هذه التغطيات الإعلامية السخيفة!
اسماعيل الحلوتي
في الكثير من المناسبات والاستحقاقات الوطنية الهامة، خاصة منها تلك التي تحظى بمتابعة إعلامية واسعة وتستأثر مجمل تفاصيلها باهتمام الرأي العام الوطني، تتساقط كأوراق الخريف أقنعة بعض منعدمي الضمير، الذين يستهويهم كثيرا اقتناص الفرص مهما بدت غير ذات جدوى والاصطياد في الماء العكر، حيث أنهم يفتقرون إلى أبسط مقومات الحس بالمسؤولية وروح المواطنة الصادقة، فيسارعون إلى نشر التفاهة بين متتبعي قنواتهم وصفحاتهم الشخصية…
وفي هذا الإطار وبعيدا عما بات يرافق الامتحانات الإشهادية من تشويش عبر تناسل الإشاعات حول تسريب المواضيع وتنامي حالات الغش، هناك كذلك ظاهرة أخرى ما انفكت تتطور في السنوات الأخيرة، وهي تلك المتعلقة ببعض “التغطيات الإعلامية” التي تشهد على سخافتها محيطات مراكز الامتحانات، حيث يتم حشر مجموعة من تلاميذ السنتين الأولى والثانية بكالوريا من بين المترشحين لاجتياز هذه الامتحانات، سواء بالنسبة للامتحان الجهوي الموحد أو الامتحان الوطني الموحد، أمام الكاميرات لاستفسارهم عن أجواء الامتحانات. لكن الملاحظ هو أن مستجوبيهم من أشباه الصحافيين لا يعملون سوى على الإساءة إلى هذه المهنة الشريفة، كما يبدو ذلك واضحا عبر طرحهم أسئلة هزيلة تتمحور حول مدى تشدد المراقبين وانتشار حالات الغش والطرق المستعملة فيه، وكل ما من شأنه الإسهام في صناعة محتويات تافهة ومائعة.
إذ أن هؤلاء “الصحافيين” الجدد لا يركزون على ارتسامات المترشحين بخصوص طبيعة الأسئلة ومستوى ملاءمتها للمقررات الدراسية ومدة الإنجاز المحددة وما إذا كانت تراعي تكافؤ الفرص بين تلاميذ التعليم الخاص والتعليم العمومي، بقدر ما يسعون إلى محاولة خلق الإثارة وتحقيق نسب مشاهدة عالية، عبر انتقاء ممنهج للانطباعات الشاذة والبعيدة عن أجواء الامتحانات لبعض المترشحين، كما يوثق لذلك مقطع فيديو نال حظا وافرا من الرواج بين الناس لا لشيء سوى أن المستجوبين من مترشحي إحدى المدن المغربية المعروف أهلها بروح النكتة، يخلطون بين أسئلة الامتحانات والزيادة في أسعار المحروقات والسياحة والبطالة بشكل غنائي كاريكاتوري. فلا يكاد يمر يوم من أيام تلك الامتحانات دون أن تغزو مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو رديئة من هنا وهناك، بحثا عن الارتزاق والانتشار الواسع أو ما بات يطلق عليه “البوز” أي الشهرة الاجتماعية. وهو ما أثار في الكثير من المناسبات حفيظة عدد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين أبدوا استنكارهم ونددوا بتلك “المشاهد المستفزة” على صفحاتهم الشخصية، داعين إلى التصدي لمثل هذه الممارسات التي لا تضر فقط بقواعد وميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة، بل وتمس كذلك بصورة البلاد، المنظومة التعليمية، مصداقية الامتحانات والشهادات العلمية ومستقبل أولئك التلاميذ الضحايا…
فمن المؤسف أن تصبح لدينا كل هذه الأعداد الكبيرة التي تقدر بعشرات الآلاف إن لم نقل الملايين من الذين يقبلون بشكل لافت على مشاهدة ذلك الكم من مقاطع الفيديوهات التافهة وغير الهادفة، التي غالبا ما تكون مضامينها ضحلة ومثيرة للسخرية. ولا يكتفي أصحابها باستغلال ضعف وعي التلاميذ وصغر سنهم وحسب، بل يستغلون كذلك سخط الآباء والأمهات من غير الملمين بالقانون، حيث يلجأ بعضهم إلى صب جام غضبهم على المسؤولين في الوزارة الوصية، بدعوى معاكسة مصالح بناتهم وأبنائهم بوضع أسئلة تعجيزية للحيلولة دون نجاحهم أو الحصول على معدلات تؤهلهم لولوج أفضل المعاهد والجامعات. والأفظع من ذلك أن يساهم عديد المواطنات والمواطنين بوعي أو بدونه في الترويج المستمر لمثل هذه “البضاعة الفاسدة” على نطاق واسع، مما يشجع أبطالها على مضاعفة جهودهم في اتجاه صناعة المزيد من فيديوهات الرداءة.
من هنا وأمام هذا السيل الجارف من الضحالة والنذالة الذي يجتاح شبكات التواصل الاجتماعي عند حلول موسم امتحانات البكالوريا، يحز في النفس أن يتم ضرب الحصار على عدد من التلاميذ والتلميذات المتفوقين، الذين يشكلون نماذج تحتذى في النبوغ بمؤسسات التميز والمعاهد الدولية الكبرى، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر الشابة شيماء مريني ذات ال”25″ ربيعا من أسرة مغربية متوسطة الحال، خريجة المدرسة العمومية وأول وأصغر مهندسة طيران ميكانيكية بوكالة ناسا الفضائية. فيما يتم الاتجاه نحو استغلال اندفاع وطيش بعض المتعلمين، والقيام بتصوير أي شيء يبدو قادرا على إثارة إعجاب الكثير ممن يبحثون عن تزجية أوقاتهم في محاولة الترفيه عن النفس، ليصبح بذلك كل من يحمل آلة تصوير وميكروفونا “نجما” أو “صانع نجوم” في الفضاء الأزرق. فأي جدوى من بث تصريحات لمتعلمين يختبرون قدراتهم الفكاهية وهم يحكون عن استفزازاتهم للمراقبين قصد تيسير عمليات الغش لزملائهم؟ ترى من المسؤول عن تنامي هذه الظاهرة وتغذية مستنقعات التفاهة على موقع اليوتيوب وغيره من المواقع الأخرى؟ ألا يكفي ما بلغ إليه الذوق العام من انحدار وخاصة بعد إفساد الإعلام العمومي ببرامج “التضبيع”؟
إنه من المحزن حقا أن يصبح هوس تحقيق الشهرة واستقطاب أعداد غفيرة من المشاهدين لمتابعة منتوجات موسمية تافهة، تستهدف المدرسة العمومية ومحاولة إظهارها بمثابة “ضيعة” لإنتاج أجيال من “الضباع”، أكبر هم لدى بعض المواقع أو المنابر الإعلامية التي يتهافت أصحابها على الشهرة والكسب السريعين، ضاربين عرض الحائط بقواعد المهنة ومنظومة القيم. مما يستدعي تضافر جهود الجميع من الأسرة والمدرسة والمجلس الوطني للصحافة وجميع المؤسسات الرسمية وفعاليات المجتمع المدني من أجل التصدي لهذه الممارسات الهجينة في اتجاه حماية المتعلمين، والدفاع عن هيبة المدرسة ورسالتها التربوية النبيلة.