عقرب على الجذاذات
محمد شحلال
كلما حمي وطيس المعركة بين رجال التعليم في ظل تصنيفاتهم المتناسلة مع الوزارة الوصية،الا وحضرتني بعض الأحداث التي عشتها في بداية مساري المهني.
واذا كان من حق هذه الفئات التي تخوض الصراع من أجل ضمان المكاسب البديهية للموظف،فانها بالمقابل،ملزمة بتقدير الحيف المادي والمعنوي الذي ظل يؤرق مدرسي الطور الابتدائي خارج المدن خاصة فيما يعرف بالفرعيات.
لقد اشتغل المعلمون في مناطق لا يفيد معها الا الصبر بل والتجمل لصعوبة تضاريسها وانعدام أدنى شروط الحياة اللائقة برسل العلم.
ولعل حادثة واحدة مما تحتفظ به الذاكرة،تقدم الجواب المفحم لبعض المدرسين الذين يطالبون بالبنى اليابانية في المغرب العميق حتى يقوموا بالواجب،والا فان مغاربة الهوامش منذورون للجهل حتى تنتقل الحضارة الى الجبال والأحراش !
كنت أتنقل بين بلدة،،سوق السبت أولاد النمة،،للعمل،ومدينة بني ملال حيث أقيم ،لأستهل مساري المهني ب،،المكوكية،،.
كنت أسافر في جل الأيام عبر،،الطاكسي،،بينما أعود مساء يوم السبت في حافلة،،CTM،،القادمة من البيضاء والتي تتخلص من جل الركاب تدريجيا، لتصل الى وجهتها شبه فارغة.
توقفت الحافلة ذات مساء لتنقذ معلمة كاد يبتلعها الظلام وهي في مكان خال من السكان، ويوفر فضاء مناسبا لمحترفي الاجرام.
صعدت ،،المربية،،ومحفظتها ،،العامرة،، فاجتذبتها محفظتي لتجلس الى جانبي بعد استئذان لطيف.
لم نكن بحاجة لكشف الهوية،لأن المحفظة وأثر الطباشير والوزرة،وثائق كافية وتغني عن السؤال.
ما ان سألت جليستي عن مقر عملها، حتى انفجرت لتصف أحوالها وهي لا تقاوم سيلا ساخنا من الدموع.
أوضحت المربية غير المحظوظة،بأنها تشتغل على بعد كلمترات من المكان الذي توقفت فيه الحافلة،وأن مقر العمل عبارة عن حجرة واحدة، بنى السكان على بعد أمتار منها بيتا تقليديا سقفه خشبي،له باب قد يخرج عن اطاره في اول محاولة،أما الماء فيجلبه الاطفال من ساقية تعبر الحقول…
لم تهتم المربية بشروط الحياة أكثر مما اهتمت بصراعها مع العقارب التي تسبقها الى الجذاذات،حيث يحلو لها أن ترفع زباناها للرد على اول ازعاج !
استرسلت المسكينة في وصف معاناتها،حيث اضطرت في احيان كثيرة الى الاحتفاظ بمصباحها اليدوي مشتعلا الى الصباح لمطاردة هذه الكائنات السامة،تفاديا للعواقب المحتملة في منطقة منقطعة عن العالم الخارجي.
كان حديث الرحلة محصورا في وصف المعاناة التي تعيش في ظلها هذه المدرسة،فكيف اذا علمنا بأن الخريجين ،كانوا ينتظرون شهورا طويلة يومئذ لتسوية أوضاعهم المادية،وللمرء أن يتصور كيف يتدبر ابناء الأوساط المعوزة شؤونهم في هذه المرحلة الانتقالية؟
تحولت الرحلة المشتركة مساء كل يوم سبت، الى مناسبة لترافع فيها المدرسة وتفرغ قلبها مما تزاحم فيه من انكسارات،لتسمع مني مواساة لا تقدم ولا تؤخر !
كنت أكثر حظا منها،فقد غادرت البلدة بعد عامين، بينما تركتها تصارع العقارب الى ان يقضي الله أمرا كان مفعولا.
في نهاية هذه الجولة،أجزم بأن غالبية المدرسين لم يفرطوا في أداء الواجب يومئذ رغم كل الاكراهات ،فهل تحولت الوطنية اليوم الى سلعة بخسة نلقي بها عند اول امتحان ؟
أتألم حين يسارع البعض الى مقارنة شروط الحياة في بوادينا بما يسود في اليابان وكندا وبلاد الاسكندناف،لكن لا أحد منا يقارن نفسه بالمواطن هناك وما يختزنه من روح وطنية تسبق كل ما عداها من الاعتبارات