هل تتدخل السلطات المعنية لمنع استغلال الأطفال الصغار في التسول وحمايتهم من أولياء أمورهم؟
عبدالقادر كتــرة
بعد أن أعياها ترديد الكلام الذي لا يفيد وسائق سيارة لا يريد والإلحاح العنيد للظفر بنصف درهم، تتنقل الطفلة الصغيرة الشقية، ذات الأربع أو الخمس سنوات، كعصفورة بين فخاخ سيارات مستغلة توقفها عند إشارة الضوء الأحمر، غير عابئة بمخاطر الحوادث الطرقية… تستعطف السائقين المتوقفين وهي تطلّ عليهم من خلال زجاج النافذة التي تحجب عنها النظرة لصغر قامتها فتحاول الوقوف على أصابع رجليها…” ياك أعمي ياك… ياك أعمي ياك… ” عبارات يُغَلِّفُها استدرار للشفقة والعطف أمام أعين والدتها أو السيدة التي تستغلها والتي جلست بعيدة عن الطريق عند عمود كهربائي تنتظر ما تجود به الأيدي التي قد تحمل درهما أو درخكين …إشارات برأس أو حركة بيد أو إمساك عن الكلام من أصحاب السيارات تعبر عن الرفض وتُعَمِّقُ يأس الصبية فتدلف إلى الضوء الأحمر إلى الطريق الآخر…
كم من طفل وطفلة في وضعية الصغيرة يجوبون الطرقات والشوارع والمقاهي و”يحتلون” أبواب القيساريات وساحات الأسواق تحت الشمس الحارقة وفي لفحات الرياح القارسة في ظروف عيش بئيسة. هؤلاء الأطفال الصغار الذين تتراوح أعمارهم من الرضيع الذي يؤثث سواعد أمهات (؟!) في مشهد استجداء ويتخذ وسيلة استعطاف، إلى الطفل ذو ال16 سنة في الأسواق لبيع أكياس البلاستيك وحمل “الأثقال” من القفف ودفع أو جرّ عربة، خرقا للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وضدا على حقوق الطفل الذي وقعت عليها بلدان العالم من ضمنها المغرب من حماية لكرامة الطفل إلى واجب تربيته وتعليمه إلى تحريم تشغيله وتجريم مشغليه.
كم تمنوا مداعبة أقلام داخل محفظة وتلوين رسومات من خيالهم على صفحات بيضاء من دفاترهم وملامسة صور جميلة من كتبهم؟ كم حلموا بالركض في ساحة مدرستهم والعدو وراء زملاء وزميلات من فصلهم والسقوط والنهوض ونفض الغبار عن أزيائهم؟ كم حلموا أن يُسألوا مرة عن مِهَن سيحترفونها في مستقبلهم ليجبوا بكل براءة ويقين :”أطباء” أو “مهندسون” أو ” محامون” أو “قضاة” أو “وزراء” أو…؟ لا حق لهم في الحلم لأنهم لا يعرفون النوم على أسرة وثيرة … كوابيس يقظتهم يغذيها واقع لا شك أن مستقبله معروف ومضمون ومسطر .
أطفال صغار محكومون بالواقع المُرّ المؤبد وبالأشغال الشاقة بحكم من أوليائهم بسبب العوز والحاجة والجهل وبتأييد من قضاء المسؤولين بلامبالاتهم، داخل سجن يستحيل تخطي أسواره ولا حفر أنفاقه ولا الفرار من شباكه، يعيشون في ظروف قاسية وخطيرة مهددون في كل بدقيقة بالأمراض والحوادث الطرقية والتعنيف ..
من المواطنين من يتأثر بالمشهد فتسمعه يردد “مسكينة، الله يكون في العون… مسكينة” أو “الله يجعل العاقبة على خير…”، وآخرون لا يعيرون لها اهتماما بل يجهلون أو يتجاهلون وجودها، بحكم كثرة عددهم وتنوع الوسائل والطرق الخادعة التي يسلكها عدد كبير من المتسولين حتى أصبحوا يضايقون المارة والوافدين على الأسواق أو المتاجر أو المساجد أو المقاهي أو أي فضاء للتجمعات…
إحصائيات رسمية، وضعت المغرب في صدارة الدول العربية التي تعاني من ظاهرة التسول، حيث أن عدد المتسولين يصل بالمغرب إلى حوالي 195 ألف متسول، متبوعا بمصر بـ 41 ألف متسول، وتأتي الجزائر في المرتبة الثالثة بمجموع 11 ألف متسولا.
وكان موضوع ظاهرة التسول مصدر نقاش مستفيض بمجلس المستشارين، الثلاثاء 4 يونيو 2019، حيث أجمع كل المتدخلين بمجلس المستشارين، بأن ظاهرة التسول تقتضي إيجاد حلول اقتصادية واجتماعية، لكون تحسين هذه الظروف يكون سببا مباشرا في الحد من ظاهرة التسول أو تخفيض نسبتها العامة، التي ترسم أرقاما مهولة على الصعيد الوطني.
