النبي الأمين بين فجائع الموت وأصالة التوحيد في بيته السعيد
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:النبي وزوجته في مواجهة فجائع الموت ببيته
قال البيهقي عن الحاكم : ((قرأت بخط أبي بكر بن خيثمة ، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري ، قال : أكبر ولده عليه الصلاة والسلام : القاسم ، ثم زينب ، ثم عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية .
وكان أول من مات من ولده القاسم ، ثم عبد الله.
وبلغت خديجة خمسا وستين سنة ، ويقال خمسين ، وهو أصح .
وقال غيره : بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ، ثم مات بعد النبوة .
وقال ابن بكير : حدثنا إبراهيم بن عثمان ، عن القاسم ، عن ابن عباس ، قال : ولدت خديجة لرسول الله sغلامين وأربع نسوة : القاسم ، وعبد الله ، و فاطمة ، و أم كلثوم ، و زينب و رقية.
وقال الزبير بن بكار : عبد الله هو الطيب وهو الطاهر ، سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة ، وأما (الباقون)فماتوا قبل البعثة.
“قال ابن إسحق : فأما القاسم و الطيب و الطاهر فهلكوا في الجاهلية ، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه s.
قال ابن هشام : وأما إبراهيم فأمه مارية…سرية النبي s التي أهداها إليه المقوقس )).
هذا مجمل ما ورد عن أولاد النبي s والتأريخ لهم و وفاة أحدهم أو جلهم ، قبل المبعث أو بعده ، والموت سنة الله في خلقه ، سواء أكانوا أبناء أم أنبياء ، أو ملوك وأولياء ، لكن وقوفنا عند هذه المسألة بالذات لها دلالات ، سيكون بالضرورة تصحيح المفاهيم عندها ووضع الأمور في مكانها المناسب ، بحسب المقام والزمان أو الظرف المواكب.
بحيث قد نجد بعض التفاسير لهذا الموت غريبة ومريبة ، وهي ذات طابع إسقاطي أكثر إمعانا في الوهم ممن فسروا كسوف الشمس بسبب موت إبراهيم بن نبينا سيدنا محمدs ، والذي قد رد على أصحابها في الحين حتى لا تضيع الحقيقة وتختلط بالأوهام وغلط المشاعر ، وذلك لما قال الناس : ((انكسفت الشمس لموت إبراهيم !)) .
(( عن عائشة أم المؤمنين gقالت : ((إ ن الشمس انكسفت على عهد رسول الله s فقام قياما شديدا يقوم قائما ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات فانصرف وقد تجلت الشمس وكان إذا ركع قال الله أكبر ثم يركع وإذا رفع رأسه قال سمع الله لمن حمده فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما من آيات الله يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم كسوفا فاذكروا الله حتى ينجليا)).
فلقد وجدنا من نموذج ذلك الإسقاط الجزافي والتوهم الذهني والافتراضي – فيما نرى- ما ذهب إليه محمد حسين هيكل في كتابه ((“حياة محمد)) ،أبيت إلا أن أعرض لرأيه في الموضوع بنوع تفصيل كي نبين وجه الخطأ والمجازفة في إلقاء مثل هذه الافتراضات .
وهذه الآراء إن كانت مجرد اجتهاد فإنها غير مقبولة في ميزان التدقيق العلمي والذوق الروحي والأدبي بحسب المقام.
يقول هيكل : ((أما القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما إلا أنهما ماتا طفلين في الجاهلية ، لم يتركا على الحياة أثرا يبقى أو يذكر ، لكنهما من غير شك قد ترك موتهما في نفس أبويهما ما يتركه الابن من أثر عميق ، وترك موتهما من غير شك في نفس خديجة ما جرح أمومتها جرحين داميين ، وهي لا ريب قد اتجهت عند موت كل واحد منهما في الجاهلية إلى آلهتها الأصنام تسألها ، ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها وما بالها لم ترحم قلبها من أن يهوى بها الثكل ليتحطم على قرارة الحزن مرة فمرة !
وقد شعر معها زوجها لا ريب بالألم لوفاة ابنيه ، كما حز في قلبه هذا الألم الحي ممثلة صورته في زوجه يراه كلما عاد إلى بيته وجلس إليه ، وليس يتعذر علينا أن نقدر عمق هذا الحزن السحيق في عصر كانت البنات يوأدن فيه ، وكان الحرص على العقب الذكر يوازي الحرص على الحياة بل يزيد عليه .
وبحسبك مظهرا لهذا الألم أن لم يطق محمد على الحرمان صبرا حتى إذا جيء بزيد بن حارثة يشترى ، طلب إلى خديجة أن تبتاعه ففعلت ، ثم أعتقه وتبناه ، فكان يدعى زيد بن محمد ، واستبقاه ليكون من بعد من خيرة أتباعه وصحبه ، ولقد حزن محمد من بعد حين مات ابنه إبراهيم أشد الحزن بعد أن حرم الإسلام وأد البنات وبعد أن جعل الجنة تحت أقدام الأمهات .
