كشف الشعور بين اعتبار الخبير وملاحظة المظاهر
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة المغرب
في حديث حنظلة عند لقائه بأبي بكر الصديق وقوله :” نافق حنظلة “قد يبدو الحوار شعوريا بامتياز بحيث سيستطيع الأستاذ الخبير ،والذي هنا مقام النبوة ومن على منهجها اقتداء وسلوكا ، بهذا المستوى ،أن يستوعب ذاته ويستوعب غيره ممن هو دون مستواه في هذا المجال،حتى إنه قد ينقله من حال إلى حال ويجذبه إلى ذاته بالقرب كما يجذب الجرم الكبير الصغير فيمده من الطاقة الإدراكية والمشاعر بحسب استعداده وتحمله، ناقلا إليه بعضا من أسراره النفسية ومراقيه الروحية ومجلياته الحقيقية من مستوى السماع إلى مستوى المشاهدة أو ما يقرب منها،كما عبر عنها حنظلة بقوله:”يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا”،وهذا فيه الإشارة إلى أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينقل أصحابه من السماع المجرد إلى المشاهدة التجريدية وذلك لما كان يمارسه من إيحاء وجذب روحي بشخصه النوراني، سيصبح الصحابي عنده على مستوى كامل من الشعور بالحقيقة المتضمنة في ظاهر وباطن الخطاب والسلوك أو السيرة النبوية.
هذا العنصر سيمهد لمبدأ منهجي أساسي وهو أن معرفة النفس لا يمكن أن تتأتى على وجهها الكامل العميق إلا عن طريق أستاذ خبير في هذا الميدان له مستوى شعوري دقيق وواسع الامتدادات قد يستطيع أن ينقل حالته النفسية إلى غيره إلقاء وإيحاء.
أولا:- احترام التخصص باعتماد المرجع الأمين في الاستفسار النفسي:
وذلك لأنه قد كان بإمكان أبي بكر أن يعلل أسباب حالة حنظلة أو حالته تعليلا ظنيا وتخمينيا، لكنه رغم ذلك لم يسعه إلا أن يقف عند الظاهرة حتى يتيقن بأنها أولا: شعور عام يمثل قاعدة نفسية عند الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم،و ثانيا :فهي شعور حقيقي وليس وهميا من نسج الخيال والظن.
وحيث أن المزكي المختص موجود، فإنه يكون من باب الأدب العلمي الوقوف عند تخصصه وعدم التقدم بين يديه لإعطاء تفسيرات ناقصة قد تزيد الظاهرة تعقيدا وغموضا. خاصة وأن الظاهرة هاته مصدرها الرسول صلى الله عليه وسلم،لأنه أصل التزكية ومدرسها إلقاء وإيحاء،ومن هذا المقام سيكون هو المرجع الأمين والصادق في إعطاء الوصفات والتحليلات للظاهرة كيفما كان نوعها.
ولهذا لما أتيا إليه يستفسرانه فقد وصفها لهم وصفا حقيقيا، ميز فيه بين الحالة المرضية والحالة الصحية،فأزال المخاوف عن الصحابيين حنظلة وأبي بكر،وذلك لظن الأول وهو حنظلة أن حالته مرضية حتى وصفها بالنفاق، وهو أخطر أمراض النفس وأعصاها استشفاء.
فلقد كان تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للظاهرة بأنها حالة صحية وشعورية بالدرجة الأولى، وأنها تمثل خصوصية يمكن الحفاظ عليها بشرط الحضور في ذكر الله تعالى وملازمة حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،لأنه مذكر بذاته وبحضوره في الذكر كلية كما وصفت حالته سيدتنا عائشة رضي الله عنها بأنه صلى الله عليه وسلم:”كان يذكر الله في كل أحيانه”.
فلقد كان شخصه بهذا الاستغراق الكلي في الذكر مذكِّرا إلقاء وإيحاء،كما نجد الإشارة إليه في قول الله تعالى:”إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر”.
وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الظاهرة قد يؤسس لعلم أو فقه القلوب أو علم النفس، بمعناه الحقيقي والمميز بين الشعور وغير الشعور بدقة متناهية وبوعي استيعابي للظاهرة،لأنها حقيقية منقلة قد يستفيد منها الشخص بحسب استعداده الشعوري وملازمته لأستاذ القلوب.
كما أن إعطاء هذا الإجراء صورة علمية منصوصا عليها في القرآن والحديث سيفتح المجال للأمة الإسلامية كي ترث هذا العلم وتوظفه توظيفا سليما ومقننا،مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:”العلماء ورثة الأنبياء “وقوله صلى الله عليه وسلم:”إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم”.
فملخص القول حول هذا الموضوع هو أن الحديثين قد يمثلان مدرسة نفسية قائمة بذاتها ،جمعت بين الملاحظة الداخلية والملاحظة الخارجية والشعور وغير الشعور ووحدة الظاهرة النفسية وتقنينها وتحليلها باللجوء إلى المحلل النفسي من المستوى الرفيع شعوريا وأخلاقيا،باعتباره مرجعا أمينا في تفسير مثل هذه الظواهر وواعيا كل الوعي بالأحوال ذات الطابع الشعوري الحقيقي والوهمي،وهذا ما قد يمكنه من العلاج السليم وإعطاء كل مستفسر دواءه الخاص به ،عرضية كانت حالته أم مرضية .
