ماذا يعني أن تتقاطع تقارير استخباراتية فرنسية مع توصيات دراسة ألمانية؟
محمد إنفي
رغم الفرق الشاسع بين التقرير الاستخباراتي والدراسة الأكاديمية، فإن خلاصاتهما وتوصياتهما تتقاطع وتتكامل في موضوع المغرب ومصالحه الوطنية. ويبدو جليا أن هذا التقاطع والتكامل نابع من النزعة الاستعمارية المستحكمة في العقلية الأوروبية.
لقد تم في الأيام الأخيرة تسريب تقريرين استخباريين فرنسيين ذكرانا بالدراسة الألمانية الصادرة عن المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية سنة 2020. وهذا يعني أن الدراسة أنجزت قبل اندلاع الأزمة الديبلوماسية التي عرفتها العلاقات بين المغرب وألمانيا في عهد المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”.
ويبدو أن العلاقة بين المغرب وفرنسا، التي تمر من أزمة صامتة، مرشحة للتعقيد والتأزيم، خصوصا وأن الرئيس الفرنسي، Emanuel Macron، لا يرغب في الخروج من الموقف الرمادي لفرنسا في قضية الصحراء المغربية، رغم الإنذار الواضح والصارم الذي وجهه الملك محمد السادس لحلفاء المغرب التقليديين (فرنسا، في طليعتهم) والجدد، حين قال بالحرف في خطاب 20 غشت الأخير: “”أوجه رسالة واضحة للجميع: إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات. لذا، ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”.
التكذيب الذي صدر عن السفارة الفرنسية بالرباط في موضوع التسريب الاستخباراتي الأخير، لن يغير من الأمر شيئا؛ فالسفارة ليست معنية بشكل مباشر بتلك التقارير؛ إذ ليست وزارة الخارجية من طلبتها؛ بل رئاسة الجمهورية، كما جاء في مطلع التقرير الأول بتاريخ 24/07/2021: “ردا على استفساركم حول المعطيات الجيوستراتيجية والتطورات الديبلوماسية والاقتصادية بين الجمهورية الفرنسية والمملكة المغربية، يمكن إخبار سيادتكم بأننا أصبحنا…”.
وحتى لو صدقنا التكذيب المذكور في الفقرة أعلاه، فإن برودة العلاقة بين الرباط وباريس بادية للعيان. والمغاربة يعلمون جيدا التعامل الانتهازي الفرنسي مع المغرب، ويدركون مدى انزعاجها من تنويع شراكاته الاقتصادية والأمنية التي جعلته يحتل الريادة مغاربيا وإفريقيا.
والمثير في الأمر أن التقارير الاستخباراتية الفرنسية والدراسة التي أنجزها المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (وهو مؤسسة فكرية مؤثرة ليس في ألمانيا فقط، بل وفي أوروبا عامة) كلها تؤكد، من خلال بعض خلاصاتها وتوصياتها، أن أوروبا منزعجة من النجاحات الديبلوماسية والاقتصادية التي حققها المغرب في العشرية الأخيرة.
ومن خلاصات الدراسة الألمانية أن المغرب، كدولة صاعدة، يتقدم بوتيرة تترك وراءه الجزائر وتونس. لذا، توصي بفرملة المغرب وعرقلة تقدمه حتى تلتحق به هاتان الدولتان؛ وذلك بحجة أنهما تسعيان للسير على خطاه. ولا نعتقد أن أصحاب الدراسة، الواضحة دوافعها وأهدافها الحقيقية، قد تحلوا ولو بالنزر اليسير من الأمانة العلمية والصرامة الأكاديمية المطلوبة في الدراسات؛ وإلا لكانوا قد طرحوا على أنفسهم السؤال التالي: كيف لمن يتقدم إلى الوراء أن يلحق بالذي يسير إلى الأمام، خصوصا وأن الوضع العام في البلدان المغاربية الثلاث لا يغيب عنهم، أو هكذا يفترض؟ فالجزائر توجد على حافة الإفلاس بفعل سياستها العدائية للمغرب، التي كلفتها مئات المليارات من الدولار؛ وتونس لحقت بها مع قيس سْعَيّْدْ الذي انقلب على الديمقراطية وعلى الدستور وعلى تاريخ بلاده وتنكر للمواطنين الذين أوصلوه إلى قيادة الدولة التونسية طمعا في التغيير. أما المغرب، فرغم موارده المحدودة، فقد هرب عنهما مسافات طوال في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والبيئية والديمقراطية، وإن كان يعاني من بعض العاهات من قبيل الفوارق الاجتماعية والمجالية، وبطء الإدارة وفساد بعضها، وغياب التطبيق الفعلي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الخ.
تجدر الإشارة إلى أن الدراسة الألمانية تم توجيهها إلى الدولة الألمانية وإلى الاتحاد الأوروبي بهدف العمل بتوصياتها التي تروم عرقلة تقدم المغرب بافتعال المشاكل لإنهاكه. وقد سبق للملك محمد السادس أن انتقد هذا التوجه غير المعقول وغير المقبول، في خطاب 20 غشت 2021، قائلا: “هناك تقارير تجاوزت كل الحدود. فبدل أن تدعو إلى دعم جهود المغرب، في توازن بين دول المنطقة، قدمت توصيات بعرقلة مسيرته التنموية، بدعوى أنها تخلق اختلالا بين البلدان المغاربية”.
والتقارير الاستخباراتية الفرنسية لا تبتعد عن توصيات الدراسة الألمانية إلا في شيء واحد سنأتي على ذكره أدناه. فكما الدراسة الألمانية، فإن الاستخبارات الفرنسية توصي بالعمل على “تعطيل تقدم المشاريع المغربية في إفريقيا، والعمل على عدم تغيير العديد من الدول الكبرى وخصوصا الأوروبية لمواقفها تجاه ملف الصحراء الغربية، ونشر تقارير سوداء فيما يخص الجانب الحقوقي والإنساني بالمغرب في كبريات الصحف العالمية”. إلى جانب كل هذا، تقترح المخابرات الفرنسية اللجوء إلى “تشويه صورة رموز المملكة؛ نشر فيديوهات فضائح لبعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع المغربي فوق تراب بلدنا؛ والتي تم تسجيلها من طرف أجهزتنا؛ إعطاء الضوء الأخضر للقضاء الفرنسي بفتح العديد من الملفات الحقوقية الكاذبة والظالمة ضد العديد من الشخصيات المغربية…”. أليس هذا من أساليب العصابات والمافيا؟ وهنا نلمس بعض الفرق بين عمل المخابرات الفرنسية وعمل فريق البحث (تجاوزا) الألماني.
خلاصة القول، نحن المغاربة نفهم، لكن لا نتفهم، أن تعمل البلدان الاستعمارية على عرقة نهوض مستعمراتها السابقة حتى تستمر في نهب خيراتها الطبيعية، وهي في أمس الحاجة إليها. لقد عانت القارة الأفريقية، ولا زالت تعاني من آثار الاستعمار الأوروبي رغم حصول دولها على الاستقلال. وفي هذا ما يفسر التحامل على المغرب الذي دخل إفريقيا بشعار “رابح/ رابح”.
مكناس في 6 شتنبر 2022