الاختبار الديني وتحديد مقامات ومستوى الأذكياء والبلداء
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الاعتقاد الديني ومعادلة الربط بين الأرضي والسماوي
مسألة التدين و الاعتقاد مسألة معقدة بعُقد وقواعدَ وعقودَ ومقاعدَ وعناقيدَ معقدة وعنقودية شديدة التعقيد ووعرة التقعيد ،وقس على هذا من مسلسل العقد والمعقدين والمتعاقدين والمعتقدين والمستقعدين والمعنقدين والمدْقعين…
وموضوع التسليم بالدين أو عدم التسليم به قد يتأسس على حسب سلامة الدين نفسه ثم سلامة المتدين بدَنيا وذهنيا.في حين سيبقى أمر التصديق وعدمه في إطار المشيئة المتداخلة والمشتملة والمختارة والمجبرة وما بين هذه العناصر من شروط وخيوط وبواعث وعوارض وموانع وميسرات ومكسرات لا يسمح لنا الوقت للتفصيل فيها هنا…
” وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”
“إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ “.
وهنا حارت العقول وكلَّت الأذهان واضطربت المفاهيم وتداخلت الاعتبارات عند هذا المعنى ،فلم يفز أحد بفصل رأي ونتيجة قطعية ،وخاصة حينما يتعلق الأمر بالحكم على العباد وربط الأدلة بضرورة الاعتقاد مهما كانت براهينها قائمة وحججها دامغة وبدائهها حاضرة .فهناك إرادة شخصية ومحيط كوني وإرادة علوية وأدلة قطعية وأخرى ظنية ومنها حسية وأخرى عقلية وغيرها أرضية وأخرى سماوية ، قد يصعب الارتقاء إليها كما يستحيل إنكار وجودها أو إمكانها.
” كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ”،” وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ”.
وهنا كان الاختبار المحدد لطبيعة المختبَر أو المستخبَر ومستواه الإدراكي ووعيه بما جاء به أساتذة البشرية باعتبارهم أنبياء ورسل من عند الله تبارك وتعالى، يبشرون وينذرون ويعلمون ويزكون ويُنجحون أو يسقطون ويُرسبون،ويحددون المقاصد من هذا الوجود والحكم والأحكام.
يقول الله تعالى في قرآنه الكريم” تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”.” وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ “.” وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ”.
و” الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني”كما قال النبي سدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فكان منهم الكيس ، أي الذكي والمفلح أو المفلس أي البليد و الخاسر.كل له مستواه وكل له فهمه ووعيه بالدروس والعظات وطبيعة الاختبارات.كما كان من أعسر الامتحانات والاختبارات للبشرية جمعاء هو أن بعث الله تعالى لهم أنبياء ورسل من جنسهم وبني جلدتهم،حيث مظنة أن يقع القياس المغالطي والإسقاط والحسد والمنافسة والمشاكسة…
فالأذكياء والصلحاء قد أدركوا وفهموا الخطاب وأسرار المعادلة فجمعوا بين حقائق المعلوم وخصائص المجهول الغيبي ، وربطوا هذا بذاك ثم حلوا لغز الغيب من خلال معطيات الشهادة والظاهر وما هو في حكم القرب ومرمى النظر ، فقاسوا هذا على ذاك وأثبتوا بما يقتضيه العقل وشعور القلب ومظاهر الحس ما يحمله الوجود المرئي من قوة أُسٍّ وجدر تربيعي مضاعف أضعافا كثيرة لا تدخل تحت الحصر أو العد ، فكان تسليمهم ضرورة بالغيب وما جاءت به الرسل من نصوص وكتب وأحاديث…
لكن البلداء والأغبياء والسطحاء ،وضيقي الذهن والتصور، وقفوا مع مظاهر المعادلة وغفلوا عن لغز “سين” و”صاد”والنهاية واللانهاية العقلية والدوال والاحتمالات ،فتاهوا بين الأعداد وخلصوا إلى نتائج كلها أغلاط وتناقضات وأضداد ، بل أصفار مكعبة لا تنتج أعدادا.وحينما عجزوا عن الحل شككوا في المعادلة وأنكروها ، واعتبروها غير رياضية ولا علمية ، أو بعبارة التلاميذ الكسالى: ليست داخلة ضمن المطبوع أو المقررات أو حتى المقروء !.
فلو كانوا حُصفاء ونُبهاء ومثابرين بجد لفهموا فحوى السؤال وغايته بمجرد الإشارة ، ولأجابوا من أول وهلة وكانوا من الناجحين.هذا إذا علمنا بأن كل اختبار إلا وهو يحمل بين طياته إشكاليات و إبهامات ومعادلات وكفايات واستنهاض للمهارات،بل فخاخا مقصودة علميا لشحذ الأذهان وتنمية الذكاء والمعرفة …ولا يسمى الاختبار اختبارا إلا لهذا الاعتبار. ” “وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ”.
ثانيا:الاختبار الإسلامي و كشف بِطاليّي الفكر والتخلف الذهني
وأهم اختبار ديني هو الدعوة للإيمان بالغيب ومضامينه المفصلة والمختصرة ،بحيث هنا قد يختلف المفهوم الديني جذريا وجوهريا عن الدنيا ومجرياتها.وهنا سيرتقي العلم الديني السماوي على العلم الدنيوي الأرضي.وذلك لأن عالم الغيب أوسع من الشهادة بكثير ، وأوسع حكما عدديا ورياضيا ، وكما متصلا ومنفصلا ، من قضايا الدنيا مهما تطورت حضارتها وثقافة أهلها أو وارتفع عمرانها.بل إن الدنيا بدورها مازال الإنسان لم يستوعب أو يكتشف منها سوى أجزاء بسيطة بالمقارنة مع سعة الرقعة الأرضية والفضائية التي يحتويها كوكبنا، فما بالك حينما يتعلق الأمر بالمجرّات الكبرى والبعيدة بعد السنين الضوئية ،والتي لم نصل إلى بعضها سوى بالطيف والتصوير عن بعد وزُوم.
وحينما يكثر الطعن في الدين ،وخاصة الإسلام خاتم الرسالات، فهذا مؤشر على وجود كثرة الفاشلين والبلداء والمفلسين فكرا وروحا وعقلا وعلما.وهذا الطعن بكل وجوهه وصوره دليل على العجز عن قراءة النص وفهمه فهما جيدا سواء كان قرآنا أو حديثا صحيحا ،ودليل على غياب العقل الرياضي الذي له الأهلية في حل المعادلات البسيطة فكيف بالمركبة والمعقدة والمرتبطة بالعقيدة . وهؤلاء الفاشلون سيختارون الطريق الأسهل في الاختبار المفروض عليهم، وهو إما اتهام الأستاذ الجليل والكفء بالجهل بمادته وتخصصه ،وهذه هي الطامة الكبرى والإسقاط أو السقوط الفظيع ، وإما النزوع نحو الغش والتدليس وقلب الحقائق واستراق المصطلحات والمعلومات المغلوطة والمقلدة تقليدا ببغائيا ومستهجنا إلى أبعد حد من الاستهجان والركاكة !.
وسيزداد التمادي في هذا المطب واستفحال الداء حينما يجد مثل هؤلاء المهرجين والفاشلين من يصفق لهم ويدعمهم إعلاميا ومهرجانيا وماديا لتمرير مخطط مسموم بعيد عن الحق والحقيقة كل البعد ، غايته هدم القيم والإخلال بالنظام العام وطهارة واستقرار المجتمعات.
وهذا النوع من التفكير والتدبير في دائرة التدمير هو شبيه بما كان يعرف في التاريخ الإسلامي المجيد بالزندقة والزنادقة وما تبعها من مظاهر الشعوبية والاستهزاء بكل ما هو ديني ومعه عربي متوافق مع لغة النص القرآني والحديثي النبوي.فكان الخلفاء العباسيون لهم بالمرصاد كالخليفة المهدي ثم ابنه الهادي وكذلك هارون الرشيد وغيره…وذلك لوعيهم السياسي بخطورة مثل هذه الجراثيم على المجتمع وعلى الدولة وعلى معتقدات الناس وأخلاقهم ،حتى إن المستظهر بالله قد كلف حجة الإسلام أباحامد الغزالي للتصدي لهؤلاء بالعلم والمعرفة ، فكان من بين كتبه عنهم”فضائح الباطنية”و”فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة”.
وهذا الإجراء والتعقب لا علاقة له بضرب حرية المعتقدات والتدين ، وإنما هو وعي سياسي واجتماعي عقدي وشعور مسبق بما قد تؤول إليه مثل هذه الحملات التضليلية وخلفياتها من مخاطر ستهدد حتما عمق وأمن الدولة نفسها. لأن من لا دين له لا أمان له ولا استقرار ولا عهد له.ومن يستهزئ بدينه ويتلاعب بمفاهيمه فأحرى به أن يستهزئ بوطنه وأمته ومجتمعه ودولته، وأحرى أن يبيع مبادئه للعدو الخارجي بثمن بخس وبدون مقابل يذكر،وذلك لأنه فاشل وبليد وغير مؤهل لاجتياز الامتحان والاختبار الصعب ذي القيمة والدرجة العليا فيلجأ حينذاك إلى التفاهات وإثارة الانتباه وحب الظهور بالنزوات وعقد النقص . فبقدر ما صعب الاختبار وتعقدت أسئلته مع إمكان الإجابة عنه لدى الفطناء والمجتهدين كانت النقطة والتقدير له أكثر قيمة واعتبارا.
ولله در البصيري في البردة حينما قال واصفا الأستاذ الأعظم والسيد الأكرم خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وطريقة امتحانه لأهل الفطنة والذكاء:
لم يمتحنّا بما تعيا العقول به حرصا علينا فلم نرتب ولم نهِم
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى في القرب والبعد فيه غير منفحم
كالشّمس تظهر للعينين من بُعُد صغيرة وتكلّ الطّرف من أمم
وكيف يدرك في الدّنيا حقيقته قوم نيام تسلّوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلّهم
يقول الله تبارك و تعالى” فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ”.والله الهادي إلى الحق والصواب.