العقيد الطيار حسن المرضي: “النجم والليل والصحراء تعرفني : قصة الاختراق البطولي ،العجيب، لسجون المخابرات العسكرية الجزائرية بتندوف.”
العقيد الطيار حسن المرضي:
“النجم والليل والصحراء تعرفني”
رمضان مصباح الإدريسي
قصة الاختراق البطولي ،العجيب، لسجون المخابرات العسكرية الجزائرية بتندوف.
تقديم:
نعى منتدى القوات المسلحة الملكية -FAR.MAROC – “العقيد المتقاعد ،طيار مقاتل بالقوات الملكية الجوية ؛والأسير السابق بسجون المخابرات الجزائرية بتندوف ،الذي نجح في الفرار منها بشكل عجيب..”
ويحيل النعي على كتاب “الضابط السابق” علي نجاب:
25 ANS DANS LES GEOLES DE TINDOUF
؛حيث ترتسم ،مفصلة بطولة طيار لم يركب عنان السماء فقط،في الدفاع النبيل عن حوزة الوطن؛وإنما اخترق وحشة الصحراء وأهوالها في ليلة واحدة ،جريا ؛طاويا زهاء المائة كلم ،التي تفصل تندوف عن المحبس.
لم تكن يقظة المخابرات الجزائرية ،وأذنابها،ولا ضباع الصحراء وذئابها ،لتحول دون هذا “الماراطون” العسكري البطولي الذي أهداه حسن المرضي للوطن ؛مؤكدا أن الصحراء ليست خرائط فقط ،تحميها العسكرية الملكية المغربية ،بل مجمعا لقلوب المغاربة قاطبة ؛وهذا أقوى جيش بها ،إذ الحب لا يقهر ،ولا سلطة لأحد عليه.
وهذه ترجمة لنص الكاتب علي نجاب ،المؤلم والمشوق في نفس الوقت.
ورحم الله العقيد المرضي وكل العزاء لأسرته ،ولقواتنا المسلحة الملكية .
***
من هو حسن المرضي؟
“طيار مقاتل ،أسير حرب ،وأحد رفاقنا في الأسر بتندوف؛رحل عنا متأثرا بأزمة قلبية ؛ليسبغ الله عليه رحمته الواسعة.
لم ينتظر ،أن يفرج عنه معنا؛بل فضل الفرار من معتقل تندوف.
أنقل لكم ملحمته،كما أوردتها في كتابي :
فرار الطيار المقاتل الشجاع :حسن المرضي
انه اسم على مسمى ،وستتأكدون من هذا .
لقد زاول ،تحت قيادتي ، بمكناس ؛ضمن سرب التأهيل العملي للطيارين ،حيث أبان عن حماس مكنه من الترقي في تكوينه؛وهذا طبع معروف لدى طيارينا المقاتلين ،ضمن قواتنا الجوية.
تم نقله إلى الصحراء ،والحرب في أوجها.
حين النيل منه ،كان يقود طائرة من نوع F5 –مقاتلة مقنبلة- وهي طائرة بمؤهلات وقوة ،مع يسر في قيادتها.
على غرار العديد من طيارينا القناصين ،تخرج المرضي من المدرسة الفرنسية ؛الباقي تخرجوا من المدرسة الأمريكية ؛لكنهم كلهم بمعايير دولية.
في سنة 1980،اشتدت المعارك ب”رأس الخنفرة” ،في مستهل إنشاء الجدار الأمني ،شمال مدينة السمارة.
جبهة” البوليزاريو” التي كانت مزودة ،على الدوام، بأسلحة متطورة ،من طرف الجزائر وليبيا ؛حازت ،ومنذ 1976 ،الصاروخ المضاد للطائرات SAM-7 ،الموجه بالأشعة الحمراء ؛صاروخ مخيف حقا. في هذه الظروف أسقطت طائرة المرضي،كما حدث مع طيارين عديدين قبله وبعده.
حوالي نهاية الثمانينيات ،كنا لا نزال جميعا في نفس مركز الاعتقال قرب الرابوني بتيندوف. فاجأني ذات صباح بقوله: “قبطاني ،إني عازم على الذهاب..” قاطعته بحدة: إلى أين؟ . قاطعني بدوره ،مبتسما كعادته :” الذهاب إلى المغرب ،الالتحاق بوطني وأهلي ..هل لديكم ما تودون أن أبلغه لأسرتكم ؟”
طفقت أنظر إليه مندهشا ،ثم استفسرته: كيف ستحقق هذا ؟
في هذه اللحظة وقف بالباب قائد المركز ،معلنا عن آخر خرجة استراحة قبل مغيب الشمس.
