مقتطف من مقال للكاتب والأديب ـ مصطفى لطفي المنفلوطي تحت عنوان : الأربعون
هُنا نُتَف مِن مقالٍ للمنفلوطي ” مارس 1924م”، كَتبه بعد أن كبرت سِنة، وفارقته قوة الشباب، وهجم عليه ضعف الشيخوخة، وتغيّر على الدنيا وتغيّرت عليه! لا أظن المنفلوطي يحتاج إلى تعريف، فهو نابغة الإنشاء والأدب، ومن أبلغ مَن كَتب، واقرؤوا ”نظراته” و ”عبراته” فهي المعرِّفة به والدالة عليه.
مقالة بعنوان: «الأربعون».
الآن وصلتُ إلى قمة هرم الحياة، والآن بدأتُ أنحدر في جانبه الآخر، ولا أعلم هل أستطيع أن أهبط بهدوءٍ وسكونٍ حتى أصل إلى السفحِ بسلام، أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرعِ الأخير هويّاً.
سلامٌ عليك أيها الماضي الجميل،
لقد كنت ميدانًا فسيحاً للآمال والأحلام.
وكُنا نطيرُ بكَ في أجوائك البديعة الطلقة غادين رائحين طيران الحمائم البيضاء في آفاقِ السماء. كانَ كل شيء في نظرنا جميلاً حتى الحاجة والفاقة، واحتمال أعباء الحياة وأثقالها، وكان كل منظر من مناظرك قد لبس ثوبًا قشيبًا من نسيج الزهر الأبيض، فأصبحَ فتنة الأنظار، وشَرَك الألباب.
سلامٌ عليكَ أيها الشباب الذاهب، سلامٌ على دوحتكَ الفينانة الغناء، التي كنا نمرح في ظلالِها مرح الظباء الغفر في رملتِها الوعثاء. أبكيك يا عهد الشباب، لا لأنني تمتعتُ فيك براحٍ أو غزل، ولا لأني ركبتُ مطيتك إلى لهوٍ أو لعب. ولا لأني ذقتُ فيكَ العيش بارد الهواء كما يذوقه الناعمون المترفون، بل لأنكَ كنت الشباب وكفى! أبكيك لأني كنت أرى في سمائك نجم الأمل لامعًا متلألئاً يؤنسني مَنظره ويُطربني لألاؤه، وينفذ إلى أعماقِ قلبي شعاعه المتوهج الملتهب، فلما ذهبت ذهبَ بذهابك. فأصبحَ منظر تلك السماء منظر فلاةٍ موحشةٍ مُظلمة لا يُضيئها كوكب ولا يلمع فيها شعاع. أجل، لم أتمتع فيك بمتعةٍ من المتع، ولا نلتُ في عهدك مأربا من مآربِ المجد أو الجاه، ولكني كنتُ أؤمل وأرجو، «وبذلك الأمل كنتُ أعيش، وتحتَ ظلال ذلك الرجاء كنتُ أهنأ وأنعم».
أما اليوم -وقد بدأتُ أنحدر من قمةِ الحياة إلى جانبها الآخر- فقد احتجب عني كل شيء، ولم يبقَ بين يدي مما أفكر فيه إلا أن أعد عدتي لتلكَ الساعة الرهيبة التي أنحدر فيها إلى قبري. مضى عهد الشباب وبدأتُ أختلف إلى الأطباء الثلاثة: طبيب العيون، وطبيب المعدة، وطبيب الأسنان.
تقاربت خطواتي فأصبحَ فرسخي ميلا، وباعي ذراعا، ونعى الناعون إليّ كثيرًا من أصحابي وأترابي؛ أي أنهم نعوا إليّ نفسي، ورأيتُ أصدقائي الذينَ نشأت معهم في طريقي فأنكرتُ استحالة حالهم، واغبرار وجوههم، وتحمُّر خدودهم، وابيضاض شعورهم، فعلمتُ أنني أولهم، وأنهم يُنكِرون مني ما أنكر منهم. ودعا لي الداعونَ بالقوة والنشاط، وطول البقاء، وحُسن الختام؛ أي إن قوتي في هبوط، ونشاطي في اضمحلال، وسلامتي في خطر، وحياتي على وشك الانحدار إلى مغربها. ومررتُ بمجامع الشبان الحافلة بالقوة والنشاط، فخُيل إليّ أنني غريب عنهم، وأنني أعيش في عالم غير الذي يعيشون فيه.
وانتقلتُ من النظرِ في شأن نفسي وشأن مُستقبلي إلى النظرِ في شأن أولادي وشأن مستقبلهم؛ لأن مستقبلي أصبح ماضياً، وغدًا أصبح أمس لا رجعة له إلى الأبد. وسمعتُ كلمة «الجد» يهتف بها أحفادي الصغار، فلم أنكرها ولم أبتئس كأنني معترف أنها الكلمة التي يجب أن أسمعها.
ونصحني الناصحون بالاقتصاد والتدبير إبقاء على مصلحةِ أولادي الفقراء، كأنهم يقولون لي: إنكَ موشك أن ترحل فأعدّ لمن وراءك من أهلك وبنيك ما يغنيهم عنك يوم يفقدون وجهك! وهدأت نفسي بعد ثورة جماحها، فأصبحت سمحًا كريمًا، عفوّاً غفورًا، لا أبغض أحدا، ولا أحقد على أحد.
ولا أقابل ذنباً بعقوبة، ولا إساءة بمثلها. كأنني أقول في نفسي: ما لي وللعالم ولِما يحويه من خير وشر وأنا مفارقه وشيكا، إن لم يكن اليوم فغدًا؟ وأخذتُ أتحدث عن الماضي أكثر مما أتحدث عن الحاضر، لا لأن الأول أجمل من الثاني؛ بل لأن الشبيبة أجمل من الشيخوخة.
وذكرتُ الجلسة البسيطة التي كنتُ أجلسها أيام الطلب في غرفتي الصغيرة بين زملائي الفقراء البسطاء، فبكيتها ورثيتها ولم تُنسني إياها جلستي اليوم في منزلي الأنيق الجميل بين خير الناس أدبا ومجدا؛ لأن الأولى كانت في سماء الأحلام الحلوة اللذيذة، أما الثانية ففي أرض الحقيقة المرة المؤلمة.
«كانَ كل ما أفكر فيه أن أشيد لي بيتاً جميلاً أعيش فيه عيش السعداء الآمنين في مدينةِ الأحياء، فأصبحتُ وكل ما أفكر فيه الآن أن أبني لي قبرًا بسيطاً يضم رفاتي في مدينةِ الأموات!».
وكنت أدهش لبلاغة البليغ، وذلاقة الخطيب، وبراعة الشاعر، وقدرة الكاتب الصائغ، ونبوغ المبتكر، وأطرب لكل عظيم مما أرى وأسمع، فأصبحتُ لا أدهش لشيء ولا أعجب من شيء؛ لأن مرآة نفسي قد صدئت فلا ينطبع فيها غير الكوكب الفخم العظيم، وأين ذلك الكوكب فيما يقع عليه نظري من كواكب السماء ونجومها؟
ويختم:
ما أنا آسف على الموت يوم يأتيني، فالموت غاية كل حيٍّ، ولكنني أرى أمامي عالماً مجهولاً لا أعلم ما يكون حظي منه، وأترك ورائي أطفالاً صغارًا لا أعلم كيفَ يعيشون من بعدي، ولولا ما أمامي ومَن ورائي ما باليت أسقطت على الموت أم سقط الموت علي؟!
ليكُن ما أراده الله، أما ما أمامي فالله يعلم أني ما ألممتُ في حياتي بمعصيةٍ إلا وترددتُ فيها قبل الإلمام بها، ثم ندمت عليها بعد وقوعها، ولا شككتُ يومًا من الأيام في آيات الله وكتبه، ولا في ملائكته ورسله، ولا في قضائه وقدره، ولا أذعنت لسلطان غير سلطانه، ولا لعظمةٍ غير عظمته.
وما أحسبُ أنه يحاسبني حسابًا عسيراً على ما فرطت في جنبه بعد ذلك. وأما ما ورائي فالله الذي يتولى السائمة في مرتعها، والقطاة في أفحوصها، والعصفور في عشه، والفرخ في وكره، سيتولى هؤلاء الأطفال المساكين وسيبسط عليهم ظِل رحمته وإحسانه.
وداعًا يا عهد الشباب، فقد ودعت بوداعك الحياة، وما الحياة إلا تلكَ الخفقات التي يخفقها القلب في مطلع العمر، فإذا هدأت فقد هدأ كل شيء وانقضى كل شيء.
أيا عهدَ الشباب وكنت تَنْدَى
على أَفْيَاءِ سَرْحَتِكَ السلامُ!
.
نُشرت في العدد السادس من مجلة “الهلال”
بتاريخ: 1 مارس 1924
«وما أحد من لداتنا وأبناء عصرنا إلا تأثر بالمنفلوطي».
– الطنطاوي.