فلا ريب إذ أن قد كان لما أصاب محمدا في بنيه ما هو جدير بأن يترك في حياته وتفكيره أثره . ولا ريب في أنه استوقف تفكيره ولفت نظره في كل واحدة من هذه الفواجع ما كانت خديجة تتقرب به إلى أصنام الكعبة ، وما كانت تنحر لهبل وللات والعزى ولمناة الثالثة الأخرى ، تريد أن تتفادى مما ألم بها من ألم الثكل ، فلا تفيد القرابين ولا تجدي النحور !!! “.
نص مليء بالأشواك والحفر والعثرات ، قد يبدو عنده الكاتب قيَّاسا افتراضيا ووهميا بالدرجة الأولى ، أكثر منه ملتزما ومتوخيا للموضوعية وتبسيط الواقع لفهم الآخر ، كما أنه قد يسقط ، بعنف ومجانية ، تصوره الذاتي على الحالة النفسية والمقام الروحي للنبي s وأوجه صلته وشعوره بزوجته السيدة خديجة أم المؤمنين g .
صحيح إن موت الولد قد يترك حزنا عميقا في نفس الوالدين كيفما كان مقامهما الروحي والنفسي ، وهو ما قد عبر عنه نبينا وسيدنا محمدs صراحة وتربية عند موت ابنه إبراهيم:
((عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال دخلنا مع رسول الله sعلى أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول اللهs إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله s تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأنت يا رسول الله فقال يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال s : إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) .
وهذا الحديث والحال المصاحب له يفسر ما قبله من موت القاسم و عبد الله (الطيب والطاهر) ، أي أن النبيs قد بقي ثابتا ضابطا لحزنه وأساه ، هو و زوجته ، من غير توهم أو لجوء إلى شعبذة ، أو افتعال تعويض في غير محله ، كتبني وغيره – فيما ذهب إليه هيكل – ! .
ثانيا:البيت النبوي وترسيخ عقيدة التوحيد بالتصريح والتضمين
وإذا كان النبي s قد كانت له هذه الهمة قبل المبعث وبعده ، بحكم ما آتاه الله تعالى من ثبات وروية وأمانة وصدق ، فإن اقتران زوجته السيدة خديجة أم المؤمنين gبه ستكون بالتأكيد على منواله وحاله ، وستسير سيره ، طواعية ومحبة وابتعادا عن كل ما قد يسوء علاقتهما ، عقيدة وسلوكا ، إذ المحبوب للمحبوب أطوع وله بالروح أتبع.
وكما سبق وبينا فإن النبي sقد كان لا يكره شيئا مثل كراهيته لتلك الأصنام والتماثيل الماثلة للعيان والتي قد أضلت الناس و هوت بهم في مغالق الظلام و أرجاس الشرك والوثنية ، وهذا ما قد عبر عنه s صراحة ورفضا لا التباس فيه ، وذلك لما قال له الراهب بحيرى عند رحلة الشام الأولى : ” أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ، فزعموا أن رسول الله s قال: ((لا تسألني باللات والعزى شيئا ، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما )).
وهذا يعني أن البيت الذي سيدخله s سيبغض فيه أي تعلق بهذه الأصنام وأوهامها ، وخاصة بيت الزوجية لما فيه من خصوصية الارتباط ، وحيث المعاشرة والألفة وسيادة المحبة.
ومحال ، حسب الحال والمقام الذي شرحناه بخصوص السيدة خديجة أم المؤمنين g، أن يبقى لتلك الأصنام حضور واستقرار في بيت النبي الأمينs، الصادق مع نفسه وأهله وكذا قومه ، وهو الرافض لتلك الأوثان جملة وتفصيلا ، همسا أو لمسا.
هذا الموقف والامتناع قد كان من مبادئه وتطبيقاته ، وخاصة لدى قرابته ومن له بهم صلة متميزة ، كما يروى عن زيد بن حارثة قال : ” كان صنم من نحاس يقال له إساف ونائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا ، فطاف رسول الله s وطفت معه ، فلما مررت مسحت به ، فقال رسول الله s (( لا تمسه )) قال زيد : فطفنا ، فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون ، فمسحته فقال رسول الله s : ألم تنه؟ )) .
قال البيهقي : زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد : فو الذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ، ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه )).
وهذه الصفة سيتميز بها ابن عم النبي s وصهره سيدنا علي كرم الله وجهه ، والذي قد نال هذا التكريم بحكم أنه لم يسجد لصنم قط في حياته قبل الإسلام وبعده .
يقول ابن كثير في التفسير : (( وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه وهذا وإن كان معناه صحيحا لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين)).
