الإسراء والمعراج على محك التحقيق المعرفي واختبار الصديقين
أولا:الإسراء والمعراج كأعظم رحلة كونية بين الحقيقة والخيال
يكاد الباحثون يجمعون على أن هذا الحدث العظيم قد وقع بعد تراكم المصائب والعوارض على حياة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء من وفاة زوجته السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ثم رحيل عمه أبي طالب ،الذي كان لا يألو جهدا في نصرته وحمايته ،وكذلك بعد الرد العنيف من أهل الطائف ودخوله في جوار المطعم بن عدي، وعند تكثيف الجراءة والإذاية ضده من طرف قومه الذين كانوا ألد أعدائه وأشد مناوئيه.
ولقد كثرت الروايات والصيغ في عرض قصة الإسراء والمعراج ما بين مقل ومكثر وموجز ومفصل وحذر وسارح ،قد يمتزج فيها الحق بالباطل والواقع بالخيال والأدب بالفكر والمبالغة بالتقصير ،وهكذا كدليل على أن الحدث عظيم ويستحق كل هذا الاهتمام والتفهيم ، كما أن له قيمته وسعته قد توازي سعة الأكوان والأرجاء التي طافها النبيs رحلة وطول مسافة، حيث الدقة وكثرة الحقائق والمعنى وعمق الرقائق التي عايشها ولامسها في تلك الساعة من الليلة وأية ليلة هاته !.
فقد يكون الإسراء باعتباره مسارا أفقيا هو أقل الأضلاع مسافة في هذه المعادلة والرحلة الهندسية المتكاملة مع المسار العمودي الأوسع مجالا والأفسح مساحة، ومع هذا فقد يؤسس ما قد يصطلح عليه بالزاوية القائمة التي تمثل الوسط الهندسي والمرجع الرئيسي لكل الزوايا المتبقية من حادة ومنفرجة وغيرهما، طالما أنها كلها ترتكز على النقطة أصل الخط ومنبعه .وليس هناك أقوم من الوجود الكوني المرئي كقاعدة ومنطلق نحو قياس العالم غير المرئي، وهذا ما قد يصطلح عليه بقياس الغائب على الشاهد عند المتكلمين والمناطقة عموما.
قلت: إن الإسراء بالنسبة إلى المعراج لم يكن سوى نقطة الارتكاز لفتح المجال نحو التطلع إلى هذه الرحلة اللانهائية والتي قد تتخطى كل قواعد الزمان والمكان والواقع والإمكان، وتضع قواعد الجاذبية والفيزياء على محك الامتحان والزمن في دائرة النسبية وأوجه التوافق والتطابق.
ومن هذه التلميحات، التي قد نجر إليها جرا ،فمسألة الإسراء والمعراج تمثل مجمعا معرفيا ستتداخل فيه التخصصات والخصائص والثوابت والمتغيرات بالمواقف وتتلون السلوكيات والمعارف عند الحقائق والمجازات ،وتتكامل العقائد مع التشريعات، ويتواصل عالم الأحياء مع عالم الأموات وما هو كائن وكان وآت .
ومن هنا فليس الموضوع مجرد رحلة بسيطة أو حدث عابر ،ولا هو أيضا محطة في مسيرة أو حلقة في سيرة،وإنما هو بحر لا ساحل له ومجال أوسع من كل تصور وخيال ووصف أو استدلال .
وكيف لا؟ وهو قد اندمج مع عالم سيصفه القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بأنه عالم الخصوصية : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)) وأنه فيه:”ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”.
ومن هنا فإدراج الإسراء والمعراج في مواضيع السيرة النبوية قد لا يتركنا على اعتدالنا ملتزمين التخصص ،وإنما سيجرنا شئنا أم أبينا نحو الانسياب في الوصف واستكناه المغالق، والتردد بين الذوق والشوق ،والتطلع بكل حنين إلى عالم الفوق .ومع كل هذه الجاذبية فقد نعمل ونجتهد ما في وسعنا بالتزام التحفظ والاختصار وحصار الأشواق والخيال والألفاظ ،حتى لا نطير أو نستطار فنتيه من غير كوابح وننحرف عن المسار.
فالنص القطعي في المسألة قد جاء ابتداء وجملة من القرآن الكريم ،مخصصا سورة هي الإسراء بعينه في قول الله تعالى :” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ “.
فالآية مختصرة ومجملة ،ودالة على الغاية الأساسية من هذه الرحلة النبوية نحو :”وأن إلى ربك المنتهى”. وهي تتضمن التنزيه لله تعالى وإثبات القدرة والإرادة وصفات الكمال من سمع وبصر.وبهذا فالمحور فيها هو معرفة الله تعالى ،معرفة كاملة سليمة وصحيحة، وتوحيده التوحيد الخالص بالاعتراف بألوهيته وربوبيته ،وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن العوارض والعوائق والعجز والنقص وكل قوادح الكمال .
وهذه المعرفة قد شملت توحيد الذات والصفات والأفعال ،فليتأمل المتدبر في الآية سيجد هذه المعاني جلية وواضحة كل الوضوح.أما تفاصيل الرحلة وتنوع المحطات فليست إلا منحا وتنوع مشاهد مما يستلذ به ويستأنس به المسافر في طريقه من غير الوقوف أو العدول عن غاية وهدف الرحلة.
فالرحلة قد انطلقت بالليل وانتهت بالليل ،أي أنها غيب في غيب، ولا يحيط بكل أسرارها إلا مالك هذا الغيب الذي قد يطلع على بعض منه من ارتضاه من عباده الرسل خصوصا.كما أنها من حيث المكان قد حددت المحطة الرئيسية ،من المنطلق إلى المنتهى، أفقيا ثم عموديا كإشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة ،بين عالم الأرض وعالم السماء لكمال المعرفة .
وهذا التطابق يؤكد محورية “المسجد الأقصى” في سيرة النبيsوعند المسلمين اعتقادا وتعظيما، وذلك باعتباره مكانا مقدسا متطابقا ومتلاصقا مع المسجد الحرام في وظيفته وقيمته ومؤداه المعرفي إلى العروج نحو عالم الملكوت ،ملكوت السماوات والأرض.
والتطابق هنا قائم في تسمية المسجد الحرام بنفس تسمية المسجد الأقصى ،أي يوجد وصف جامع بينهما يرتكز على صفة المسجد بالدرجة الأولى لا غير.أي أنه ليس بهيكل ولا قصر ولا دير ولا كنيسة .وهو بهذا الوصف يكون ملكا لله الذي هو أعلم حيث يجعل رسالاته.وهو ملك لرسله الذين هم أولى باستخلاف ملكيته وتحقيق أمر الله فيه عبودية وخضوعا وتعظيما وتقديسا.
فلا للسياسة ولا للملك الدنيوي وحسابات أصحاب المادة والزخارف أي دخل أو حق التصرف فيه بغير حق أو تحويل وظيفته ورسالته لأغراضهم واحتيالهم،كيفما كان حال هؤلاء وأولئك، أفراد أو جماعات ودول .كما أنه بحكم ختم النبوة والرسالة فقد بقي أتباع آخر نبي ورسول هم المسئولون عن حمايته وحفظ وظيفته وحرمته ،وليس هؤلاء سوى المسلمين لا غير.بحكم النص الديني والتاريخ والتسلسل النبوي الذي لا نبي فيه بعد سيدنا محمدsخاتم الأنبياء والرسل .
في حين قد نجد في آية الإسراء إشارة ضمنية إلى مسألة المعراج مفتوحة على مصراعيها ،إذ لم يكن المسجد الأقصى هو الهدف النهائي من الرحلة وإنما مثل المحطة التي منها سيمر المعراج إلى عالم الملكوت ،كما أنه سيكون مجمع أغلب الأنبياء ممن لهم نسبة ما ،أو ترقوا وتم لهم الفتح من خلال هذا المكان ،وبالضبط في عين الزمان، ألا وهو الليل الذي فيه تتحدد النسبية ويتفاوت الشعور باجتيازه سرعة وبطء، بحسب المقام ونوع الرحلة بعدا أو قربا.
وهذه الإشارة تتجلى في قول الله تعالى:” لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ “.حيث القصد والغاية الرئيسية من الرحلة.
ثانيا:الإسراء والمعراج وتكامل الروحي والجسدي في الرحلة
فالآيات ستنص عليها سورة النجم في دلالة واضحة على حدوث المعراج قطعا وذلك بالتناسب مع الإسراء ،كما هي دالة على أن كليهما قد كان بالروح والجسد معا وليس أن الأمر مجرد رؤيا منامية ،أو أنها سبح روحي محض . يقول الله تعالى :” وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)”.
بحيث إن رؤية الرسولs لجبريل عليه السلام في هيئته التي خلقه الله عليها كانت في مرحلتين كما دلت عليه النصوص وهما: ليلة البعث أو بعدها عندما ذهبsعند أهله وهو يقول “زملوني زملوني” ثم في هذه الليلة التي تحيل على النزلة الأخرى .كما أن قول الله تعالى :”لنريه من آياتنا “قد يتطابق ويتوافق مبدأ وغاية مع قوله تعالى:”ولقد رأى من آيات ربه الكبرى “.وهذا فيه دليل ما بعده من دليل على أن المعراج قد وقع في نفس ليلة الإسراء بالالتزام والتضمن ،وأن المعجزة قد حصلت بالجسد والروح معا .
ونظرا لسعة مجال هذا الحدث العظيم والحقيقة ذات المساحة الشاسعة فيه فإن الروايات الوصفية والحاصرة له ستختلف من شخص لآخر بحسب استيعابه وذوقه وعمق عرفانه واغترافه، وكذلك بحسب مذهبه في التفسير والرواية .
ولهذا فقد تعددت الروايات وتنوعت وتداخلت بشكل شبيه بقصة شق الصدر الذي يعرف نفسه مرحلتين ،كما سبق وبينا في الكتاب الأول من سلسلة فجر النور ،وهي :مرحلة الصغر والطفولة حينما كان صلى الله عليه وسلم في حضانة السيدة حليمة السعدية،وهذه اللحظة المعِدة للعروج إلى الحضرة الإلهية.
وفي هذا التنوع الروائي يقول ابن إسحق :”كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم :عبد الله ابن مسعود،وأبي سعيد الخدري ،وعائشة زوج النبيs،ومعاوية بن أبي سفيان،والحسن بن أبي الحسن ،وابن شهاب الزهري ،وقتادة ،وغيرهم من أهل العلم ،وأم هانئ بنت أبي طالب،ما اجتمع في هذا الحديث ،كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمر ه حين أسري به s،وكان في مسراه وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه ،فيه عبرة لأولي الألباب ،وهدى ورحمة وثبات لمن آمن به وصدق وكان من أمر الله على يقين ،فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد ،حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يضع بها ما يريد “.
إنه لتعبير بليغ هذا الذي أدلى به ابن إسحق :”فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد” ،وفيه رد على أولئك المترددين كتردد من سبقهم حول التصديق بواقعية الإسراء،الشيء الذي سيحدث موازين جديدة في باب التسليم والتصديق حيث التفاوت في المقامات والقربات، كان على رأس القائمة حينذاك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
فلم يكن الجدل القائم لدى البعض حول هل كان الإسراء مناما أم يقظة ،جسدا أم روحا مجردا سوى تعبير عن قلق نفسي حيال الموضوع وعدم استيعاب لمقتضيات المقام ،شبيه بتلك المواقف الماضية سواء لدى كفار قريش وصناديدهم أو حتى عند بعض المؤمنين ممن لم تترسخ لديهم عقيدة التسليم المطلق والتعظيم للمقام ومقتضياته.
ولم نجد أجمل تصوير لهذا الامتحان ومستوى التنقيط عليه والنجاح فيه من هذا الحوار العلمي بالدرجة الأولى وما يتضمنه من قضايا فكرية ونفسية وفيزيائية وفلسفية جد معقدة وراقية ، يقول ابن هشام في السيرة :”فلما أصبح – أي رسول اللهs- غدا على قريش فأخبرهم الخبر فقال أكثر النا س هذا والله الأمر البين ،والله لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة ،أ فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟.
قال:فارتد كثير ممن كان أسلم ،وذهب الناس إلى أبي بكر ،فقالوا له :هل لك يا أبا بكر
في صاحبكم ؟ يزعم انه قد جاء الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة!! قال لهم أبو بكر :إنكم تكذبون عليه .فقالوا : بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس ،فقال أبو بكر :والله لئن قاله لقد صدق ،فما يعجبكم من ذلك ؟فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ،فهذا أبعد مما تعجبون منه،ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول اللهs فقال:يا نبي الله أحدثت هؤلاء القوم أنك أتيت بيت المقدس هذه الليلة ؟قال :نعم قال:يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته.قال الحسن:فقال رسول اللهs:فرفع لي حتى نظرت إليه،فجعل رسول الله كلما وصف منه شيئا قال:صدقت يا رسول الله ،قال حتى انتهى ،فقال رسول الله لأبي بكر :”أنت يا أبا بكر الصديق”فيومئذ سماه الصديق”.
هذا الحوار قد يمثل في الحقيقة محور السيرة والغاية منها وقطف ثمراتها والاستمتاع بنتائجها.إذ فيه يتجلى معنى الصحبة الحقيقي وأثر الصاحب على مصاحبه والتزامه بعدم التخلي عنه أو خذلانه في ساعة العسرة ولحظة الامتحان الشديد.
