الالتزام في السينما.. كوستا غافراس نموذجا
أحمد الجبلي
لقد دأب نادي الصورة والسينما بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، في سياق عرضه للأفلام ومناقشتها، على العمل باستراتيجية المحاور، وذلك لأن مناقشة الفيلم ضمن محور معين من شأنه أن يحقق مجموعة أمور منها: توجيه عملية انتقاء الأفلام بشكل ممنهج، تأطير النقاش في إطار معرفي وثقافي، ضخ سيولة من الأفكار والأطروحات في إطار موجه يحد من التيه والتشعبات، كما تسهم هذه الاستراتيجية في توفير مادة غنية معرفية فكرية وفنية تساعد النادي في توثيق أعماله وجمعها حتى تكون في متناول أعضائه ومحبي السينما من جهة، والطلبة الباحثين الذين يشتغلون على أطروحات في نفس المجال من جهة أخرى.
من هذه المحاور نذكر محور “السينما محطات تاريخية” كأول محور منسجم مع انطلاقة الاشتغال في مجال السينما ومناقشة أفلام منتقاة بعناية () ك”نانوك من الشمال” (1922) للمخرج الأمريكي روبرت فلاهرتي، كأول فيلم وثائقي في تاريخ السينما، و”المدرعة بوتمكين”(1925) لسيرجي إيزنشتاين، كتحفة سينمائية لازالت تعتبر مرجعا في صناعة السينما، و “رجل مع كاميرا” (1929) للسوفياتي دزيجا فيرتوف، الذي أسس به لتقنيات باهرة في الإخراج، رغم ضعف الإمكانيات والآليات، حيث لأول مرة سيتم استعمال التعريض الضوئي المتعدد، والحركة السريعة، والحركة البطيئة، وتجميد الإطارات، والشاشات المنقسمة، والزوايا الهولندية، واللقطات المقربة جداً، ولقطات التتبع، واللقطات العكسية، والرسوم المتحركة لإيقاف الحركة والمرئيات الانعكاسية الذاتية، وتقسيم الشاشة…
كما تم عرض، ضمن نفس المحور، بعض أفلام شارلي شابلن التي شكلت لبنات أساسية في الإخراج والتصوير والمونتاج كفيلم “العصور الحديثة” (1936).
وضمن نفس المحور تم عرض ومناقشة فيلم “سارق الدراجة” للإيطالي فيتوريو دي سيكا، وهو فيلم اعتبر من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، وقد جعلته مجلة « صورة
وصوت» البريطانية الشهيرة من بين أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما بناء على استفتاء أكبر عدد من النقاد من كل أنحاء العالم.
ويعد محور “السينما والالتزام” آخر محور لازال النادي يشتغل عليه، ويناقش أفلاما اعتبرها النقاد أفلاما ملتزمة إلى حد كبير، فمن هذه الأفلام نذكر فيلم “الطفل” لشارلي شابلن (إنتاج سنة 1921)، الذي تم عرضه ومناقشته بتاريخ 8 يناير 2022 من تنشيط الأستاذ الهبري زكاغ، وقد اعتبر هذا الفيلم ملتزما، بمفهوم من المفاهيم، حتى قبل ظهور مصطلح الالتزام في بداية السبعينات، وفيلم “الذاكرة 14” للمرحوم أحمد البوعناني (إنتاج سنة 1970) تمت مناقشته بتاريخ 23 أبريل 2022 تنشيط الأستاذ مولاي أحمد الكامون.
وفي بحر هذا الأسبوع بتاريخ 30 أبريل 2022 قام النادي بمناقشة موضوع “السينما الملتزمة عند كوستا غافراس من خلال فيلم (Adults in the room) (راشدون في غرفة) ( إنتاج سنة 2016) من تنشيط الأستاذ بوعياد إمناشن.
لقد حضرت الفيلم عينة من المثقفين والمهتمين بهذا النوع من السينما المعاصرة الملتزمة والمتميزة، خصوصا بعد علمهم أن صاحب الفيلم أحد أعمدة السينما العالمية المشهود لهم بالجدية والالتزام وتناول قضايا شائكة ومحرجة وبقالب فني يظاهي به اقوى المخرجين في العالم.