قبل الرجوع الى المركز اختلينا أنا والمرضي بالقمة المشرفة عليه .أطلعني على خطتين:
نظرا لتشغيله بمركز الهلال الأحمر للجبهة ،؛حيث كان السجناء المغاربة يسخرون في إفراغ الشاحنات المحملة بأطنان من المواد الغذائية الموجهة للسكان المدنيين بالمخيمات؛فان الخطة الأولى – حسب رأيه – سينفذها بالقفز الى إحدى الشاحنات والتخفي تحت غطائها bache.
حال الابتعاد عن تندوف، على الطريق صوب بشار ،سيهتبل الفرصة المناسبة للقفز من الشاحنة ،ومواصلة السير على الأقدام في اتجاه الشمال.حملُه على التراجع عن هذه الخطة كان يسيرا ،لأنها ،بكل بساطة، خطة انتحارية.
فعلا فان المناداة على الأسرى ،مباشرة بعد العودة الى المركز ،ستُنهي هذا الأمر ،وستُعلنُ حالة الاستنفار ،في جميع الوجهات ،لتفتيش جميع وسائل النقل المغادرة لتيندوف؛وبصفة خاصة تلك المتجهة صوب بشار؛وعليه فهذا الحل استبعد بسرعة.
الحل الثاني كان أكثر وجاهة ،وان كان صعبا:أخبرني بأن بوسعه عبور المسافة الفاصلة بين الجدار الأمني المغربي ،من جهة المحبس ،ومعتقل الرابوني ،في ليلة واحدة ،وبالعدو الخفيف زيادة. هل تقوى على هذا ؟ سألته.
كان الجواب:”نعم أفكر في مزاولة التمارين البدنية كل ليلة “.أضاف شارحا بأنه يتقن الاسترشاد بالنجوم. كنت أعرف أنه شديد القوة البدنية ، ومن المؤكد أنه اقوى الضباط والطيارين المعتقلين. انه من قبيلة “آيت يوسي” بالأطلس المتوسط ؛من الأمازيغ الخُلَّص والشداد.
خلال محادثتنا بالقمة المشرفة على المعتقل ، توافقنا على أن أفضل حل هو ضرورة الصعود الى القمة الشمالية المقابلة ،مباشرة بعد مغادرة المعتقل ؛ثم الالتزام بخطها الى حين الاقتراب من تيندوف ؛ثم الاتجاه غربا. توقفنا عند هذه النقطة في محادثنا.
بعد هذا كان لي حظ الحصول على كتاب ،تضمن في صفحته الأخيرة خريطة؛تسلمته من جندي أسير .ناديت على المرضي ،وشرعنا معا في تقدير المسافة بين الرابوني والمحبس ،اعتماد على مقياس الخريطة .إذا لم تحني الذاكرة فقد حددنا مسافة96كلم.
اعتبارا لكون الجدار الأمني ينتصب على مسافة 30كلم من المحبس ،يبقى عليه أن يقطع 70كلم المتبقية في ليلة واحدة:يستغرق هذا حوالي 13ساعة.معدل 6كلم /ساعة كان في متناوله.
وفي الواقع فان التأهيل البدني كان قد بدأ قبل هذا بكثير ؛مع زيارة عمر الحضرمي،التي تمت في يوم من أيام سنة 1986 ؛بمركز الاعتقال المسمى “حامدي با الشيخ” .
اهتبلناها فرصة لنطلب منه السماح لنا بمزاولة الرياضة.استجاب لنا ،وعمل على تزويدنا بشباك للكرة الطائرة ،وكرات للقدم.
ابتدأنا أولا بالعدو الجماعي ؛ومن المحتمل أن البعض كانت تراودهم،فرادي، فكرة التخطيط للهروب،لكن لا أحد يتحدث في هذا.
ومع توالي الزمن تلاشت المواظبة على العدو ؛وحدهما المرضي و الملازم أستاتي ثابرا على الرياضة.
بعد هذا بسنة (1987) هرب الملازم أستاتي .غادر مركز الاعتقال مباشرة بعد مناداة المساء؛منتهزا غفلة من رئيس المركز ،ليتبخر في الطبيعة.
اعتقل في الغداة وأعيد الى المركز.
لمعاقبتنا واهانتنا عمد البوليزاريو الى إرغامنا على الحبو،على مرآى من الجنود ، مرتدين تباناتنا فقط.
هكذا مُنعت الرياضة ،وتم نقلنا الى بناية أخرى ،تتشكل من قباب بنيت خصيصا لنا من طرف الجنود.في هذا المكان الجديد عاود المرضي مزاولة رياضته..
يحكي:
“كنت أقيم في القبة رقم ثمانية،مع الملازمين الرحموني والبكوشي.بعد إطفاء الأضواء كنت أقف خلف القبة وأشرع في القفز على الحبل .استمر هذا عاما كاملا.