ولسنا الآن بصدد التفصيل في قضايا الإسراء والمعراج وما ورد فيهما من حقائق وخوارق وغرائب وعجائب ،فهذا قد يدخل في حكم المعرفة العقدية والإخبار بالمغيبات التي لا سبيل إليها إلا الدليل القاطع والثبوت الناصع وهذا لا يتم إلا بالنص وليس غيره.
وحتى إن كان بعض الرواة قد نسجوا خيالات حول النصوص القطعية في هذه المسألة فما ذلك إلا بمثابة ما عبر عنه طه حسين في روايته:”على هامش السيرة”،أي أنه خطاب أدبي وروائي منذ البداية ،وهو من نسج الخيال وتشويق النفوس واستشراف الغيب والجمال، ولكنه في نفس الوقت يستظل بظلال النص ولا يعارضه من حيث المبدأ أو العقيدة،وإن كان هذا السرد لا يوافق الحقيقة في بعض منحدراته.
إذ هنا يمكن أن نميز بين مخالفة العقيدة ومخالفة الحقيقة ،وذلك لأن الأولى مصيرية وأساس كل حقيقة ،وخاصة فيما يتعلق بالله تعالى ودينه وأنبيائه ورسله والملائكة واليوم الآخر…
لكن تفاصيل العالم الغيبي في سعته وتنوع أشكاله يمكن اعتبار أنه لا يمثل إلا حقيقة واحدة عند التأمل، وهي أنه قد يوجد عالم آخر غير عالمنا،وهذه عقيدة مجملة ،وأما طرق تصوره فهذه حقيقة ،إذ كل واحد سيتصوره بحسب مخياله واستيعابه طالما أنه لم يره ولم يصل إليه حسا وواقعا وجوديا.وهذا ما أقره النبيs حول الجنة ومحتوياتها :”فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر “.
فأبو بكر قد كان مصدقا عقيدة وحقيقة، وكانت العقيدة أسبق لديه من الحقيقة ، ولكن هذه الأخير ة لم يوظفها أو يستند عليها إلا بعد الأولى وذلك حينما قال:”يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته”.
وهنا اكتمل العرفان واجتمع علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين في الحين والآن المعرفي، وهكذا تحقق الكمال المعرفي بكمال الحال والمقال والمقام، فكان كمال الصدّيق ينبني على كمال العقيدة والحقيقة .وكيف لا والصديق هو صاحب القاعدة المعرفية المنسوبة إليه والمعبرة عن سر العرفان واستشراف الحقيقة خارج دائرة الزمان والمكان وهي:”العجز عن درك الإدراك إدراك”.
هذا المعنى ربما يكون قد بَنى عليه أهل السلوك والعرفان مبدأ وحدة الشهود وتأسيس ركن كمال الحقيقة والشريعة ،والذي يقتبسونه من المقام المحمدي الجامع لكل هذه الكمالات ،والمفيض إياها على كل من صاحبه بصدق وإخلاص قريب من صدق أبي بكر وغيره من الصحابة الكرام بتوجههم الكلي من غير غفلة أو التفات.
وبما أن هذا التلازم قائم حول حقيقة الصحبة والتي هي محور السيرة النبوية والغاية من عرضها وسردها فإن معراج النبيsسيكون ملهما لصحابته ولأمته من بعده في باب الارتقاء الروحي ،حتى إن البعض قد يروي أو يتناقل بأنهs لما تجاوز سدرة المنتهى سمع صوت أبي بكر على سبيل الاستئناس ،مما سنعرضه فيما بعد ،وأيضا فإنه توجد رواية أخرى عن بلال بن رباح رضي الله عنه . قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، قال ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. واللفظ للبخاري.
وسواء أسمع هذه الخشخشة في اليقظة أو في المنام، عند ليلة المعراج أم في غيرها، فإنه دليل على ثمرة الصحبة وحضور الصحابة في وعي النبيsوأولوياته،كما أن الأهم لدينا كمسلمين مؤمنين هو هذا التلاحم والتلازم بين المصاحَب وصاحبه من خلال القدوة واتباع السيرة لحد تحصيل المعية الدائمة( أو المستدامة)،والمتسلسلة بالحال والمقام والمقال، كما عبر عنها حديث حنظلة ونتيجته في إقرار و تقرير للنبي s:” عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله s قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول sيذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله s عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله s ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله: “s وما ذاك؟.” قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله s: “والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات.”بحيث إن صدق الصحبة وعمق التوجه فيها كفيل باستشراف الغيب ومعاينة المقامات في عالم الملكوت.والله الهادي إلى الصراط المستقيم.