لقد عرف الأستاذ بوعياد المخرج كوستا غافراس منذ نشأته إلى أن أصبح له مسار متميز خاص به في السينما العالمية، بتركيز على أهم الأحداث التي عاشها في حياته والتي صنعت منه ما هو عليه الآن كسينمائي مهووس بالواقع ولا يتلاعب بوعي المتلقي، ويوظف السينما كآلية للوعي إذ يسعى إلى خلق علاقة بين المتلقي والسينما بخطاب فني من شأنه أن يحول هذا المتلقي من فار وهارب من الواقع إلى فاعل فيه قصد إحداث تغيير إيجابي في هذا الواقع. ولعل هذا هو المعنى الحقيقي للالتزام عند كوستا غافراس كما يقول الأستاذ بوعياد، أي أن الالتزام عند غافراس تمليه واقعيته في التعاطي مع الأحداث كما هو الشأن بالنسبة لفيلم z (إنتاج سنة 1965) الذي اعتمد فيه على ملابسات اغتيال السياسي اليوناني Grigóris Lambrákis في عام 1963. وفيلم “المفقود( إنتاج سنة 1982) والذي يتأسس على قصة حقيقية حيث يتحدث عن انقلاب تشيلي العسكري عام 1973 وتورط الحكومة الأمريكية بدعم الانقلاب بشكل سري، ويسلط الضوء بشكل دقيق على تصفية بعض الجالية الأمريكية في تشيلي إبان الانقلاب العسكري وذلك بسبب معرفتهم بتدخل الحكومة الأمريكية بدعم الانقلاب. أما الفيلم، موضوع النقاش والتحليل “راشدون في غرفة” فيدور حول أزمة الديون اليونانية وشروط أوروبا لإنقاذ اليونان من الإفلاس، ويسلط الضوء على مفاوضات حزمة الإنقاذ المالي لليونان في العام 2015، وهو مقتبس من كتاب وزير المالية اليوناني Yلnis Varoufلkis المكلف بالمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي.
كما يتجلى الالتزام عند غافراس في تشكيل خطاب بعيد عن الديماغوجية أو العمل على تزييف الوعي كما هو الشأن النسبة للعديد من سينما البهرجة والاستعراض، وهو يترك للمتلقي كامل الحرية في تبني موقف أو اتخاذ قرار تجاه الأحداث، أي في كل الأحوال غافراس يمارس خطابا سينمائيا فنيا من خلال واقع يعيه جيدا واقع يعيش فيه أناس يعرف معاناتهم بشكل جيد، وكأنه يقذف بالكرة للمشاهد ليفعل ما يشاء في احترام تام لرأيه والزاوية التي ينظر بها لأفلامه.
إن فيلم “راشدون في غرفة” يترجم أحداثا وقعت في بلاده اليونان، أي كان غافراس على علم جيد بالأحداث ساعده في ذلك مذكرات المحاور المباشر للاتحاد الأوربي لإعادة جدولة الديون وزير المالية يانيس فاروفاكيس، كما يعلم الضغوطات الاجتماعية الخطيرة التي عاشها الشعب اليوناني حينها، فحتى المرحلة التي أنتج فيها هذا الفيلم لا تبتعد كثيرا عن سنوات الأزمة وبداياتها أي لا تبتعد كثيرا عن سنة 2010، مما يجعل الجرح في قلب كل يوناني لا يزال لم يندمل بعد، مما سيحقق تفاعلا منقطع النظير، وبالتالي يبقى لهذا الجمهور اليوناني وحده أن يحدد الكيفية التي سيتفاعل بها مع عملية التأريخ الفني السينمائي لما عاشه من أزمات وله أن يحدد موقفا مما حدث بالشكل الذي يراه في ظل الفيلم وما حكاه من أحداث.
يمكن أن نقول بأن غافراس مخرج سينمائي ملتزم بمفهوم خاص للالتزام قد لا نجده عند غيره، فهو يعتبر السينما، فوق كل شييء، فرجة، فضلا عن كونها فنّا جماهيريا وصناعة سينمائية تتأسس على الإلمام بأدوات السرد الفيلمي في غير معزل عن تاريخ الفن والسينما، كما تتطلّب تكويناً ثقافياً متيناً، وإلماماً بمجالات مختلفة تتعلّق بالعلوم الإنسانية، لفهم المجتمع والفرد الذي يتم من خلاله التعبير عن المجتمع.
إن فيلم راشدون في غرفة، كباقي جميع أفلام كوستا غافراس، يفرض نفسه على المشاهد بكل قوة، ويحمله على التفكير بعمق في الأحداث ومجرياتها مناقشا ومحللا، لأيام وربما أسابيع بعد المشاهدة الأولى، كما سيدرك بأنه شاهد فيلما بعيدا كل البعد عن التكلف السينمائي المفرط في المؤثرات والأضواء والهوامش والاستطرادات التي، في الغالب ، تكون عبارة عن حشو ليس إلا. يمكن، بذلك إذن، تصنيف سينما كوستا غافراس في خانة السهل الممتنع في مجال صناعة السينما.