قصدني ذات يوم القبطان اليوسي ،وقد كان موضع ثقة لدى البوليزاريو ،ليأمرني بوقف التريض؛مما أثار اندهاشي.
توقفت فعلا لمدة خمسة عشر يوما ،وبعدها عاودت القفز على الحبل ،لكن بأقدام حافية ،بجوارب حتى لا أحدث أي ضوضاء.
كانت حصص الرياضة تتراوح بين الساعتين والساعة ،أحيانا؛ نظرا لحاجتي للراحة ،اعتبارا لعملي بالهلال (نوع من الهلال الأحمر لدى البوليزاريو،حيث كان علينا ،بمعية خمسة عشر أسيرا، أن نفرغ حمولات خمسة عشر شاحنة من المواد الغذائية الموجهة لساكنة المخيمات من المدنيين).
عاود القبطان اليوسي مفاتحتي ،ليخبرني بأنه سيغمض عينيه عني- تأنيب ضمير بالتأكيد – وعليه فبوسعي ممارسة تمريناتي بدون خوف.
أثناء الليل ،وأنا أتأمل النجوم ، كنت أشعر بالحاجة الى من يشجعني ؛لكني لم أعثر على أفضل مني .كنت أخاطب نفسي: إذا كان بعض الجنود قد تمكنوا من الفرار بنجاح ، فما الذي يجعلني لا أنجح في مسعاي؟ إن الشوق الى أبنائي ،عائلتي ، حريتي ووطني ،لعب دورا كبيرا في إعدادي الذهني.”
إن المناداةAPPEL،وقد كانت تتم في ساعات:السادسة مساء ، ومنتصف الليل ،والسادسة صباحا ،لم تكن لتتيح له أية فرصة.
الخروج بعد منتصف الليل كان بمثابة انتحار لأن ست ساعات من المشي لن تذهب به بعيدا جدا.
لقد فكر في حيلة ،أخبرني عنها ،إذا لم تخني الذاكرة ؛كانت تتمثل في مطالبة أحد الجنود بالحلول محله ،أثناء المناداة .فعلا كان هذا ممكنا ،فمعتقلنا كان مجاورا لمعتقل الجنود :كان هناك جدار فاصل بسيط يمكن تسلقه بسهولة .
اتفق المرضي مع جندي اسمه ربيع ليتواجد بالزاوية غير المضاءة من الجدار الفاصل بين المعتقلين. مكنه من جلباب ليرتديه ويتموقع وسط الصفوف أثناء المناداة.
ما أن يغلق رئيس الموقع الباب،حتى يسارع ربيع الى العودة الى مكانه بالمعتقل ،ليحضر المناداة الخاصة بالجنود.
هذا الحل الذي بدا لي عمليا ، سيمكن المرضي من الخروج مباشرة مع غروب الشمس ؛وبهذا سيربح خمس ساعات ثمينة . مع الأسف تم التخلي عن هذا الحل لأسباب أجهلها.
على مدى شهر ،قبل مغادرته ،داوم المرضي على النوم في الساحة ،موهما بخلاف بينه وبين جماعته ؛وهو في الحقيقة يفكر في تجنيبهم تبعات فراره.
انتظر بضعة أيام ،عمد فيها الى إفراغ كميات من الرمال في المكان الذي سيقفز إليه ؛لتخفيف السقطة ولعدم إحداث أي صوت.
حدثت أزمة وقود في المركز ،فكان عليهم توقيف محرك الإنارة قبل الموعد المألوف.
وبموجب هذا تم العدول عن مناداة منتصف الليل ،وجعلها في العاشرة.
كان يجب حل مشكل الخروج أيضا ؛ ففي اليوم السابق لهروبه تظاهر المرضي بكونه يصلح شيئا ما في الجدار ؛لكنه في الواقع كان يقطع سلك الضوء الكشاف المسلط على الجهة التي سيغادر منها. ظهر مشكل آخر يتطلب حلا:
كانت هناك كلبة كثيرة النباح ليلا،خلف كل من تحرك حول المركز.
استغل ليالي نومه في الساحة ،ليتأقلم مع مواقع النجوم (تبدل اتجاه نجم الكرسي،تغير موقع النجمة القطبية..)
قبل يومين من المغادرة قصد الراضي الجنود الأسرى ،المكلفين بغسل ثياب الحرس ،ليطلب منهم ربط الكلية،بدعوى إزعاجها للضباط ليلا.
فعلا تم ربط الكلبة،ليلا، من يومها.
يوم 19 يونيه ليلا،بعد المناداة التي تمت في التاسعة والنصف ،وبعد إطفاء الأنوار ..