ومعلوم ، كما تذكر السير ، أن سيدنا علي رضي الله عنه كان (( أول ذكر من الناس آمن برسول اللهs وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى…وهو ابن عشر سنين يومئذ)).
فلقد تربى في بيت النبيs وكان في حجره و رعايته بعدما ضاق الحال المادي بأبي طالب ، فنال هذه الحظوة وهذا الشرف بسبب أنه قد كان بهذا الحال نسبا ورعاية ، فشملته حمايته وتوجيهه الروحي كما شمل السيدة خديجة أم المؤمنين g.
يذكر ابن إسحاق أنه قد : (( كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب ،ومما صنع الله له ، وأراده به من الخير ، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير : فقال رسول اللهs للعباس عمه ، وكان من أيسر بني هاشم : (( يا عباس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه ، فلنخفف عنه من عياله ، آخذ من بنيه رجلا ، وتأخذ أنت رجلا ، فنكلهما عنه )) ، فقال العباس : نعم . فانطلقا حتى أتيا أبا طالب ، فقالا له : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ؛ فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما – قال ابن هشام :ويقال : عقيلا وطالبا . فأخذ رسول اللهs عليا ، فضمه إليه .
فلم يزل علي مع رسول اللهs حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا ، فاتبعه علي d،وآمن به ، وصدقه …)) .
كل هذا يؤكد على أن البيت النبوي قد كان خاليا من كل مظاهر الشرك وآثاره قبل المبعث ، وأن كل من دخله نالته بركته ، قرابة وولاء وغيره ، فكيف بها أم المؤمنين وأمينة سر النبي s ومستأمن عرضه وشرفه؟
هذا يعني أن النبيs قد كان حريصا كل الحرص على تجنب مشاهد المشركين وطقوسهم ، ثم تجنيب أهله ومن له عليه حق أثر توجيه وتنبيه ، تتصدر رأس القائمة زوجته السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ، والتي قد كانت الأوْلى والأحظى بهذا النهي والإبعاد عن التمسح بالأصنام وما بها من صلة .
بل الأوْلى والأسبق من هذا هو إبعاد بنيه وبناته عن كل ما يمت إلى الشرك والمشركين بصلة كي لا تخدش فطرهم وتوحيدهم الذي اكتسبوه من صلب النبي s وروحه وشرف غريزته . كيف لا ! وقد تكفل الله تعالى بهذا النهي والصرف والتنوير عند قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) .
فخديجة هي سيدة أهل بيت رسول اللهs ، وهي أم أولاده الأطهار، فهي أولى بهذا التطهير والتجنيب والإبعاد عما كان عليه المشركون في الجاهلية ، وخاصة بعد اقترانها وزواجها بالنبيs .
كما أنها قد كانت قبل هذا الزواج وبعده ذات مرجعية دينية موحِّدة ، وهي مساءلة واستشارة ابن عمها ورقة بن نوفل في مهامها وملاحظاتها الروحية للسيرة النبوية ، والتي عليها بنت قرارها ورغبتها في التزوج بسيد المرسلين والخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه .
ولهذا فهي لم تكن من التعارض أو الجهل بحال النبيs ومواقفه حتى تلجأ إلى اللات والعزى لتطلب العون منها أو تدفع عنها الأحزان ، خاصة وهي في حضن الأمين sترى قِلاه لها بالحال والمقال والفعال ، المبشر به في التوراة والإنجيل ، تعلم ذلك منه وعنه علم بل حق اليقين وتستشرف فجره وبزوغ نوره في كل وقت وحين.
بحيث لم نجد في كتب السيرة الموثقة والمعتمدة ما يشير من قريب أو بعيد إلى أن السيدة خديجة أم المؤمنين g بعد وفاة أبنائها قد لجأت أو خطر ببالها وعلى لسانها ما توهمه هيكل ، في دماغه الخاص ، وأسقطه على الموضوع من غير تحفظ إسقاطا لا مسوغ له علميا وتاريخيا.
كما أن موضوع التبني الذي ذكره كتعويض عن فقد الأبناء قد يبدو أيضا غير موضوعي ولا صلة له بالواقع ، أو الحالة النفسية للنبي s وزوجته ، إذ العرب قد كانوا يتبنون مع أن لهم أبناء ذكورا من أصلابهم ، وتلك كانت عادتهم ، وما موضوع تبنيهs لزيد بن حارثة إلا مقدمة غيبية تشريعية لإلغائه بعد المبعث ونزول الوحي .
ولقد كان بإمكان النبي s أن يتزوج ثانية ويتسرى لكي ينجب أولادا من غير السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ولكنه لم يفعل لمقتضى المقام ، كما سبق وبينا لحكمة أرادها الله تعالى لا يعلمها إلا صاحب ذلك المقام.
إضافة إلى كل هذا ، لو قسنا الموضوع بمقياس اجتماعي ، فإن الحال بين أفراد المجتمع في مكة قد كانت الغلبة فيه للرجال و أن النساء تبع لهم في تصوراتهم و معتقداتهم و قراراتهم المصيرية ، و هذا ما كان يميز نساء مكة عن نساء المدينة كما يذكر سيدنا عمر بن الخطاب d :(( كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم)).
فإذا أضيف العرف إلى طاقة المحبة والرضا فذلك أمكن في الإتباع والتوافق ، وهو الذي قد كان بين النبي s وزوجته السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها ، وأعظم التوافق هو توافق الأرواح وتناسقها في المعتقد والسلوك .
وأرى أن طه حسين في تصوره لهذه المرحلة ووصف علاقة النبيs بالسيدة خديجة أم المؤمنين g قد كان أكثر توفيقا وأدق صياغة وأدبا من هيكل ، وذلك في عرضه لهذا الحوار ، أقتطف بعضا منه:
(( وكان ورقة بن نوفل حازما عازما رجل صدق ، قد شهد مواطن قريش ، وشارك في مفاخرها ومآثرها ، ولكنه أنكر في نفر من قومه أولي حزم وعزم ، وأصحاب فقه وبصر بالأمور ما كانت عليه قريش من باطل وجهل ، وما كانت تمعن فيه من عبادة هذه الأوثان التي لا تملك لها نفعا و لا شرا ، و لا تغني عنها من الله شيئا..)).
(( قالت خديجة : فأنت إذا ترى لمحمد شأنا ؟)).
قال : (( ما أشك في ذلك ، ولكني لا أدري متى يكون هذا الشأن ، وإني لأنتظره ، وإني لأتعجله ، وإني لأريد أن أتحدث إلى عمه فيه ، فلا أجد على ذلك سبيلا ما لقيته أبدا ، فما هممت بالتحدث إليه في أمر الدين إلا انعقد لساني عن الحديث وانصرفت نفسي عما كنت أريد أن ألقي إليه “.
قالت خديجة : ” وما ذاك ؟ وكيف تؤوله ؟)).
قال :(( تأويله يا ابنة عم أن الله يريد أن يستأثر بإنباء محمد بما كتب له من كرامة وما هيأ له من أمر عظيم،و هو لا يريد أن ينبئه بذلك إلا حين يبلغ الكتاب أجله ، وينتهي الأمر إلى إبانه )).
قالت خديجة : (( فإني لا أفهم ظهور هذه البشائر والآيات لبعض الناس دون بعض ، وانجلاء هذه الحقائق والمعجزات لبعض القلوب دون بعض )) .
قال ورقة : (( لو شاء الله لأظهر هذه الآيات للناس جميعا ، ولو شاء الله لما أظهر من هذه الآيات شيئا لأحد من الناس ، أترين أن الله لم يكن قادرا على أن يقي محمدا حر الهاجرة دون أن يرسل إليه هذين الملكين يظللان عليه ؟ أترين أن الله لم يكن قادرا أن يحجب هذه الآية عن ميسرة كما حجبها عن رفقائه الذين كانوا معه يسايرونه في العير ، كما حجبها عن محمد نفسه في أكبر الظن ! كلا يا ابنة عم ! إن قدرة الله لأوسع من ذلك وأشمل ، وإنه ليظهر من آياته ما يشاء ، كما يشاء ، لمن يشاء ، لأن له في ذلك حكمة بالغة ، وأربا قد تعجز عقولنا عن فهمه وتعيا معرفتنا عن تأويله ، وانظري من حولك يا ابنة عم ، فما أكثر ما يتغير من الأشياء ! وما أكثر ما نرى من الأمر فنكره ونعجب له ! ولكننا لا نستطيع له رفضا ولا ردا ! لأنه الحق الواقع الذي لا نستطيع أن نماري فيه )).
هذا التوقع والوعي بما قبل الزواج سيسمو به بعده إلى حق اليقين وستصبح السيدة خديجة أم المؤمنين g في طاعة الأمين s، طاعة محبة وعشق ، لا يتعارض باطنها مع باطنه ، ولا ينفصل حالها من حاله ، ولا ظلها عن ظله ، ومن ثم فلا مدعاة لأن تلجأ إلى الأوثان والأصنام وصنوف الشعبذات والخرافات كي تفسر بها ما ألمَّ بها من أحزان وفقد هي من قدر الله تعالى وتدبيره ، وكيف ذلك وهي في كنف و أحضان طبيب النفوس ومداوي الجراح ومؤلف القلوبs قبل البعثة وبعدها ؟ !!!.
(( قال ابن إسحق : وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وكان ابن عمها – وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس – ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب ، وما كان يرى منه ، إذ كان الملكان يظلانه ، فقال ورقة : لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر ، هذا زمانه ، أو كما قال…)).