هل وصلت رسائل “الوباء” إلى البشرية ؟
كمال الدين رحموني
لا يجادل أحد أن ما تفرّدت به الألفية الثانية خلال عقدَيْها الأول والثاني، نزول وباء ” كورونا” الذي غطّى بوشاحه كل الأوبئة السابقة، بصرف النظر عن دوافعه وأسباب حلوله بين كونه ” فيروسا” أو “مصنوعا” على عين المختبرات، لمواجهة التكاثر البشريّ الذي ضاقت به الحضارة المادية دَرعا، فأرادت حصر الوباء ضمن زاوية من الزوايا المذكورة، مع التغاضي عن البعد الغيبيّ القدَري الذي يتأرجح بين عالـَمَيْن: عالم الغيب والشهادة. فالأول لا يعترف بمصدرية الوباء الربانية أو يتجاهلها، على اعتبار أن هذا الكون وما يجري فيه له متصرّف يتصرف فيه كيف يشاء ومتى شاء، وأما الثاني فينطلق مما يؤمن به العقل فحسب، ومن ثم فالوباء لا يغدو كونه “فيروسا” مجرَّدا من كل الإحالات غير العقلية. إنّ حضارة المادة -المجردة من قبس الوحي-تعرضت لاختبار رهيب خلال وباء “كورونا” لعلها تنشُد الرشد، فتهتدي ثم تنحني إجلالا وتواضعا لمن يعلم السر وأخفى وما ينفع الإنسان وما يضره، ولذلك يتعزّز القول بأن وباء العصر لم يأت عبثا أو يحلَّ “صدفة” رغم طابعه الوبائيّ الذي يخضع للتشخيص البشريّ، ومع ذلك لا يليق أن يبقى الإصرار على تحييد البعد الغيبيّ القدريّ رغم إصرار العقل البشريّ على مجافاة هذه الحقيقة الكبرى التي ترجمتها حالة العجز البشريّ في مرحلة من مراحل نزول الوباء، وسرعة التفشي التي ظلت تتسارع فيحصد معها الوباء ملايين البشر. ومع الاختلاف حول مرجعية الوباء، فإن مما تحقّق الإجماع حوله هو آثاره الرهيبة التي خلخلت ما ظل يعتبر من المسلّمات المعرفية، حيث وقف العلم حائرا في مواجهة الوباء الكاسح، في عالم توفرّت لديه كل مقومات الفعل في حياة مادية زاخرة بالثروة والتكنولوجيا والازدهار الاقتصاديّ، وتبيّن مع كل هذه القوة المادية أن الوباء استعصى على إنسان تلبّسَ بأناهُ الكليلة التي ظل يزهو بها وينتشي، فخُيّلَ إليه أنها “حية تسعى”، وغدا يدّعي أنه قادر على “تطويع” الكون ، و”التصرف” فيه اعتمادا على الطفرة التي طاردها فغدت طوع بنانه. لكن حين نزل وباء “كورونا” بحدَّته التي تجاوزت كل أنواع الأوبئة التي عرفتها البشرية في القرون الماضية- بدأت تتكّشف بعض المعاني الغيبية الغائبة التي طواها الإعراض عن الذكر، وركنتْها مادِّيةُ العصر القاحلة، وشرعت الفطرة – التي غشّاها ما غشاها من الغفلة والجحود- تتساءل عما جرى ويجري في حالة من الذهول. ولعل ما ترجم هذا الانزياح المتباطئ على مستوى العقل الماديّ هو تلك المبادرات المحتشمة التي لاحت في بدايات الوباء الأولى، تتلمس البحث عن شيء ثابت يؤازر العقل الحائر الذي بلغ سقف الطموح المتفلّت من كل قيد، وهنا انبرى ثابت الدّين الذي ظل مغيَّبا عن مفكرة العقل المادي لعله يجد شيئا من التقبّل أمام الوباء الكاسح، لكن سرعان ما توارى هذا التلمّس، حين بدأت مضاعفات الوباء تتضاءل، وكأن الإنسان بإصراره العنيد يأبى إلا أن يحبس النفس في حمأة الأزمات المتجدّدة المتعددة، حتى لو كان الثمن باهظا في الأرواح وحياة الضّنْك التي تلظّى بلهيبها الإنسان ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾. والمعيشةُ الضّنك هي حياته بعيدا عن عالم الغيب. ولما ظلت البشرية تتفاوت من حيث المعتقداتُ والاقتناعات الثقافية، فإنّ أثر ذلك انعكس بشكل ملحوظ على التعاطي مع الوباء. لقد كان من هول هذا الوباء أنه حصد أعدادا عريضة من الناس، لم يفرّق بين جنس وآخر، أو طبقة وأخرى، أو بلد وآخر، أو بين مجتمعي الرفاه والهشاشة، واستطاع بقدرة القادر ﷻ أن ينزلَ على البشرية “ضيفا ثقيلا” في كثير من البيئات الاجتماعية العالمية، وكانت تداعياته أشدَّ إيلاما خاصة في بيئة الغرب المتحضّر مقارنة مع العالم الآخر. لقد تعايش الإنسان مُكرَها مع “كورونا” في بيئة خيّم عليها الرعب، وعمّ الوطنَ- أيضا- كثيرٌ منه، بعدما تغير فيه كل شيء تقريبا، ولم تعُد أحواله طبيعية كذي قبل، وأصبح الوضع الاستثنائيّ هو السائدَ في ظروف عصيبة من الطوارئ الصحية التي رافقتها إجراءات قاسية وقرارات شديدة، نظرا لطبيعة البنية الاجتماعية والإمكانات المتوفرة، وأشدُّها حالاتُ الإغلاق والحجر والحملات التحسيسية الزجرية التي شكلت منعطفا استثنائيا في زمن الوباء، نظرا للخطورة التي ظل الوباء يخلّفها بآثاره وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والدينية على المؤسسات والأفراد والجماعات، ومن ثم كان طبيعيا أن تعُمَّ المعاناة فتَمَسَّ كلَّ مكونات الحياة الطبيعية، وإذا بالوباء يخلخل كل الأسس التي ظلت قائمة، ويصيب العلاقات الاجتماعية التي تأثرت بشكل كبير. ورغم اختلاف درجات التأثير الوبائيّ من بيئة لأخرى، إلا أن الجامع الذي لم يستثنِ أحدا هو حالات الخوف والهلع السائدة في المجتمع، التي تجلت في أشكال صريحة يعبر عنها الأفراد، وأخرى ضمنية ظل التحفظ عليها حاضرا حفاظا على السلم الاجتماعي. ومما ينبغي الإشارة إليه، هو أن نزولَ” الوباء” بهويته المجهولة علميا، والتصديَ له بالـمُستطاع مما كسبت أيدي العلماء من الباحثين، كان له بعض الآثار الإيجابية في التقليل من آثار تداعياته التي لن يتخلص منها المجتمع البشريّ إلا بعد تعاقب الأيام، ليتحول التعاطي معه بعد سنتين باعتباره وباء كسائر الأوبئة التي عرفها تاريخ البشرية الحديثة. وإذا كان نزول الوباء في الانطباع العالميّ العام قد انصبّ على المعطى العلميّ الصرف، فإنه قد استطاع أن يجد له آذانا صاغية من خلال رسائله المشفَّرة التي التقطها من يزاوج في طبيعة وجوده بين عالمي الغيب والشهادة، ومن ثم وصلت رسائلُ الوباء الإيجابيةُ إلى هذا الإنسان، وتركت في وعيه المتصل بالسماء تفاعلا إيجابيا، تعزّز من خلال عنصر الإيمان بالغيب الذي يعتبر رافدا لا سعادةَ للإنسان بدونه. ولعل مما يذكر في هذا المجال، هذه القاعدة الذهبية التي تقوم على قاعدة: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾. ولعل من الخير الذي قرره النص هو حالات الأوبة والمراجعة لكثير من المفاهيم التي ظلت ثوابتَ في وعي الإنسان وفهمِه إلى أن تعرضت لامتحان الوباء، فأدرك أنه لم يكن شيئا مذكورا حين أصرّ على التمرّد على نواميس الكون الـمُسَخَّر للناس، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم بدل النكوص الذي أمعن الإنسان في تجسيده وهو الـمُمتنّ بالوجود والإنعام للخالق. لقد كان مما أحياه الفهم -الذي ظلّ رتيبا تقليديا في التفاعل مع ثوابت الدين- هو هذا التجريب الذي عاشه الإنسان وكأنه في دورة تدريبية لا يوازيها نظام التدريبات التي يخضع لها الإنسان ليصبح مؤهلا في مجال من مجالات الحياة من أجل استيعاب العلاقة الناظمة للإنسان بالكون والحياة والمحيط، فكان الاختبار عبر هذا الوباء الذي مكّن الإنسان من جملة من الكفايات العقلية والسلوكية من خلال محنة الوباء، لكنه في الوقت نفسه قلّم أظافر إنسان ظل شاردا عن حقائق الغيب ليستعيد كينونته المتصلة بجِبِلِّية الخلق الأصلية المتماهية مع الغاية المتمثلة في العبودية لمن خلق وأحسن. وأمام تلك المعاني التي ظلت عباراتٍ تلوكها الألسُن، كان التحدي لمن يتبناها ويؤمن بها، أن يخرج بشواهد “تقديرية” بعد اجتياز امتحان الوباء بسلام، أو على أقلِّ تقدير، أن يخرج منه بأقلّ الخسائر ما دام موصوفا بسمة الضعف التي تجلّت بوضوح مع هذا الوباء. ولقد كان من ألطاف البارئ الخبير بمن سلِم من الوباء بثقله وهوله وتجلياته الرهيبة ونِعمه، أن يوقن ويزداد يقينا فيما عاشه ويعتقده، من أنّ كلَّ شيء بقَدَر، وأنّ هذا الكون له مدبّر حكيم، وأنّ ما بالناس من نعم فمنه ﷻ، وأن ما يمسّ الإنسان من ضرّ أو شرّ فبما كسبت يداه، وأنّ مع العسر يسرا. هكذا ينبغي أن يظل التفاعل مع الوباء. فهل تصل رسائل الوباء إلى العالَم الآخر ؟