وفي هذا الصدد، أبرز الأستاذ الباحث في علم الاجتماع، علي شعباني، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن هذه الظاهرة الاجتماعية أصبحت ممارسة خطيرة وفي تطور مستمر في المغرب، فكل فئات المجتمع، من جميع الأعمار ومن الجنسين، فتيات ونساء ورجال وكبار السن يمتهنون على حد سواء “مهنة التسول”.
وأشار عالم الاجتماع إلى أن “التسول يعرف تزايدا لأسباب وعوامل مختلفة ومتعددة”، مسجلا أن ظاهرة التسول أثبت، من وجهة نظر اجتماعية، ومنذ فترة طويلة، أنها حرفة تدر دخلا هاما لا يتطلب شهادات أو جهدا.
وأوضح أن بعض المتسولين الذين يرفضون عروض عمل يتلقونها من المصانع أو المطاعم أو غيرها، معتبرين أن مد اليد يتيح لهم كسب دخل يومي مهم يتراوح بين 250 و300 درهم كحد أدنى.
وفي هذا الإطار، قامت وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة باتخاذ تدابير مختلفة للقضاء على هذه الظاهرة. ويتعلق الأمر على الخصوص، بإطلاق الوزارة بتعاون مع رئاسة النيابة العامة والقطاعات الحكومية والمؤسسات الوطنية المعنية والجمعيات في نهاية سنة 2019 وبداية 2020، “خطة عمل حماية الأطفال من الاستغلال في التسول”، بغية وضع منظومة متكاملة لحماية الأطفال من الاستغلال في التسول، تشمل الحماية القضائية والتكفل الطبي والنفسي والرعاية الاجتماعية وإعادة الإدماج في مؤسسات التربية والتكوين.
حصيلة هذه التجربة، التي تأتي في إطار “خطة عمل حماية الأطفال من الاستغلال في التسول”، بفضل “العمل الجماعي، وانخراط جميع الفاعلين، من أجهزة أمنية وقضائية، أثمرت، خلال الفترة من نهاية يوليو إلى 15 دجنبر الماضي حماية 45 طفلاً من التسول، ليصل العدد الإجمالي منذ بداية الخطة قبل 14 شهراً، إلى حماية 142 طفلاً، يتوزعون بين 79 من الإناث و63 من الذكور”، حسب جميلة المصلي وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأُسْرَة
وأشارت الوزيرة إلى أن أهم تحدٍّ واجه عمل فرق العمل في الميدان هو “الإيواء الاستعجالي المؤقت” للأطفال، وقالت إنه جرى توفير قاعدة للمعطيات حول الأماكن الشاغرة في مجال الإيواء المستعجل بالرباط وسلا وتمارة، وجرى وضعها رهن إشارة رئاسة النيابة العامة، حيث تبين توفر 303 أماكن شاغرة في 11 مؤسسة للرعاية الاجتماعية للأطفال إلى غاية أول أكتوبر الماضي.
من جهته، كشف محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة في المغرب، حسب ما أوردته جريدة الشرق الأوسط، أنه منذ نحو 14 شهراً على إطلاق الخطة، تعاملت السلطات مع 142 قضية تهم استغلال الأطفال في التسول بمدن الرباط ونواحيها. وقال، خلال اجتماع لجنة القيادة التي جرى تشكيلها للإشراف على تنفيذ خطة حماية الأطفال من الاستغلال في التسول، إنه صدرت قرارات تناسب كل حالة “سواء تعلق الأمر بإرجاع الطفل إلى وسطه الأسري”، أو “إيداعه في مؤسسة للرعاية الاجتماعية إن تعذر الإرجاع للوسط الطبيعي”، كما تم التحقق من هويات بعض الأطفال، وتسجيلهم في سجلات الحالة المدنية للمساعدة على ولوجهم إلى المدارس، كما جرى التنسيق مع خلايا المساعدة الاجتماعية التابعة لـ”مندوبية التعاون الوطني” (مؤسسة حكومية تهتم بالمساعدة الاجتماعية) من أجل دعم بعض الأسر المحتاجة، التي دفعتها الحاجة إلى استعمال أطفالها في التسول.
وإضافة إلى ذلك، كشف رئيس النيابة العامة عن تحريك المتابعة القضائية في حق مستغلي الأطفال في التسول، مشيراً إلى أنه صدرت بالفعل أحكام في العديد من القضايا. وينتظر أن يجري تعميم هذه التجربة على مدن مغربية أخرى؛ بهدف الوصول إلى “مدن خالية من تسول الأطفال”.