما قد كان مبتغى الأعداء من قريش ومن ورائهم إبليس اللعين الذي ينتظر بلهف هذه اللحظة لتحقيق غايته،هذا مع أن أبا جهل قد كان لوحده وبإمكان النبيsأن ينازله ويطرحه أرضا ،بدنيا،وبأسرع حركة ،وكيف لا وهو من قد صرع ركانة أشد العرب في الميدان ولم يبذل حينها جهدا يذكر كما تقول الرواية عند مراهنته على الإسلام،قال رسول اللهs:
“أفريت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟. قال:نعم ! قال:فقم حتى أصارعك.قال:فقام ركانة إليه فصارعه،فلما بطش به رسول الله sأضجعه وهو لا يملك من نفسه شيئا،ثم قال
:
عد يا محمد،فعاد ،فصرعه ، ثم قال:يا محمد،والله إن هذا للعجب،أتصرعني؟ قالs:فأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري ”
لكن النبي الشهم الحليمs انصرف ولم يكلم أباجهل من باب الإعراض عنه،وهو مما زادهs رفعة على رفعة وعزا على عز في أعين الشجعان وذوي المروءة ،بل سيكون محركا قويا لهم للانتقام له والحفاظ على مقام الشهامة والشجاعة في عليائه،فكان حمزة هو ذلك المتحرك بحركة النبيs وإيحاءاته القوية بواسطة هذا الموقف النبيل الذي لا يضاهيه موقف:
ولقد مررت على اللئيم يسبني فمضيت ثم قلت لا يعنيني
غضبان ممتلئا علي إهابه إني وربك سخطه يرضيني
فلقد كان هذا الموقف محركا لعنصر الجلال في قلب حمزة حيث أعاد المشهد ليطبقه على أبي جهل انتقاما ويعطيه درسا في الرجولة وعلى نفس الهيئة التي نال بها من رسول اللهs، حيث قد كان جالسا ،ولكن العدو هذه المرة سيكون في ملأ من قومه وهم قادرون على الانتصار له وبإمكانهم البطش بحمزة ،ولكن الشهم لا يبالي حينما يكون ينتصر لشهم مثله أو أعز منه ،فصار حينئذ النصر حليفه،وانقلب الخزي والهزيمة على الظالم الذي سيعترف رغما ورعبا وذلا في النهاية بأنه قد كان البادئ بالشر والتطاول، فهو في النهاية يستحق كل إهانة وقمع وليس له حق الرد على منازله لأنه مقيد بقيود الظلم والعسف فما أثقلها !
وبعد الجلال سيغلب الجمال ويتجلى ! وسيعلن حينه حمزة إسلامه وحبه للنبيs إلى أن يفنى فيه فناء لم يعد معه يرى ذاته من ذاته أخوة روحية راقية،ليس لمجرد أنه كان قد رضع معه ولكن روح حمزة في شهامتها وعزتها هي أقرب ما تكون من روح النبيsللتطابق السلوكي الذي أشرنا إليه من قبل ،حتى قال عنه تفضيلا:” خَيْرُ إِخْوَتِي عَلِيٌّ، وَخَيْرُ أَعْمَامِي حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا”في حديث مرفوع لأبي نعيم عن معرفة الصحابة.
إسلام حمزة بهذه الصورة القوية ،والعنيفة بعنف النور لا النار وبالتحدي القولي والفعلي والحالي، سيجعل حدا للإساءة الفردية والمباشرة للنبيs لغاية أن سيدفع كفار قريش للانتقال مكرهين إلى مرحلة المساومة والمقاومة في زعمهم عن طريق التعجيز وطلب ما لا ينبغي طلبه أو الاستجابة له ،حتى إن :”عتبة بن ربيعة ،وكان سيدا،قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول اللهs جالس في المسجد وحده،يا معشر قريش ،ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا،وذلك حينما أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول اللهs يزيدون ويكثرون”.
موازاة مع هذا فلقد ازداد غيض المشركين ضد المستضعفين من المسلمين كانتقام واستفزاز للأقوياء ممن أسلموا وتحدوهم في العلن ،وهذا أيضا سلاح الجبناء حينما لا يقوون على مواجهة الأقوياء فيلجئون إلى النيل من الضعفاء لملء النقص والعجز الذي يعانونه،فكانت أول شهيدة في الإسلام امرأة ،وهي السيدة سمية ثم تلاها زوجها ياسر رضي الله عنهما تحت التعذيب ،ومن بعدهما أرغم عمار ابنهما، رضي الله عنه، على ما لا يطيق لكي يستجيب لساديتهم في الظاهر ولكنه مع ذلك قد كان مخالفا لمطالبهم في الباطن ومطمئنا على عقيدته ودينه،وله عذره عند الله تعالى:(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) .
عن جابر أن رسول اللهsمر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال:”أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الإسلام .وعن مجاهد قال:أول شهيد كان في أول الإسلام استشهد:أم عمار سمية،طعنها أبو جهل بحربة في قلبها”رواه أحمد.
وهذا يبين بوضوح سوء نفسية الكافر وطبيعتها الانتقامية ومآلها الانهزامي وذلك حينما لا تعود تميز بين العسكري والمدني ولا بين الرجل والمرأة أو بين المستقوي والمستضعَف فتصب جام غضبها وانتقامها عند العجز عن تحقيق الهدف على الجانب الضعيف بالتنكيل والتدمير والتجويع والترويع ،تماما كما يحدث في عصرنا اليوم من حروب لا علاقة لها بالإنسانية ولا تمت إلى العدل والحق بصلة وإنما هي ظلم في ظلام وجهل في كلام وهرج في مرج.
ويكفي الكفار ذلا والمسلمين عزا أن كان أول شهيد في تاريخ الإسلام امرأة وهي أقوى ألف مرة وأكثر من رجل كافر أو منافق مذبذب !