يـوم دخل الجيـش الأمريكي مدينة وجـدة
أحداث مقتطفة من ذاكرة حياة المقاوم الراحل محمد صابر بن رابح (1928-2020)، تروي مراحل مهمة من تاريخ المغرب، وخاصة منطقته الشرقية وحاضرته مدينة وجدة، ارتكازا على ما عاشه أثناء طفولته وشبابه من وقائع، طبعت بأثرها حياة ووجدان جزء كبيرا من الشعب المغربي، عاش تحت نير الاستعمار بمآسيه وويلاته، وشهد بزوغ عهد الاستقلال بأحلامه وأنظاراته. أحداث تاريخية ستبقى راسخة في سجل الموروث المشترك لجيل بدايات القرن العشرين، و ارث تاريخي للذاكرة الجماعية وللأجيال المستقبلية.
يــوم دخـــل الجيــش الأمريكي مدينة وجـــدة
بعد سنوات من المؤامرات و الدسائس تمكن الاستعمار الفرنسي من دخول و احتلال مدينة وجدة يوم 29 ابريل1907، حيث أصبحت بذلك أول مدينة مغربية يحتلها الاستعمار الفرنسي رسميا قبل معاهدة الحماية ل30 مارس 1912 .
القوات الفرنسية تتأهب لدخول مدينة وجدة يوم الجمعة 29 مارس1907
كان يعيش سكان المنطقة الشرقية بالمغرب بصفة عامة، والطبقة الشعبية التي كنت أنتمي إليها، بصفة خاصة، ظروفا حياتية ومعيشية بالغة القسوة. وتعزى معاناة المواطنين وبؤسهم وشقائهم إلى الاستعمار الفرنسي الذي احتل البلاد واستغل العباد، لا يأبه لظروف عيش المواطنين، ولايفكر في مساعدتهم والتخفيف من معاناتهم القاسية، في ظروف صعبة تزيد حدتها، من حين الى آخر، سنوات الجفاف الذي كانت تصيب البلاد، وتضر العباد، وتقضى على الأخضر واليابس، يكاد معها يهلك الحرث والنسل. كما ساهمت الحرب العالمية الثانية التي كانت تدور رحاها في أوربا، وانتقلت شرارتها إلى إفريقيا، واستعر لهيبها في بداية الأربعين من القرن الماضي، في تعسير أشد للظروف الحياتية و المعيشية للمواطنين. فافتقدت المواد الغذائية في الأسواق، وأخذت توزع ب(البون)، واختفت الأثواب من محلات البيع، وأصبحت تظهر في السوق السوداء بأثمان باهظة. فتضرر المواطنون المغاربة من الوضع، وخاصة أفراد الطبقة الشعبية منهم، وتأزمت وضعيتهم أكثر بسبب انعدام العدالة في التوزيع، فكثرت الصراعات واحتدت النزاعات واشتد التنافر بين السكان، وخاصة بمدينة وجدة.
كان سكان مدينة وجدة في الثلاثينات من القرن الماضي يتألفون من أجناس شتى: أوروبيون و يهود وجزائريون و مغاربة. وكانت تعطى كل العناية للأوروبيين والمتجنسين بالجنسية الفرنسية مثل الجزائريين و اليهود الذين كانوا يتمتعون بالحقوق كاملة مثل الأوروبيين. أما اليهود المتجنسون بالجنسية المغربية فينطبق عليهم ما ينطبق على المواطنين المغاربة، المهمشين في وطنهم، تحت وطأة التفرقة والعنصرية المتأصلة في المجتمع، والمعروفة لدى الخاص والعام وفي جميع ميادين الحياة: الاجتماعية، والثقافية، و الاقتصادية. فكان كل فرد يعيش حسب منزلته التي تحددها الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها في محيطه المتعدد الفوارق والطبقات. فمنهم من كان يعيش عيشة راضية مرضية في جميع الأحوال والظروف، على عكس الطبقة الشعبية المكونة من المواطنين المغاربة التي كانت تعيش في أحياء شعبية مهمشة تتواجد في أحواش المدينة، محرومة من جميع وسائل وشروط السكن اللائق، مثل الماء والكهرباء والوادي الحار والطرق المعبدة ووسائل النظافة، وكل وسائل العيش الكريم المتوفرة للسكان الذين يحضون باهتمام السلطة الاستعمارية. أما فرصة التعليم في المدارس، مثل ما هو موجود في الأحياء الراقية، فلم تكن من حظ المواطنين المغاربة الذين لم يكونوا يهتمون في ذلك العهد بتعليم أبنائهم في المدارس، لأن التوظيف في أسلاك الإدارة الذي من شأنه أن يغري الآباء، ويجعلهم يفكرون في مستقبل أبنائهم غير موجود، بل غير معروف إطلاقا لدى الأكثرية الشعبية من المواطنين. لذا، كان من الطبيعي ألا يولي المواطن المغربي في تلك الأثناء أدنى اهتمام لتعليم أبنائه وتكوينهم الثقافي والمعرفي لا حاضرا ولا مستقبلا.