ونظرا لقوة وعي وتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته على هذا المستوى التحليلي السليم فإنه قد أورثهم وعيا وشعورا قويا بحركاتهم الظاهرية والباطنية ،حتى إن الجيل الذي أتى بعدهم قد بقي دائما دون مستواهم الإدراكي والشعوري ،رغم التقدم الفكري والتفرع العلمي الذي تحصل عليه بفعل البحث والملاحظة وما إلى ذلك كما سنرى.
بحيث قد أدرك الصحابة أنفسهم هذا الفارق في الإدراك بينهم وبين غيرهم وعلى قرب عهد من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما نجده في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال:”إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الموبقات “.
ثانيا:استكشاف حالات الشعور بالملاحظة الخارجية والمظاهر
وإذا كان هذا المستوى من الإدراك والوعي الشعوري عزيزا ودقيقا قد لا يتأتى إلا بالتأهل الخاص له، مما يتعذر على الكثير التحصل عليه،فإن الإسلام سيؤسس قواعد نفسية تبعية يمكن من خلالها استكشاف بعض الظواهر النفسية التي ستدخل في إطار الظواهر الرئيسية،سواء كانت صحية أم مرضية،وذلك بالاعتماد على ظواهر جسدية أو سلوكية أو كلامية قد تدرك من خلالها خلفياتها وأسبابها كما نجد نماذج منها في قول الله تعالى:”وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون” “أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالهم” “وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون”،”قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا”.
كما نجد آيات قرآنية تصنف لنا انعكاس الأحوال النفسية على المظاهر الخارجية في عالم الآخرة،بحيث يمكن الاستدلال من خلالها على السعادة التي يكون عليها الإنسان حينئذ،كما في قول الله تعالى:” إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نظرة النعيم”.
وفي الحديث النبوي نجد تطبيقا عمليا حول استكشاف الأحوال النفسية عن طريق الملاحظة الخارجية وسبر خلفيات الخطاب ومحركاته ،فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إني لأعرف غضبك ورضاك،قالت:كيف تعرف ذاك يا رسول الله ؟ قال:إنك إذا كنت راضية قلت بلى ورب محمد، وإذا كنت ساخطة قلت لا ورب إبراهيم. قالت : أجل لا أهجر إلا اسمك”.
ولقد سلك الصحابة رضي الله عنهم هذا المسلك في الملاحظة الخارجية وذلك من خلال ملازمتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومراقبة أحواله الظاهرية،حتى إنهم قد أعطوا لنا صورا دقيقة عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم نكاد من خلالها تقريبا أن نتخيل صورته على ما كانت عليه.فنجد مثلا عن عبد الله بن أبي بكر أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني عبد الأشهل على الصدقة فلما قدم سأله أبعرة من الصدقة،قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه،وكان ما يعرف به الغضب في وجهه،أن تحمر عيناه ، ثم قال : الرجل يسألني ما لا يصلح لي ولا له . فقال الرجل : يا رسول الله لا أسألك منها شيئا أبدا” .
وعن بريدة :” أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء ،وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه”.
فرغم فتح المجال لهذه المراقبة الخارجية إلا أنها قد تبقى دائما رهينة بمستوى المراقبة الداخلية ومراعاة الثوابت النفسية العامة والتي قد تنصرف على جل الناس ،ويوظفها كل واحد بحسب تكامل بنيته النفسية أو بحسب تغليبه توظيف جانب على حساب أخر.
لهذا فلقد نجد أغلب النداءات في القرآن والأحاديث موجهة إلى مراعاة الحالة الداخلية للإنسان ومجاهدته لها لئلا تتحول إلى ظواهر خارجية سلبية،إذ رغم التظاهر ببعض الايجابيات الظاهرية فإنها ستبقى رهينة بالموقف الباطني الذي هو مركز الشعور وأساس الاطمئنان المنافي للقلق والحرج كما يقول الله تعالى:”فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما.ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم مافعلوه إلا قليل منهم،ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا”،”وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين “،”يثبت الله الذين أمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا في الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء “،”الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين أمنوا طوبى لهم وحسن مآب”.
من هنا فالتغير السلوكي الظاهري واستقراره الايجابي قد لا يتأتى إلا بالتغير الداخلي وتثبيته بالممارسة الموافقة له كما دلت عليه الآيات، وهو ما نجده كقاعدة عامة ستنطبق على كل الأحوال والمظاهر الإنسانية وذلك في قول الله تعالى:”ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قومه حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم” وقوله:” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما له من دونه من وال “.
وهذا التغيير ما بالأنفس قد لا يتأتى إلا بصحوة نفسية وإرادة قصدية عبر عنها القرآن والحديث بالمجاهدة والتي تجمع بين الظاهر والباطن كما هي قول الله تعالى:”ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين”،”والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”،”يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون،ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك الفاسقون”،”فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى،وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى”،”يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون”.
وعن هذه المراقبة ستتحقق النفس المطمئنة بصفاتها نتيجة وغاية في مقام الرضا كما يقول الله تعالى:”يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”. وتطرح النفس اللوامة كوسيلة حريصة على تحقيق تلك الغاية وكضمير صاح قد يصحح ذاته لتحقيق السعادة والاطمئنان يقول الله في حقها :”لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة “.