الشيخ بوعمامة، لالا مغنية، وفجيج:
محمد بنعلي
قبل أيامٍ مضت توصلت بنسخ عديدة من فيديو تحت عنوان: “الشيخ بوعمامة، لالا مغنية وفجيج (حقائق غير معروفة)، مشفوعة بطلبات تستحثُّ الردِّ عليه. ولما استمعتُ إليه وجدته لا يستحقُّ الرّدَّ، لأنه سلسلةٌ من الهراءات والخزعبلات والتدليسات والتلفيقات التي لا صلة لها بالتاريخ، توحي بأن صاحبَها مأمورٌ بأن يقتطع من فجيج علماءها وأدباءَها وشيوخها كما اقتطعوا من قبلُ زوزفانة وأرباضَها والعرجا وأرجاءَها فضموهما إلى الهدايا الإمبرياليّةِ السابقة. وما أكثر أوامرَهم في هذه الأيام !
حينما قرأته تذكرت عتْبَ الإمام سيدي عبد الجبار على العلاّمةَ القرطبي المفسر(ت 671هـ) لأنه ضيّعَ وقتاً عزيزاً في الرّدِّ على الحلولية والحشويّة القائلين بقدم الحروفِ والأصوات، قال له: “لقد أطال الشيخُ مع هؤلاء الكلام والاحتجاج في شيءٍ لا طائل تحته، بل تمجُّه الأسماعُ، وتنفر منه الطباعُ، وتقطعُ بمَجانةِ قائله لأول وهلة العقولُ والنقولُ والإجماعُ، وتجِلُّ الأوراقُ والأنقاسُ والأقلامُ أن يسطِّر ما بها عاقلٌ في كتابٍ، أو يُمَضْمِضَ فاهُ بذكرِها أو يُفحِمَهم بجواب، بل يضربُ الذكر صفحاً عن مخاطبة الحمقى، ويعرضُ ازدراءً عن نقضِ غزْلِ الخرْقا. والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.”
ومع ذلك فلا بدَّ من النزول عند رغبة الراغبين بكلمةٍ قصيرةٍ أكثرُها توضيحٌ وأقلّها ردٌّ، أبيِّن فيها بعضَ الحقائقِ مستدلاًّ ما أمكن بالمؤرخين الجزائريين أنفسهم من باب وشهد شاهدٌ من أهلها:
فأول كبائره أنه اتهم المغرب بأن سبب اختطافه للشيخ بوعمامة هو تعطشه للبطولات التاريخيّة ليملأ به خزانته الفارغة، وعجب ربك من قول كهذا يوجّه للمغرب، والقاصي قبل الداني يعرف حق المعرفةِ أن المغرب خزّان البطولات منذ العهود السحيقة في القدم، ولما جاء الإسلام عرفَها من عهد إدريس الأول إلى الثورة الجزائرية، وكأن صاحب الفيديو لا يعرف أن أصل المجاهد البطل الشريف بومعزة مغربي من أولاد سيدي الطيب بوزان، وأن الشريف محمد الهاشمي الذي جاهد في الجزائر بعد بومعزة مغربيٌّ قحٌّ، قال فيه مؤرخكم أبو القاسم سعد الله: “وها هو الشريفُ محمد الهاشمي يقدّم لنا نموذجاً آخرَ لتعاون الطرق الصوفيّة، إذ تذهب الرواياتُ الفرنسيّة إلى أنه جاء من تافيلالت (المغرب)، وأنه كان ينتمي إلى الطريقة الطيبيّة، طريقة الشيخ الطيب الوزاني، التي كان ينتمي إليها أيضاً المجاهد بومعزة من قبل (الحركة الوطنية الجزائريّة: 1/386) وإلى هذيْن يضيفُ أبو القاسم أسماءً أخرى كالحاج ميمون بن البشير اليزناسني والشيخ محمد بن المكي… (الحركة الوطنية الجزائرية: 1/367)
وقال أيضاً إن الموطن الأصلي لأولاد سيدي الشيخ هو الأبيض سيدي الشيخ، وهذا زعمٌ باطلٌ لا يثبت أمام سيرورة التاريخ؛ ذلك أن أولاد سيدي الشيخ (عبد القادر السماحي) لم تكن لهم علاقةٌ بالأبيض إطلاقاً إلا بعد وفاته عام 1025هـ ودفنه هناك. وقبل ذلك أمضى زهاء نصف قرنٍ في فجيج بين زاويتيه أجدل والعبّاد كانت كلها إنجازاتٍ وعلاقات، فأيِّ الأصول يختارُ العاقل: الأصل الميّت أو الأصل الحيُّ؟
ونترك بقيّة الكلام للمؤرخ اللبيب المتمكن ابن الطيب محمد، ليتحدث عن أولاد سيدي الشيخ، يقول:
“كانت بداية هذه الأسرة التي ستصبح قبيلة بعد أربعة قرون، كانت بدايتهما مع جدهم الأعلى الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد السماحي الملقب بسيدي الشيخ، الذي ثبتت مغربيته بعلاقته مع السلطان أحمد السعدي،ثم مع ولي عهده زيدان، الذي قضى فترة من الزمن في شبابه مع سيدي الشيخ بفجيج. ثم توطدت العلاقة مع السلطان بحضور سيدي الشيخ معركة وادي المخازن. وبعد استتباب الأمر للدولة العلويّة سارع أولاد سيدي الشيخ لبيعة السلطان مولاي رشيد كبقيّة سكان الصحراء الشرقية كالقادريين أولاد سيدي بوتخيل أهل العين الصفراء، وحميان الشراقة والغرابة وغيرهم.