كان شعور النقص والاحتقار يلازم مواطني الطبقة الشعبية. فكان معتادا أن يتلقى المواطن الإهانة التي يوجهها له فرد من الطبقة العليا، المعروفة بثرائها وسطوتها وعلو مكانة عائلتها لدى السلطة المحتلة. كما كان الشباب المغربي في ذلك الحين لا يمانع في ممارسة أعمال النظافة والخدمات التي لا تناسب مستواه وطموحه، لانعدام فرص الشغل والعمل. كما كان أفراد الطبقة الشعبية من كل الأطياف والأعمار، رجالا ونساء وأطفالا، يشتغلون في منازل أغنياء الأوروبيين واليهود والمسلمين، و لا يجدون في ذلك ضيقا أو حرجا للفقر وقلة ذات اليد، بل كان من سنحت له فرصة العمل هذه ، يعتبر نفسه محظوظا و ذا شأن بين أقرانه.
في هذه الظروف الصعبة والعصيبة، ظهرت بداية سنة 1943 بمدينة وجدة طلائع الجيش الأميركي الذي كان يشارك في الحرب العالمية الثانية. وكانت القوات الأمريكية قد قامت بتاريخ 8 نونبر 1942، بأنزال جنودها على الساحل الأطلسي للمغرب، بمدن الدار البيضاء وأسفي والقنيطرة، في معركة تحرير شمال افريقيا من القوات الاستعمارية الفرنسية الموالية لألمانيا، لتأمين قاعدة تموينية خلفية لقوات الحلفاء في معركة مواجهة وطرد الجيش النازي من تونس وليبيا ومصر.
تحية العلم الأمريكي بوجدة يوم السبت 13 فبراير 1943 بشارع فرنسا (محمد الخامس حاليا) من طرف مجموعة من الجنود الأمريكيين
كان أول ظهور القوات الأمريكية بمدينة وجدة شرسا وقاسيا وعنيفا، خاصة مع المواطنين المغاربة، مرده وحسب ما كان يقال ذلك الوقت، تزويدهم من طرف السلطة الاستعمارية بالمدينة بمعلومات مسمومة ومغلوطة تحذر الجنود الأمريكيين من خطر التعامل مع المواطنين المغاربة. إلا أنه سرعان ما تبدلت تلك النظرة السيئة التي كانت لدي الجنود الأمريكيين، بنظرة أخرى إيجابية وجيدة، فأصبحوا يتصلون بالشباب المغربي، ويربطون معهم صداقات بريئة من كل لبس أو شبهة، ويتاجرون ويتبادلون البضائع معهم. فتحسنت بوجود الجيش الأمريكي وضعية السكان المعيشية، وصارت تظهر في الأسواق عدة مواد كانت من قبل مختفية ومفقودة، وخاصة الأثواب والمواد الغذائية. إلا أن هذه الوفرة في الأسواق، ولسوء الحظ، لم تدم طويلا، حيث اختفت بمغادرة الجيش الأميركي لمدينة وجدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وعاد إلى بلاده بعد أن ترك سمعة طيبة في أذهان المواطنين المغاربة عامة، وخاصة الشباب منهم، الذين ألفوا وجوده ومبادلة البضائع مع أفراده. والحقيقة أن وجود الجيش الأمريكي بوجدة كقوة مستقرة بالمدينة لا قوة احتلال، ساعد كثيرا على ربط المواطنين المغاربة روابط ودية مختلفة عما كان سائدا وقتها مع أفراد الجيش الفرنسي المستعمر.
مع مغادرة الجيش الأمريكي لمدينة وجدة، عادت الوضعية المزرية للبلد، وانتشرت البطالة وعم الفقر الطبقة الكادحة، ونشطت السوق السوداء في كل شيء، وخاصة المواد الغذائية والثوب والألبسة. فتعس المواطنون المغاربة وتشاءموا من الأمر، خاصة الطبقة الشعبية المهملة التي زادتها هذه الوضعية العسيرة إهمالا على الإهمال السابق. أما الأجناس الأخرى من السكان المجنسين بالجنسية الفرنسية ، فلم يمسهم سوء تلك الظروف الصعبة، لقدر الاهتمام التي كانت توفره لهم السلطة الاستعمارية في كل مناحي الحياة، المادية والمعنوية.