أنقذه الراعي
محمد شحلال
سادت في البادية أعراف جميلة ساهمت في تلاحم الأهالي،مما جعلهم يعيشون شبه متحللين من سلطة المخزن،حيث ظلت،،الجماعة،،تتولى حل جل القضايا التي قد تخل فجأة بهدوء البلدة،فما تلبث المساعي الحميدة أن تعيد الحياة إلى مجراها الطبيعي.
كانت الأعراف المحمودة كثيرة،ولعل،،الشراكة الفلاحية،، أحد أبرز صورها. فقداعتاد الناس في القديم، أن يتهيأوا للسنة الفلاحية قبل حلولها بشهور عبر الدخول في صفقات يتوسمون فيها كل الخير.
وهكذا،كان بعض الأشخاص يبادرون إلى عرض شراكة فلاحية على من يتفاءلون بسمعتهم،حيث يبرمون عقدا شفويا يشمل المساحة المقررة للحرث،ونوع المزروعات،ثم وسائل الحرث، في انتظار تقاسم المهام عبر كل المراحل، إلى أن يتم توزيع المحصول،وتجديد نية التعاقد في جل الحالات.
في أوائل الستينات من القرن الماضي،أبرمت عائلتي عقد شراكة فلاحية مع أحد وجوه،،الدوار،،الذي كان رأسماله الأساسي،يتمثل في خفة دمه التي لا تقدر بثمن،وبغلة تفي بإنجاز كل الأغراض الزراعية.
كان الرجل قد غادر مفاحم جرادة بعدما نهل من سمومها،ثم أقام على بعد كلمترات منا،قبل أن يتجشم عناء الانتقال ليعيش إلى جانبنا ،بمعية زوجته الأسطورية، ووحيده شبه المعوق.
لم يكن بين كل المعارف ،من يرقى إلى خصال،،عمي البشير،،وزوجته،حيث كان كل من يجالسه، يتمنى لو تصبح الجلسة بدون نهاية،لما يرد خلالها من صنوف الأخبار والقصص المشوقة.
كنت أطوي الكلمترات التي تفصلني عن المدرسة، بأقصى جهدي في المساء لأستمتع بأحاديث ،،عمي البشير،،الذي ينسي جلساءه في الأكل والشراب،كما يخلصهم من كل متاعب اليوم ومشاقه المختلفة.
ما زلت أحتفظ بإحدى قصص ،،عمي البشير،،التي جعلت كل الحاضرين يومئذ، يذرفون الدموع بكل تلقائية بسبب براعته في تصوير أجواء الخوف التي عاشها ،والتي لم يكن يحلم بالحياة بعدها.
يروي ،،عمي البشير،،- رحمه الله-أن أسرته قد كلفته ذات يوم من أيام شبابه بأن يجلب كمية من نبات الحلفاء،،الصناعية،، أي ذلك النوع الذي يدخل في صناعة الحصير وغيره من المصنوعات المعروفة بالبلدة.
كان على الشاب أن يغادر بيت الأسرة ب،،المعدن،،ليجلب الحلفاء من منطقة موحشة تعرف إلى الآن ب،،ثغانيمت،، وهي عبارة عن سهوب شاسعة للحلفاء،خالية من السكان،وبجوارها غابة كثيفة تحفل بكل المفاجآت غير السارة،وتفصل بين قبيلتي ،،أولاد عمرو وبني شبل،،.
امتطى الشاب أتانا كانت وضعت قبل أيام، جحشا ،ولا تفارقه إلا مكرهة،وكل تهاون معها،قد يجعلها تنطلق بسرعة البرق عائدة لإرضاع صغيرها، مدفوعة بغريزة الأمومة التي تصل حد الشراسة لدى معظم الحوانات،حيث تتحول الأتن من خادمات وديعات في الحالات العادية، إلى مخلوقات عنيدة إذا فصلت عن مواليدها خاصة في الأسابيع الأولى من وضعها.
لقد اختيرت هذه المطية للشاب،،البشير،، حتى يستطيع العودة بأقل جهد، لأن الأتان مشدودة بحبل الأمومة،وسوف ،،تطير،،للالتحاق بصغيرها عند العودة.
وصل ،،الزغبي،،إلى سهوب الحلفاء،ثم ربط الأتان بإحكام إلى جواره، وانطلق ينتر أغصان الحلفاء.
كان،،البشير،،قد انتزع كمية معتبرة من الحلفاء حين قفزت الأتان فجأة، وراحت تصارع للإفلات من عقالها،فلما نظر حواليه،رآى ضبعا ضخما يتقدم باتجاههما !
كان الحيوان جائعا، فقادته حاسته إلى هذا الصيد الثمين فجأة،وفي نيته أن الاثنين لابد لهما من تقديم قربان لينجو أحدهما.
لم يتبين ،،البشير،،نوع الحيوان المهاجم أول الأمر،لذلك قاومه بالحجارة والصراخ، قبل أن يدرك بأن الأمر يتعلق بحيوان طالما روعته قصص الأهالي حول ضحاياه ،وكيف أنه يملك قوى خارقة في ترويض فريسته، ليلتهمها بكل وحشية من غير قتل كما تفعل السباع والنمور.
احتدمت المعركة بين،،البشير،،والضبع بينما استمرت الأتان في مساعيها للتخلص من الحبل الذي يكبلها،لكن قوة القصف سرعان ما تراجعت تدريجيا وأصبح الاستسلام خيارا لا محيد عنه، بعدما تأكد الشاب بأنه في مواجهة الحيوان الذي عم رعبه كل ربوع البلدة.
عندما كانت المعركة سجالا بين ،،البشير،،والحيوان المفترس،كان أحد الرعاة يراقب المشهد عن بعد، وقد أدرك هول الموقف ،لكنه لا يستطيع المجازفة بترك قطيعه عرضة للذئاب المندسة في كل مكان.
شرع الراعي الذي كان يحمل سلاحا تقليديا يسوق قطيعه في اتجاه مسرح المعركة وهو يصيح بأعلى صوته :
– شد إماننش قاه أوسيغد ،أور تكذذ ! (تشجع ولا تخف فأنا قادم).
كان المقاتل التعس قد استنفذ قواه وصار الحيوان على بعد خطوات منه،وربما استسلم من حيث لا يدري لصالح الأتان المرضعة،وفي هذه اللحظات الحرجة التي كان الراعي يتابعها باهتمام شديد،وأمام تضاؤل فرص نجاة،،البشير،،استل سلاحه،ثم أطلق طلقة مدوية في اتجاه ساحة الوغى،مما جعل الضبع يبتعد والراعي يصيح فيه ويتوعد ،إلى أن وصل ليجد،،المحارب،،قد سقط أرضا ،بعدما انهار وهو على مقربة من أنياب وحش لا يرحم .
طارد الحيوان الذي فقد كل امل في كسب المعركة،ثم شرع ،،يحيي،،شابا فاقدا للوعي.
لم يكن بين يدي الراعي من وسائل إسعاف غير موجة متتابعة من اللطمات التي أعادت المحارب إلى الحياة بصعوبة،لكنه لا يستطيع التواصل ولا البوح بما يعتريه،وهو ما تطلب البقاء إلى جانبه ريثما يتحسن حاله،لا سيما وأن القطيع قد خرج من دائرة المخاطر وأصبح تحت المراقبة.
بعد انتظار طويل،انحلت عقدة لسان،،البشير،، وكشف عن دوار أصاب رأسه،مما جعل الراعي يخفف من روعه،ويطمئنه بأنه لن يتركه حتى يضمن سلامته.
جمع الراعي أكوام الحلفاء، ووضعها على ظهر الدابة،ثم أركب ،،البشير،،وشد وثاقه بإحكام حتى لا يسقط من على ظهر أم متلهفة للقاء رضيعها،لتنطلق بسرعة البرق.
اختار الراعي مرتفعا يسمح له بمراقبة الرحلة والسهر على أمنها، إلى أن اقترب،،البشير،،من،،قاعدته،، !
خرج أفراد من أسرته لاستقبال السلعة المشؤومة،لكنهم فوجئوا بالبشير وقد امتقع لون وجهه،ولم ينبس بكلمة رغم كل ما بذلوه من أسئلة استفسار،مما جعل الجميع يصيح ويبحث عن السبب، وعن نوع المكروه المحتمل الذي يكون قد أصاب عريس العائلة؟ !
بكت أمه ،وتألم والده ،واختلفت التفسيرات،فمن قائل بأنه أصيب بمس في ذلك المكان الموحش،ومن قائل بضرورة إحضار الفقيه للقيام بما هو معهود بالبلدة :
-أس ييسي الخط. (يقوم بقراءة ما حصل) لتحديد الفاعل !
قضت الأسرة والجيران ليلة ليلاء بجانب مريض لا يجيب،وكان لا بد من إغفاءة تسمح له بفتح ما، في اليوم الموالي !
في الصباح ، استعاد ،،البشير،،قواه العقلية،فروى قصته مع الحيوان المفترس،وكيف أنه انهار بعد مقاومة شديدة لم يحتمل معها الروائح الكريهة التي كان الضبع يفرزها ثم يغرق فيها خصمه حتى يستسلم،وكانت طلقة الراعي هي آخر عهده بعالم الأحياء، إلى أن استعاد بعضا من عافيته التي أدى ثمنها سيلا قويا من اللطمات كإسعاف أولي لا بديل عنه !
تأثر الجميع ورقوا لحال ،،البشير،،الذي ساق الله تعالي راعيا شهما ليخلصه من موت محقق، وكان لابد من وليمة للجيران دفعا للبلاء الآني والآجل.
لقد استطاع ،،عمي البشير،،أن ينقلنا إلى الأجواء المرعبة التي عاشها،والتي زرعت في نفوسنا مخاوف لا توصف، جعلتنا نشفق لحاله،ونحمد الله الذي قيض لهذا الرجل العزيز أن يجتاز امتحانا عسيرا ،كان ضحاياه كثيرين في فترة من الفترات.
رحم الله،،عمي البشير،،وزوجته الكريمة ،وجعلهما بجوار عباده الصالحين.
*للإشارة،فالرجل بطل القصة،هو العم الشقيق لصديقي وأخي ج.رابح قاسم الذي أرجو أن يتقبل هذا الترامي على ملكه ،وإن كانت محبتنا للرجل بدون حدود !