مشاهدُ الألم: حين لا تُسْعِفُ الكلمات
كمال الدين رحموني
في فجر يومٍ بعد العودة من مسجد الحي، وقع البصر على امرأة عجوز، فاقَمَ شيخوختَها ثخانةُ جسم مُترهّل، وكآبةٌ تَشي بها أساريرُ وجْهٍ عَلَتْهُ تجاعيدُ السنين الخوالي. جلستْ على حافة طِوار قارس، تحمل بيديها شيئا، لكن سرعان ما أوعزت لإحدى الفتيات المرافقات باقتناء شيء من دكان قريب اعتاد أن يفتح بابه مع تنَفُّس الصُّبْح. أسرعت الفتاة إلى الدكان، لتأتيَ العجوزَ بعلبة “سدرين” مُعلّبَة، وضعتْها في كيس، وجلست تنتظر. تململت بصعوبة لعلها تقف برويَّة، أرسلت خُطواتها الأولى، تعثّرت حركةُ المشي لديها. ظننتُها تترقَّبُ سيارةً تركَبُها، لكنّ السيار التي توقّفت بالقرب منها لم تكن سوى شاحنة، نزل منها سائق شاب،توجَّه نحو المرأة مُرحّبًا، توقّعتُ أنْ يفتحَ لها البابَ الأيمنَ المجاورَ للسائق تقديرا لسنّها وإحساسا بعجزها، لكنني صُدِمتُ حين توجّه السائق الشاب إلى مؤخرة الشاحنة، صعد إليها، ثم أنزل سُلَّمًا حديديًّا من أربع أو خمس درجات حتى تتمكن العجوز من الصعود إلى “بهو”الشاحنة المكشوف الذي اعتادت النساءُ الركوب فيه منذ زمن للتوجه إلى محطات تلفيف الحوامض. حملتْ العجوزُ نفسَها كَرْهاً بعد كَرْه، وكأنه كَرْهُ الحمْل الذي ذاقته فيما مضى، جاهدتْ نفسَها بِـخُطىً وئيدةٍ نحو شاحنة تجرّدت من كلِّ إحساس، وأنّى للجماد أن يشعر بالألم حين يتجرَّد منه الإنسانُ نفسُهُ ؟ وضعت العجوزُ القدمَ على الدّرج، تُحاول الصعود، تكابد وهي تتلقى عبارات المواساة من السائق، ظلّتْ تقاوم الصعود وتتحسّر على زمن شبابٍ خانها، تَستحضرُ يومَ كانت فتاةً غَضّةً طريّة، تسرح وتمرح مع قريناتها، تجري وتقفز، يومَها لم تكن تتوقَّعُ أنها ستصيرُ -بعد أرذل العمُر- إلى زمَنٍ يَعُقُّ الكليلَ، ويُـمْعِنُ في تعذيبِ ذي الشّيْبَةِ الكبير حين تغيب الرحمةُ، فتصبحُ منسيةً أو منبوذةً في مجتمع تحتفي فيه حقوق الإنسان بالمرأة، وترفع شعار مقاومة العنف الذي تتعرض له.وهل من عُنفٍ أنكى من أنْ تصيرَ نساءُ البلد وعجائزُه إلى هذا الدَّرَك من القساوة ؟ بعد مغالبةٍ ومشقّة، استطاعت العجوز امتطاء الشاحنة، وكأنها حقّقت حُلمَ يومٍ كاد ينصرم لو أنها تأخّرت عن الموعد، أو أنّ السّائقَ لم يَأْبَـهْ بها وهو يترصّد أماكنَ الانتظار التي تتجمَّع فيه نساءٌ أُخرياتٌ ينتظرن الشاحنة بتلهُّف. ظلّت العجوزُ تنظر ِبِتَرقُّب، وفجأة، عَمّتْها فرحةٌ عابرةٌ:” الحمد لله، لقد حضرت الشاحنة، لقد ضَمِنْتُ أجرةَ يومٍ جديد في محطّة من محطّات تلفيف الكبار الذي يستأثرون بالمنافع والمغانم، ويُلْقون بِدراهمَ معدودةٍ على نساءٍ صِرْنَ ضحايا مجتمعٍ لا يراعي سنًّا كبيرا، ولا يُقدِّر جهدا، ولا يعطي حقا، و لا يحترم كرامة. كان المشهدُ ينضَحُ بكل معاني الجحود الذي لا زال يتكرّر ويأْبـى التواريَ، وكأنّ قومَنا لم يَعُدْ لهم إحساسٌ ولا مشاعرُ بعد التجَرُّدِ من قيم الدين والوطن، والرُّكون إلى حصون عاجية، والانـحِباسِ في أجساد سرعان ما ستصبح بالية، والتَّوَهُّمِ بالخُلود في دنيا الناس الفانية، ونِسْيان العَرْضِ َيوْمٍ لا تخفى من الإنسان خافية. أمام هذا المشهد المريع، نازَعتْنى النفسُ اللّوّامة، وتخيَّلتُ أنّ ذاتًا مُوازيةً تُسائلني عن حجم المأساة، وجسامة المسؤوليات، وخطورة التَّبِعات، وتذكّرْتُ يَومَ قال الفاروقُ: ” لو أنَّ بغلةً عَثرتْ بالعراق لَـخَشِيتُ أنْ أُسألَ عنها: لِمَ تُسَوِّ لها الطريقَ يا عمر؟” أيُّ إحساسٍ هذا؟ أيُّ هَلَعٍ هذا ؟ دابَّةٌ من دوابِّ الأرض لاتَعْقِل، لاتُدْرك، وربّما لاتُـحِسُّ كما يُـحِسُّ ابن آدم، ومع ذلك ظلّ الخوفُ من إهمالها هاجسا يؤرقُ عمر، فكيف بمن لا يَهْتَزُّ له جَفْنٌ، ولا يقشَعِرُّ له بَدَنٌ، ولا يَجِلُ له قَلبٌ، بل مَنْ لا يُـخالِـجُه شعورٌ بالأسى والألم، حين تصبح نساؤنا وعجائزُنا عُرضةً في “موقفٍ” يوميٍّ يُعجُّ بكائنات بشرية تُطاردُ قوتاً مُستعْصِياً، وتُغالِبُ زمناً قاسِياً، لعلها ” تَظْفَر ” بِلُقَيْماتٍ تنتظرها أيّاماً وأشْهُراً، تترقّبُها بشوق أفواهٌ صغيرة وبطونٌ جائعة؟ فهل يبقى لكل مسؤول حُجَّةٌ، وهل تنفعُ العللُ والمبرِّراتُ أمام امتهانٍ للكرامة، وظلمٍ في التوزيع، واستئثارٍ بالثَّروة. غالبتُ دموعا بقدر ما هي عنوانٌ عن حزنٍ آسِرٍ، لكنها تعبيرٌ عن عَجْزٍ مُكَبِّل، وما أصعبَ أنْ يُهَيْمِنَ الإحساسُ ويسْتَعْصيَ الفعلُ.
تلك خواطرُ من مشهد مؤلم، لكنّها تبقى كلماتٍ لا تُسْعِف، ربَّـما تُخفف عن ذاتٍ مكلومة، لكنها لا تغدو أن تقْلبَ صفحةً أخرى من صفحات المآسي والألم، على أمل مُشرقٍ، ” يَـرَوْنَهُ بعيدًا ونراه قريبً.