فيلم “الذاكرة 14” لأحمد البوعناني بين مقص الرقابة وتعدد القراءات
أحمد الجبلي
نظم نادي الصورة والسينما بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة مائدة مستديرة لمناقشة فيلم “الذاكرة 14″ للمخرج المغربي المرحوم أحمد البوعناني، وذلك يوم السبت 23 أبريل 2022 في الساعة الواحدة زوالا، تحت إشراف وتسيير الدكتور الأستاذ مولاي أحمد الكامون.
لا يخفى على أحد أن السينما المغربية، كما هو الشأن بالنسبة لكل السينما العربية، لم تستطع أن تخرج عن النمط المصري أو الاستعماري في بداياتها الأولى، وقد استمر ذلك على هذه الحال إلى أن ظهر مخرجون سينمائيون حاولوا الخروج عن المألوف بإبداعاتهم المتميزة التي صبغت السينما المغربية بطابعها الخاص في قوالب فنية وتقنية جعلتها تقلع بقوة لتشق طريقها نحو الشهرة وتوطين المكانة المرموقة في مجال الصناعة السينمائية.
من هؤلاء يذكر الأستاذ الكامون المخرج السينمائي المغربي أحمد البوعناني، ابن الدار البيضاء من مواليد 1938، المتعدد المواهب إذ يعتبر كاتبا سينمائيا، وممثلا، وشاعرا، ورساما، فضلا عن تخصصه في المونتاج والتركيب، لقد تخرج البوعناني من معهد الدراسات العليا السينمائية بفرنسا سنة 1963، ليعود إلى وطنه ليبدأ مسيرته الفنية في إغناء الخزانة المغربية، فكان فيلم طرفاية أو مسيرة شاعر” أول أفلامه سنة 1966 قبل أن يدخل في الإنتاج المشترك ليصنع فيلم “12-6” الذي يبرز فيه البوعناني فلسفته الخاصة في المونتاج والسكريبت. فضلا عن أفلام أخرى تعبر عن عبقريته رحمه الله.
ويعد فيلمه “السراب” (إنتاج سنة 1979) تحفة سينمائية مغربية بالأبيض والأسود، جمع بين جمال الصورة وروعة تناول تيمة الفقر والاستغلال والقهر إبان فترة الاستعمار الفرنسي.
بعد هذا التقديم الذي قام به الدكتور مولاي أحمد الكامون، تعريفا وإنصافا للمخرج المغربي أحمد البوعناني، فتح المجال لمناقشة التحفة البوعنانية الثانية ألا وهي فيلمه “الذاكرة 14” الذي
أصله عبارة عن أرشيف بالمركز السينمائي المغربي حول مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب، فحول منه البوعناني، بفضل خبرته في المونتاج، وقصيدته الشعرية المصاحبة، فيلما وثائقيا وتاريخيا يسجل بفخر مناهضة المغاربة للإستعمار. إلا أن الفيلم قد تعرض للكثير من عمليات الحذف والتقليص عن طريق مقص الرقابة الذي مارسه المركز السينمائي المغربي، حيث أصبحت مدة عرضه 20 دقيقة تم عزلها من بين أزيد من الساعة والنصف، وهو الأمر الذي أحدث نقاشا وجدلا بين الحضور، وجعل وجهات النظر تتضارب في تعاطيها مع تركيبة البوعناني لهذه الذاكرة، إذ رأى البعض أن من الصعب مناقشة أحداث الفيلم وهي مبتورة من سياقها العام الذي حتما جعله المخرج البوعناني متناسقا قبل أن يتعرض لعملية مقص الرقابة. كما عبر البعض عن استيائه من عمليات البتر هاته على اعتبار أن الأصل هو احترام التاريخ والتعامل معه كما هو، فضلا عن احترام حرية التعبير والإخراج لأن الإبداع لا يمكن أن ينمو إلا في إطار الحرية بعيدا عن أي تدخل تعسفي أو مقص الرقابة الذي من شأنه أن يخل بالموضوع كما يخل بجمالية الإخراج السينمائي نفسه.
كما شبه البعض الفيلم، موضوع النقاش، بفيلم “رجل مع كاميرا” (1929) للسوفياتي دزيكا فيرتوف، لكونه فيلما اعتمد على المونتاج والموسيقى التصويرية، ولكن بفضل براعة ديزيكا في المونتاج أسس لتقنيات باهرة في الإخراج، رغم ضعف الإمكانيات والآليات، حيث لأول مرة سيتم استعمال التعريض الضوئي المتعدد، والحركة السريعة، والحركة البطيئة، وتجميد الإطارات، والشاشات المنقسمة، والزوايا الهولندية، واللقطات المقربة جداً، ولقطات التتبع، واللقطات العكسية، والرسوم المتحركة لإيقاف الحركة والمرئيات الانعكاسية الذاتية، وتقسيم الشاشة…وإذا كان فيلم “ديزيكا” قد أسس لكل هذه التقنيات على مستوى عالمي، فيمكن القول بأن المرحوم أحمد البوعناني من خلال فيلم الذاكرة 14 قد أسس لتقنيات سينمائية على المستوى العربي إذ جمع بين اللقطة المكبرة، واللقطة المصغرة، وتحريك الكاميرا من الأعلى إلى الأسفل في جولة بانورامية تخدم دلالات السياق السردي الفيلمي، كما قام بتوظيف الصورة الجامدة والصورة المتحركة في قالب درامي مؤثر يؤثث لمشاهد القتل والرعب الذي مارسه الاستعمار الفرنسي الغاشم في حق الشعب المغربي الأبي. فضلا عن عملية ميكساج أو دمج القصيدة الشعرية في عمق الأحداث تأثيثا للمشاهد والأحداث مما خلق تعددا في آليات الخطاب الموجه للمشاهد. دون أن ننسى توظيفه للمحكي الشعبي وصور الأساطير منها صورة علي بن أبي طالب وهو يقتل راس الغول كناية عن الجهاد ومناهضة المستعمر.
لقد أثار فيلم “الذاكرة 14” نقاشا حيويا وجدالا فكريا وتاريخيا بين الحضور، مما أغنى هذه المائدة بتعدد الآراء وتدافعها، كل ذلك عزز من اعتبار نادي الصورة والسينما ملتقى للحوار على أرضية أفلام سينمائية جادة وملتزمة.