وتوارث أهل هذه المنطقة بيعة سلاطين الدولة العلوية كما تشهد آلاف الوثائق والظهائر والآثار العمرانية. وبعد وصول القوات الفرنسيّة إلى هذه المنطقة سجّل ضباطُها وجود السلطة المغربية من قواد وقضاة وأعيانٍ تم تعيينهم من لدُن السلطان، ووجدوا المساجد تقيم الجمعة والأعياد بالدعاء للسلطان المغربي.. فهل وجدوا سلطةً أخرى يدينون لها بالولاء؟ لا.
اعتدى الفرنسيّون في معاهدة لالاّ مغنيّة سنة 1845 على وحدة قبيلة أولاد سيدي الشيخ، فقسموها إلى قسميْن: مغاربة وجزائريّين لأهداف سياسيّة استغلوها لاحقا لصالحهم.
والواقع أن أولاد سيدي الشيخ كلهم مغاربةٌ، كان يتم تعيينُ قوادهم وقضاتهم من طرف السلطان، وكانوا يشهدون حفلات الأعياد مع السلطان لتجديد البيعة. وفي إحدى الزيارات قدّم سيدي حمزة بن بوبكر أخته الياقوتَ زوجةً للسلطان؛ فقبِلها وأكرمهم. وسيدي حمزة هو زعيم أولاد سيدي الشيخ الشراقة (الذين أصبحوا جزائريين بحكم معاهدة مغنية المجحفة بحقوق أولاد سيدي الشيخ عامّة).
لا نحتاج لإثبات مغربيّة أولاد سيدي الشيخ الغرابة الذين شرّف السلطانُ مولاي عبد الرحمن زعيمهم الشيخ بن الطيب بتعيينه خليفة السلطان في المنطقة الجنوبية الشرقيّة، وهي أعلى مرتبة في تراتبية المسؤولية المخزنيّة.
وإذا قلنا الشيخ بن الطيب وأولاد سيدي الشيخ الغرابة، نقول: أين تقع أرضُهم وجالُهم الرعوي وقصورهم وواحاتهم ومساجدهم ومقابرهم واضرحة أجدادهم، هي الصحراء الشرقيّة التي هُجِّروا منها لما رفضوا التخلّي عن مغربيتهم والإنضواءَ تحت الحكم الفرنسي.
من هم أولاد سيدي الشيخ الغرابة؟
هم إحدى فرقتيْ أولاد سيدي الشيخ فانقسموا في سنة 1756 إلى قسميْن: شراقة وغرابة، عرفوا بذلك لأن الشراقة كانوا يقطنون شرق ضريح سيدي الشيخ، والغرابة كانوا يقطنون غربه (بالأبيض سيدي الشيخ).
ينقسم الغرابة إلى ستة فروع كم نعرفهم ويعرفهم النسابة، وهم:
– أولاد سيدي عبد الحكم
– أولاد سيدي امحمد
– أولاد سيد الحاج إبراهيم
– أولاد سيد الحاج أحمد
– أولاد سيدي الحاج أحمد بن الشيخ.
– أولاد سيدي التاج (وهؤلاء هم أجداد سيدي بوعمامة). وهم اشدُّ مغربيّةً من إخوانهم المذكورين؛ لأن جدهم سيدي التاج أمه لالاّ فاطمة تامقرانتْ حفيدة سيدي عبد الجبار الغنيِّ عن التعريف؛ ولذلك فهم أكثر لصوقاً بفجيج ولهم فيها أملاكهم وأجنتهم وأضرحة أجدادهم.
وعليه فسيدي بوعمامة مغربيٌّ بحكم بنود معاهدة دولية (لالا مغنية)، ومغربي بحكم مكان مولده ونشأته وجهاده ووفاته (العيون سيدي ملوك)، وبيعته للسلطان المغربي..
