عودة الربيع! كيف يقاربها التاريخ؟
بقلم د. محمد بالدوان
تساءلت منذ 2016 حين بدت بوادر الردة عن الديمقراطية والنكوص عن ربيع 2011: هل فعلا انتهى حلم اسمه الربيع؟ أم لا زال للربيع مع خصومه نزال طويل الأمد؟
ما حدث حتى سنة 2021 أبان عن جزر كبير لشعارات الربيع والتفاف كلي على مطالب الشعوب التواقة إلى الحرية والديمقراطية والتوزيع العادل الثروة والقضاء على الفساد…، غير أن مؤشرات أخرى طفت بعد اكتمال 10 سنوات من انطلاق الربيع العربي تبعث على الأمل.
بعد الانقلاب البين على المؤسسة التشريعية في تونس، ما لبث البرلمان الأوروبي أن دعا إلى عودة البرلمان التونسي إلى الاشتغال، وفي السودان حدث نوع من التوازن بين البرهان الذي يمثل مؤسسة الجيش وحكومة حمدوك المدنية، وفي ليبيا توافقت أطراف النزاع على الحل السلمي والديمقراطي فلجأت إلى تنظيم الانتخابات، وفي المغرب، بعد عودة رموز الفساد إلى مواقع التسيير انطلقت احتجاجات منتظمة على خلفية رفض اجبارية التلقيح والغلاء…
دعوني أجوب بكم محطات من التاريخ، مع بداية التاريخ المعاصر جوبهت ثورات الشعوب الأوروبية التي قامت من أجل التمكين لمبادئ الثورة الفرنسية، بشتى أصناف القمع من قبل “الحلف المقدس” خلال ثورات القرن 19م، وكانت النمسا، قائدة هذا الحلف، تسارع الزمن وتطوي المسافات بجيوشها لوأد ثورات إيطاليا وفرنسا وألمانيا مخافة وصول شرارتها إلى فيينا.
لو قدر لأحدنا معاصرة الثورات التي انطلقت في أوربا منذ 1830، وشاهد حجم القمع والدمار الذي تعرضت له الحركات القومية المطالبة بوضع الدساتير واحترام حريات الصحافة والرأي وتأسيس الجمعيات…، لاستحال في عقله انبعاث هذه الحركات من جديد، ولجزم بزوالها إلى الأبد، لكن سرعان ما نهضت بل أخذت منحى أكثر عزما وامتدادا.
بحلول سنة 1848 انطلقت ثورة من بلدة صغيرة بإيطاليا فحققت نتائج مبهرة، ولم يجدر بفرنسا مهد الثورات السياسية أن تبقى هامدة، فثارت لتسقط حكم الملك”لويس فليب”، ثم تصاعد لهيب الثورات إلى أن وصل النمسا معلنا عودة الربيع. وانتهى هذا المخاض بانتصار قيم الحرية والديمقراطية، وكان ذلك مؤسِّسا لتاريخ أوروبا المعاصر.
مر على الربيع الأوروبي زهاء قرنين من الزمن ليصل العالم العربي-الإسلامي، إذا ما استثنيت ثورات التحرر من الاستعمار، فهل يعقل أنه إذا جاء، بعد طول انتظار، ارتد وانتكس؟
إن الناظر إلى الفترة التي تَجَدَّد فيها الربيع الأوروبي، يلاحظ أنها تتأرجح بين العقد والعقدين، ولست أدعي بأنه بعد التجدد لم تأت فترات نكوص ديمقراطي، فشأن ذلك شأن دورية الأزمات الاقتصادية، إنما يبقى الاتجاه العام دوما تقدميا نهضويا.
وتكاد تكون قاعدة الزمن الانتقالي في مرور 10 سنوات، ومثال ذلك يمكن استنباطه من أواخر التاريخ المعاصر، إذ بعد ولادة النظام العالمي الجديد سنة 1990، مرت زهاء عشر سنوات ليصدم العالم بحدث تفجيرات 11 شتنبر 2001، الذي كان الغرض منه تجديد هذا النظام مع “جورج بوش” الابن وضمان استمراريته، ومع ذلك لم يصمد لعشرية ثانية كاملة إذ فصلها “باراك أوباما” الذي شهدت ولايته الاولى اندلاع ما عرف بالربيع العربي.
انطلق الربيع العربي أيضا ببلد صغير(تونس) سنة 2011، وأطاح بمستبد عَمّر في الحكم سنين عددا، ثم بعد ذلك لم يجمُل بمصر القاهرة أن يستخف بها الاستبداد، فانتفضت لتنهي حكم مبارك، فعم الربيع باقي البلدان العربية -الإسلامية بدرجات وأشكال متفاوتة.
وبعد مرور 10 سنوات حدثت تراجعات مفصلية، وفي ضوء المستجدات التي أحصيت بعضها في مستهل مقالتي، هل بإمكان الربيع استئناف مهامه النبيلة؟ وهل سيعود للحرية والديمقراطية والتعدد والاختيار الحر ودولة المؤسسات ذلك التوهج الذي عشناه بحلول سنة 2011؟
أكدت التجارب الانسانية للباحث أن كل ذلك في الممكن، لكن أخشى أن يخذلنا التاريخ بالتردد إزاء بعض قوانينه، وأن يخلف ميعاد الإنجاز، وهذا ما يدعو إلى التساؤل: هل سيعود الربيع بعد عشرية أم عشريتين أم أكثر؟ ذاك ما سيجيب عنه القادم من الأيام.