أترك السرد للمرضي:
“تظاهرت بالذهاب الى النوم ، في مكاني المعهود بالساحة؛ارتديت “شورت” وفوقه سروال ،ثم قميصا ،والكل باللون الكاكي.
غادرت متسلقا الجدار ؛معتمدا سقيفة زنك،حذرا حتى لا احدث ضجيجا.
قبل أن أرتمي قافزا استبد بي نوع من التردد:اقفز أم لا ؟القفز يعني نقطة اللاعودة..أخيرا قفزت فعلا.
كان علي ،بعد أن لامست قدماي كومة الرمال التي راكمت قبلا،أن أعبر جدارا آخر ،لكنه أقل علوا .درت حول الجدار ثم اتجهت شمالا.حين بلغت القمة ،وقد اخترت السير في خطها لكثرة احجارها التي تحول دون تركي أثرا لقدمي،التفت ورائي للتأكد من كون كل الأضواء مطفأة. ترددت لبرهة بخصوص موقعي بالضبط،لكن سرعان ما حددته ،مقارنة بموقع تيندوف ،التي تتراءى لي أضواؤها من بعيد .
خلعت السروال ، لففته على ذراعي ثم طفقت أعدو خفيفا،مرتديا “الشورت” ومنتعلا حذاءا رياضيا. ما أن أدركت جوار تيندوف حتى انعطفت غربا،والنجمة القطبية عن يميني .
حافظت على إيقاع سرعتي ،شديد الحرص على أن أكون في الوجهة الصحيحة ،معتمدا النجمة القطبية. خلال مساري مررت بحزامين ،لكن بدون أي وجود بشري.
يالها من راحة .الليل حالك السواد ؛وكم كنت أشعر بالخوف ،حينما تتراءى لي ظلالٌ أحسبها لعربات ،لكنها لم تكن غير أشجار “أكاسيا”. بغتة داهمني الإحساس بالتعب.
يجب أن أكون في منتصف الطريق .البرد قارس ،ويداي متجمدتان تقريبا .
استعاد ذهني تجربة الملازم أستاتي ،فتشجعت من جديد.عاودت العدو الخفيف ،لكن سرعتي تراجعت.ثم طفقت أزاوج بين العدو والمشي.
فجأة مررت بمنزلين صغيرين ،وشعرت بأني أسير فوق ما يشبه سلكا كهربائيا .
توقفت لبرهة،متفحصا ،لكني لم أر أحدا. عاودت في الحال إيقاع العدو ؛وسأكون كاذبا إن ادعيت أنني فكرت،وقتها، في شيء آخر من غير الإفلات من البوليزاريو ،وبلوغ الجدار الأمني المغربي ،في أقرب وقت .وعليه فليس في وسعي شيء آخر غير العدو.
فجأة لاح ضوء النهار ،فعاودت لبس سروالي قصد التخفي أكثر.استبد بي خوف شديد فشرعت في العدو بكل قواي. أحيانا يداهمني شعور باليأس ،لم أكن أتغلب عليه إلا بتخيل نفسي قد وصلت فعلا،وأني بين أفراد عائلتي.لم تكن الشمس بعد في السماء.
فجأة ظهرت أمامي كومة رمال ،على بعد كيلومتر واحد أو اثنين .أدركت لحظتها أنها جدار المحبس. إني إذن في التراب المغربي .غمرني شعور بالارتياح لإفلاتي من قبضة البوليزاريو.وفي غمرة من السعادة اشتدت سرعتي أكثر.
كنت على بعد حوالي 800م حين خلعت قميصي ،وشرعت ألوح به في الهواء.
صعد أحدهم فوق كومة الرمل وأمرني بالتوقف.ثم شرع في إرشادي الى الطريق الآمن ،بإلقاء أحجار ؛تفاديا للألغام.
حينما دنوت منه قدمت نفسي. كان الرجل ضابط صف ،ويمسك بين يديه رشاشا يصوبه نحوي .وما أن قدمت نفسي حتى أزال شاحن الرصاص من الرشاش ولف يديه حولي معانقا. استفسرته عن الساعة فكانت الثامنة.”
لقد قطع حسن المرضي مسافة تتراوح بين 86 و90كلم،في 12 ساعة،بمعدل 7كلم في الساعة.
إنها كفاءة رياضي كبير.
عاود حسن المرضي مكانته في القوات المسلحة الملكية برتبة ملازم ثاني،وواصل الخدمة في القوات الجوية ،طيارا مكوِّنا في ALPHA-JET.
واصل مسار ترقيه الى أن أحيل على التقاعد برتبة عقيد.
غادر القوات الجوية جراء أزمات قلبية ألمت به.