وداعا الخيام، قاهر الإرهاب والإجرام
اسماعيل الحلوتي
من المؤسف حقا أن نجد في بلادنا شخصيات وطنية أمنية فذة، تكرس حياتها لخدمة الصالح العام، ومع ذلك تظل تحت الظل دون أن تحظى بما يليق بها من اهتمام شعبي واعتراف بالجميل، نظير ما قدمته وتقدمه من جهود مضنية وتضحيات جسام في سبيل استتباب الأمن والاستقرار. إذ غالبا ما لا ينتبه إلى قيمتها إلا بعد فقدانها، وهو ما يساهم في تثبيط العزائم والحد من طموحات الآخرين في الارتقاء بمستوى أدائهم المهني والقيام بالواجب على الوجه المنشود والمحمود.
وفي هذا الإطار يشار إلى أن المؤسسة الأمنية رزئت في واحد من ألمع رجالاتها المخلصين، حيث نعت المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني عبد الحق الخيام المدير السابق للمكتب المركزي للأبحاث القضائية “البسيج”، الذي لبى داعي ربه في فجر يوم الثلاثاء 23 غشت 2022 عن عمر يناهز 64 سنة متأثرا بتداعيات مرض ألم به منذ شهر أبريل الأخير دون أن ينفع معه أي علاج. وهو من القامات الوطنية التي تستحق الانحناء لها إجلالا على ما قدمته من إنجازات أمنية جديرة بالتقدير والاحترام، ويعد من الشخصيات الوازنة التي بصمت مسارها المهني بالجدية والاستقامة والإخلاص في العمل، ولم تفكر أبدا في ترجيح مصالحها الشخصية على مصلحة الوطن، كما هو الحال بالنسبة لعديد السياسيين المتهافتين على المناصب والمكاسب من أجل تنمية أرصدتهم البنكية وحسب…
إذ أنه وكما نركز عادة في كتاباتنا وانتقاداتنا على فضائح المفسدين وأخطاء المسؤولين وهفواتهم، ونحاول على الدوام تعريتهم أمام الرأي العام حتى يكونوا عبرة لغيرهم، فإن الموضوعية تقتضي في ذات الوقت إنصاف الشرفاء والإشادة بما قدموا ويقدمون من صالح الأعمال لفائدة الوطن والأجيال.
ولا نعتقد أننا سنكون قادرين على إنصاف الراحل مهما حاولنا ذلك، لكن هناك من الشهادات والصور ما هو أبلغ وأوضح في التعبير عن قيمته ومكانته لدى المغاربة، من قبيل برقية التعزية التي بعث بها قائد البلاد محمد السادس إلى أفراد أسرته وذلك الحزن العميق الذي خلفه في القلوب وعبر عنه ذلك الموكب الجنائزي المهيب الذي رافقه إلى متواه الأخير.
حيث أنه أمام هذا المصاب الجلل، أبى جلالة الملك إلا أن يعرب لأسرة الفقيد المكلومة، ومن خلالها لكافة الأهل والأصدقاء وأسرة الأمن الوطني عن أحر تعازيه وأصدق مشاعر المواساة، سائلا المولى جل وعلا أن يشمله بواسع رحمته وعفوه الكريم، وأن يرزقهم جميعا جميل الصبر وحسن العزاء. مستحضرا في برقيته بكل تقدير مناقب الراحل الذي عمل طيلة مشواره المهني المشرف بإخلاص ونكران ذات وغيرة وطنية صادقة في خدمة الصالح العام، مسخرا كفاءته للنهوض بمختلف المهام الأمنية التي تقلدها بأمانة ومسؤولية، في تشبث مكين بثوابت الأمة ومقدساتها.
وقد جرى ظهر ذات اليوم الثلاثاء 23 غشت 2022 تشييع جنازة الراحل عبد الحق الخيام في موكب جنائزي مهيب، حيث ووري جثمانه الثرى بمقبرة الشهداء في مدينة الدار البيضاء بعد صلاتي الظهر والجنازة، بحضور أفراد عائلته وأصدقائه وممثلي السلطات المحلية ومجموعة من الشخصيات الوازنة سواء في قطاع الأمن أو ميدان السياسة، ومعهم عشرات المئات من الأقارب والمعارف وأبناء الحي الذي رأى فيه النور: درب السلطان. ثم تليت بهذه المناسبة آيات من الذكر الحكيم ترحما على روحه الطاهرة، مع الإشادة بخصاله الحميدة وتفانيه في خدمة وطنه، كما لم يفت الحاضرين الابتهال إلى العلي القدير بأن يتغمده بواسع الرحمة والرضوان، ويسكنه فسيح الجنان، ويلهم ذويه الصبر والسلوان.
فالخيام فضلا عما عرف عنه من كفاءة مهنية متميزة، كان يتمتع أيضا بأخلاق عالية وتواضع كبير وحزم في أداء الواجب، وطالما أعاد للكثيرين الثقة المفقودة لديهم في الأجهزة الأمنية، باعتباره رمزا من رموز مكافحة الإرهاب وفاعلا رئيسيا في مجال التعاون الأمني، الذي يربط المغرب بحلفائه في الدول الأوروبية. وهو الذي رفع تحدي الإرهاب والإجرام حين قال يوما عبارته الشهيرة: “الإرهاب إجرام، والإجرام إرهاب، لا فرق بينهما” وقاد رفقة ثلة من المخلصين المشهود لهم بالكفاءة الأمنية وحب الوطن، ولاسيما خلال تلك الظروف العصيبة التي اتسمت بانتشار الجماعات المتطرفة في مختلف بلدان العالم.
حيث أنه طالما أطل علينا من خلف شاشات القنوات الوطنية وأمام مختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية للإعلان عن تفكيك خلايا إرهابية من هنا وهناك، منها من كانت عناصرها الإجرامية تتأهب لاغتيال شخصيات سياسية وعسكرية مغربية، ومنها من كانت تخطط للقيام بأعمال تخريبية عبر ضرب منشآت حيوية ومواقع حساسة لبث الرعب في النفوس الآمنة وزعزعة الاستقرار. وبفضل ما حباه الله به من حرفية وذكاء ثاقب صار “البسيج” من الأجهزة الأمنية ذات الشهرة العالمية على مستوى السمعة الطيبة والخبرة والمصداقية، لدرجة أن الكثير من طلبات التعاون وتبادل الخبرات والمعطيات، باتت خلال السنوات الأخيرة تتقاطر بكثرة على بلادنا حتى من قبل الدول الكبرى…
إننا مهما عددنا مناقب الراحل والعمل النوعي الذي قام به في مكافحة الإرهاب ومعالجة الإجرام، وهو الذي شغل قيد حياته منصب رئيس الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، ثم أول مدير لجهاز “البسيج” الذي تأسس في مارس 2015 واستمر في قيادته إلى أواخر سنة 2020، فإننا لن نكون قادرين على إيفائه حقه كاملا، ولا يسعنا إلا أن ندعو له بالرحمة والمغفرة. وإنا لله وإنا إليه راجعون.