أما جهاده فكان فوق الأرض المغربية التاريخية قبل اقتطاعها من المغرب، وكل جنده كانوا من أمازيغ وعرب المغرب كما تؤكد المراجع والوثائق.” انتهى كلامه
ولن أرد على ترّهاته فيما يتعلق بكون فجيج جزائريّة، وكون إبراهيم بن عبد الجبار جزائريا، فيكفيه سخافةً في الاستدلال أن يتمسك بالغرباء كشوقي ضيف المصري، وعمرو فروخ اللبناني، ويترك أهل الدار كابن هطال التلمساني صاحب رحلة محمد الكبير باي الغرب الجزائري (ص71) ومحمد بن عبد القادر صاحب الصافنات الجياد (1/7) وسواهما من المؤرخين الجزائريّين الأصلاء الذين لم ينسبوه إلا إلى موطنه الأصلي فجيج
أما الجرائم الدمويّة فمعه الحق، حتى إن قال أكثر من ذلك، لأن دم المغاربة الأبرار الأحرار قد سال فعلاً في كل الأراضي الجزائرية في سبيل استقلال الجزائر، اعتقاداً منهم أننا إخوةٌ في الدين، وبنيانٌ يشدُّ بعضُه بعضاً، وذاتاً واحدةً في السراء والضراء، ولكنْ… وبيننا وبينه المصادرُ الجزائريّةُ حصراً ففيها ما يؤكد هذا الجميل الذي أُنْكِر، والمعروف الذي طُمِسَ
وأما الشيخ بوعمامة فأدنى ما يقال فيه أنه مغربيٌّ صريحٌ: فهو فجيجي الأب والأجداد والجدّات (فاطمة تمقرانت حفيدة سيدي عبد الجبار) والمولد والنشأة والقراءة.
خرج بوعمامة من فجيج بعدما اشتد عودُه وبلغ 35 أو 37 عاماً، وتولى مهمة “مقدمّ في المكَرار، تماما كما كان الحاج محمد الفجيجي مقدّما للطريقة التجانيّة في كَورارة، وهو ما أكده مؤرخكم أبو القاسم سعد الله (تاريخ الجزائر الثقافي: 4/228.) دون أن نقول إن في تأكيده اعترافاً بمغربيّة كَورارة وقد كانت كذلك بالتوثيق التاريخي الساطع..
أما المناطق التي قارعَ فيها الشيخ بوعمامة الفرنسيين فقد كانت آنذاك مغربيّةً بالبيعة الشرعيّة تأكيدها في المناسبات عبر الوفود، وتعيين العمال والقواد إلى توات. وهي علاقة يمكن أن تغطّيَ كتاباً وثائقيّاً كبيراً، نقدم منه هذا النموذج من رسالة السلطان محمد الرابع إلى أهل تيوت:
“خدامنا الأنجاد أهل اتيوت كافة، وفقكم الله وأرشدكم، وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصلنا كتابكم مذكرين لما كان لكم مع أسلافنا الكرام قدسهم الله من الخدمة والانتماء، وما كان لكم منهم من المراعاة والاعتناء، فنحن على إثرهم في ذلك إن شاء الله لا نسلمكم ولا نفوتكم ونراعى لكم خدمتكم ومحبتكم أصلحكم الله ورضي عنكم، وعلمنا ما لحقكم من الأضرار والإذاية من النصارى وسليمان بن قدور، فها نحن كتبنا لعامل وجدة بالكلام مع المتولى هناك يكفون إذايتهم عنكم والسلام. 19 جمادى الأولى عام 1288هـ” [5 غشت 1871م]
كان الشيخ بوعمامة يخرج من فجيج ثم يعود إليها فيحتضنه أهله وعشيرتُه في الحمام احتضان الأم لطفلها (انظر الوثيقة)، على عكس ما لقيه من خيانةٍ ودسائس وتربّصٍ من أطرافٍ عديدةٍ كالزيانية والتجانية وغيرهما، وكان خلالها يرتكب من الأعمال ما أدى إلى عواقب على الوضع بالمغرب الأقصى على حدّ تعبير مؤرخكم أبي القاسم سعد الله (تاريخ الجزائر الثقافي: 5/519)، وتلك من أهم العوامل التي جعلت المؤرخين ينقسمون إزاء شخصيته، ولم يتفقوا في تقييمها وتوصيفاتها.
ولا نريد هنا أن نستعين بالكتابات الفرنسيّة لإثباتِ علاقة الشيخ بفجيج، مع أنها أكثر من أن تحصى، إلا أن نشير إلى قولةٍ وردت في صحيفة (La Presse :02/06/1903)، ونصها الأصلي:
«Bou-Amama notre insaisissable ennemi est le chef religieux de Figuig, son autorité est plus grande que celle du Pacha représentant du sultan du Maroc. »
إن هذه السخافات التي يتزاحم الآن أبواق العسكر الجزائري على إطلاقها بمناسبةٍ وغير مناسبةٍ هي التي عرّضتهم للسخريّةٍ من السياسيين والمفكرين والمحللين، وها أمامي عدد من الفيديوهات التي ينبغي التذكير بها، لِلَجمِ هؤلاء العبيد وتعريفهم بالحقائق الدامغة، على رأسها واحد لشارل ديغول عنوانه:
« L’Algérie n’a jamais existé, c’est la France qui l’a créée »
ولكم أن تقارنوا هذا الكلام بما قاله سلَفه الجنرال ليوطي “لو لم تكن فجيج موجودةً لاخترعتها”
هذا توضيحنا، مع تكدر الخاطر وقلق البال، ومراقبة إخواننا المنصفين المحبين من أهل الجزائر الحبيبة، الذين يتحرقون كما نتحرق إلى لقاءٍ لا ينفكّ ولا يبيد، وإلا فالكلام في الموضوع رحب منبسط لا أطراف له ولا حدود. والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم….