قصة الدبلوماسي الجزائري عميل الموساد خائن القضية العربية والخداع الاستراتيجي المصري ونصر أكتوبر 1973
عبدالقادر كتــرة
“الخداع الاستراتيجي المصري” من “أسرار فيلا السادات الغامضة في باريس ونصر أكتوبر 1973” فصل كامل من كتاب (حريم الجنرال) بقلم توحيد مجدي، يروي كيف وظف الرئيس المصري الراحل أنوار السادات دبلوماسي جزائري بسفارة الجزائري بباريس بفرنسا عميل جاسوس جهاز مخابرات الموسادو (الذي يحمل اسم الحرف اللاتيني A) ضابطة الموساد “تامار جولان*” بفرنسا، ويسرب معلومات/إشاعات حول إصابته بمرض خطير وسيرحل إلى باريس للعلاج، ونتيجة هذا ستطمئن إسرائيل وتتأكد على أن مصر لا يمكن لها أن تدخل حربا ولا أن تستعد لها في غيابه، فتراخت إسرائيل ونسيت الموضوع إلى أن فاجأها الجيش المصري وكانت حرب كتوبر 1973 والنصر المبين.
في هذا المقال أسرد بعض الفقرات التي اعتبرتها مهمة وتجسد القصة بأكملها للتذكير فقط بمن لعب دور الجواسيس والخونة والجبناء للقضية العربية الفلسطينية واكتفوا بالتفرج والتصفيق والثرثرة وترديد الشعارات الفارغة ومن دافع عنها وحارب واستشهد على أرضها الطيبة دون مزايدات ولا منّة ولا شعارات ولا زال الداعم الأساسي إلى يومنا هذا:
“ما زال الرئيس السادات يدرس ويتحقق ويستوثق من كل معلومة سجلت بمفكرة يوميات ضابطة الموساد تامار جولان* وقد وقعت عيناه علي سر اكتشفه لأول مرة بالصفحة رقم 251 سجلته كذكريات هامة عن يوم الأحد الموافق 27 يوليو 1975
حكت فيها أنها تلقت في ساعات الصباح الأولي أثناء تواجدها بمنزلها في باريس تعليمات سرية للغاية نقلت لها من قيادة جهاز الموساد بتل أبيب أمرتها بالسفر للعاصمة الأوغندية كمبالا مساء نفس اليوم لتغطية الفعاليات الرسمية لافتتاح مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية الذي تقرر عقده وقتها في الفترة من 28 يوليو حتي فاتح غشت 1975.
وكان السادات سعيداً للغاية لمطالعة الجزء الناقص من قصص حقيقية وجدها بين سطور يوميات تامار جولان أثبتت وأكدت له غباء عقلية الاستخبارات الإسرائيلية مثلما قرأ عنها مرات من قبل في عشرات التقارير الخاصة التي أعدها وقدمها إليه اللواء كمال حسن علي.
المهم هدفت خطة “المنزل الغامض” المصرية إلي تضليل فرع البحوث والتقدير التابع لجهاز الموساد بهدف استدراج عقوله إلي قناعة تؤكد أن الرئيس السادات لن يمكنه شن الحرب علي إسرائيل في عام 1973 لإصابته بمرضه عضال.
في الواقع اخترع الرئيس السادات فكرة عملية “المنزل الغامض” وهي بنات أفكاره من الألف إلي الياء حيث داهمته الفكرة العبقرية عقب مراجعته تقريراً معلوماتياً مصرياً أكد علي غباء العقلية الاستخباراتية الإسرائيلية وتهويل أجهزة العالم بالثناء عليها وتمجيدها بهدف ردع وإخافة الأجهزة العربية وعلي رأسها مصر كي لا تفكر في الهجوم علي إسرائيل.
عندها قرر الرئيس السادات استفزاز تلك العقلية الغبية بنفسه عن طريق إشاعة خبر مزعوم عن مرضه بمرض عضال لم يتمكن الأطباء المصريين تحديد أعراضه وأنه مضطر للسفر لفرنسا في سرية تامة لعرض نفسه علي طبيب أوروبي متخصص في أمراض الأعصاب.
وقد ثبت ظن السادات وصحة التقارير عندما كلف جهاز معلوماته لاستدراج جاسوس جزائري معروف لمصر حتي ينقل للموساد نبأ مرضه المزعوم بطريقة روتينية أثناء تواجده في الجزائر لحضور فعاليات “الدورة الرابعة” لمؤتمر دول عدم الانحياز التي عقدت بالعاصمة الجزائر خلال الفترة من 5 إلي 9 سبتمبر 1973
ويومها طالع الرئيس السادات لأول مرة بمفكرة اليوميات الجزء الناقص لحقيقة ما جري خلف كواليس العملية الإسرائيلية المضادة التي استفزتها معلومة مرضه المزعوم والتي أشرف بنفسه علي زرع بياناتها المخادعة ضمن التمهيد الاستراتيجي لشن حرب أكتوبر 1973
وطبقاً لما سجلته العملية المصرية من تفاصيل دعا الرئيس الجزائري “هوارى بومدين” الثابت توليه منصبه في الفترة من 19 يونيو 1965 حتى 27 ديسمبر 1978 الرئيس السادات لحضور الدورة الرابعة لقمة دول عدم الانحياز بالجزائر.
وعقب وصول الوفد المصري الرسمي المرافق للرئيس السادات مساء 4 سبتمبر 1973 إلي العاصمة الجزائر رصدت أجهزة المعلومات المصرية دبلوماسي جزائري قديم كان معروفاً بعمالته لإسرائيل يعمل كسكرتير أول لدي سفارة الجزائر في العاصمة الفرنسية باريس.
لكنه كان جاسوساً نشطاً وخطيراً لم يكن مكشوفاً لسلطات الاستخبارات الجزائرية مع أنه عمل طيلة الوقت لحساب جهاز الموساد الإسرائيلي بل أحياناً لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA من داخل سفارة الجزائر في باريس.
تنقل ذلك الدبلوماسي الذي ذكرته تامار جولان بيومياتها بالحرف الأول من اسمه الحقيقي “A” بحكم مهام وظيفته بحرية تامة بين الإدارات الحكومية الفرنسية وعمل كحامل حقيبة دبلوماسية بين الجزائر وباريس واستدعته وزارة خارجية بلاده للمشاركة في مؤتمر دول عدم الانحياز.
نجحت الخطة المصرية وتجاوب الدبلوماسي الجزائري الجاسوس أمام الجديد بالنسبة للرئيس السادات بمفكرة اليوميات أن “A” وجدها فرصة سانحة لاستخرج المعلومات الهامة من صديقه الدبلوماسي المصري وكان ذلك من حسن طالع الخطة المصرية.
وزعت وزارة الخارجية الجزائرية طبقاً لمجريات الأحداث ليلة الرابع من سبتمبر 1973 أعضاء الوفد المصري علي ثلاثة فنادق قريبة لقاعة المؤتمرات الرئيسية بصفتها المشرفة علي مراسم المؤتمر واستقبال ضيوفه الرسميين.
في التفاصيل تماشي الدبلوماسي المصري المحنك الذي لحق بوفد القاهرة لتنفيذ المهمة مع صديقه الدبلوماسي “A” ووقعا الصديقان علي سيدتين من السكرتيرات الفاتنات المرافقات لوفود المؤتمر بفندق مطار الجزائر – دار البيضاء الذي تأسس عام 1924
والمعروف أنه سمي باسم بلدية “دار البيضاء” التابع لها موقع الفندق والمطار علماً أن الاسم تغير عام 1978 لفندق مطار “هواري بومدين” تكريماً لاسم الرئيس الجزائري الكبير الذي توفي بمرض نادر بتاريخ 27 ديسمبر 1978 .. المهم.
ركز الدبلوماسي المصري المخضرم علي تطوير صداقته الخاصة أثناء الفعاليات الرسمية للمؤتمر مع “A” جاسوس جهاز الموساد وأجل طبقاً للخطة المصرية كشف معلومة العملية إلي حين التوقيت المناسب ومنحه الضوء الأخضر من مصر.
وعليه انغمس بالقصد مع “A” علي هامش فعاليات المؤتمر في مشاكسة الجميلات واللهو بداية من ليلة وصول الوفد المصري للعاصمة الجزائرية في 4 سبتمبر حتي صباح الأحد الموافق 9 سبتمبر 1973 وقت مراسم ختام مؤتمر دول عدم الانحياز.
انتهت الفعاليات الرسمية للمؤتمر عقب إلقاء البيان المشترك للدول المشاركة في الجلسة الختامية وكان علي الدبلوماسي المصري تنفيذ المرحلة النهائية من الخطة الطموحة في تمام الثانية عشر ظهر التاسع من سبتمبر 1973.
في المقابل بناء علي ما سجلته تامار جولان بمفكرة يومياتها الشخصية عن ذلك اليوم استعد الدبلوماسي الجزائري “A” لتفريغ كل ما يمكنه من معلومات سرية تحصل عليها طيلة أيام المؤتمر تمهيداً لتسليمها مكتوبه بالشيفرة المتفق عليها إلي تامار قبيل مغادرتها إلي باريس.
بينما راقبت العقول المصرية خطوات الدبلوماسي الجزائري الجاسوس حتي حانت اللحظة حيث حصل الدبلوماسي المصري علي الضوء الأخضر لتوجيه ضربته وعندها تقابل مع “A” في بهو “لوبي” الفندق بالجزائر وسط ضجيج مغادرة الوفود المشاركة.
وطبقاً للخطة اتخذ الدبلوماسي المصري موقعاً مكشوفاً بقاعة الأعمال بالفندق وجلس به وكأنه يراجع بعض الأوراق الهامة حتي لوح إليه عنصر مصري راقبه عن بعد بإشارة اتفقا عليها مسبقاً أن الهدف “A” يتقدم ناحيته.
علي الجانب الآخر شاهد “A” الدبلوماسي الجزائري الجاسوس المشهد من بعيد فوجدها فرصة ربما نجح بالتلصص علي محتوى تلك الأوراق المصرية الرسمية المتراصة علي مقربة منه الأمر الذي أسال لعابه الخسيس للتجسس عليها لصالح إسرائيل.
استدرج الدبلوماسي المصري صديقه جاسوس جهاز الموساد وتصنع علي وجهه تعابير التوتر والهم فسأله “A” بطريقة طبيعية عن أسباب قلقه ربما استطاع مساعدته فوجدها الدبلوماسي المصري فرصة سانحة لتنفيذ هدف العملية.
فطلب من “A” بصوت خفيض هامس وكأنه يطلعه علي سر خطير مساعدته بعلاقاته المتشعبة بفرنسا للبحث في سرية تامة عن منزل منعزل بمواصفات فاخرة وسعر غير مبالغ فيه علي أن يقع المنزل بضاحية هادئة قريبة من قلب العاصمة باريس.
كما طلب الدبلوماسي المصري من صديقه الدبلوماسي الجزائري “A” استغلال علاقاته الخاصة لتوفير عدد عشر سيارات حديثة شريطة عدم تسجيلها بأسماء مصرية أو عربية علي أن يتم انجاز الأمر في أقصى تقدير صباح الثلاثاء الموافق 25 سبتمبر 1973
تصنع الدبلوماسي المصري حالة التململ وراح يتلفت حوله مدعياً قلقه أن يسترق أحدهم السمع إلي الحديث الخافت بينه وبين صديقه “A” بقاعة رجال الأعمال بفندق الجزائر ثم طلب من الأخير عدم سؤاله عن التفاصيل لأنه سر مصري خطير.
وعندها بادله “A” افتعال الحزن وتصنع التأثر لافتاً عناية صديقه الدبلوماسي المصري لحبه واحترامه لمصر زاعماً استعداده لفداء أسرارها بحياته ومؤكداً اطلاعه علي مئات الأسرار التي لا يمكنه كشفها لأحد حماية للأمة العربية في مواجهتها مع دولة إسرائيل.
فوجدها الدبلوماسي المصري المحنك فرصة كي يتراجع عن تمسكه بالسر المزعوم معلناً اعتذاره لصديقه الحميم لكنه طلب من “A” في نفس الوقت ألا ينقل لمخلوق ما سيكشفه له مع تأكيده علي ثقته العمياء في عروبته وإخلاصه لقضايا الأمة العربية.
وعقب لحظات من الصمت المتعمد من جانب الدبلوماسي المصري حتي يصل بالدبلوماسي الجزائري جاسوس إسرائيل لقمة التشويق والترقب همس إلي “A” قائلاً في توتر ملحوظ: “الحقيقة ولا أريدك أن تكشفها لمخلوق حتي في الجزائر نفسها وأنا أثق بك وفقط أشاركك السر لأنك قادر علي مساعدتي أكثر من أي شخص آخر لا أعرفه ربما يعرض مستقبلي كله للخطر في حالة تسرب خبر أن الرئيس السادات مريض بمرض عضال فشل الأطباء المصريين في التعرف علي أعراضه لذلك حجزت الرئاسة المصرية في سرية تامة لدي طبيب فرنسي كبير أنا لا أعرف اسمه ولا بياناته لأنه مصرح لي فقط بمعلومات مهمتي والكشف تقرر في بداية أكتوبر القادم – 1973 – والمنزل الهادئ طبعاً سيقيم به الرئيس السادات وطاقم حراسته الشخصية والسيارات بالقطع لتنقلات الركب الرئاسي لأغراض أمنية خالصة”.
ساعتها غاص “A” جاسوس جهاز الموساد الدبلوماسي الجزائري في مقعده ولسان حاله يريد تقبيل صديقه المصري الذي كشف له تلك المعلومة عالية التصنيف وهو يحلم بلحظة تباهيه بالنجاح أمام الضابطة الإسرائيلية التي سيلقاها بعد ساعات لينقل لها حصيلة نشاطه في جمع الأسرار العربية.
تعجب الرئيس السادات وهو يطالع القصة المكتملة الأجزاء لعملية “المنزل الغامض” لأول مرة وقد شعر بالفخر زهواً بالنتائج التي حققتها خطته لخداع وتضليل التقدير الاستراتيجي لأفرع بحوث الاستخبارات الإسرائيلية حتي تأكدت أنه لن يعلن الحرب خلال عام 1973 علي الأقل وذلك لأسباب استراتيجية متعددة كان أبرزها خدعة مرضه بالمرض العضال.
وطبقاً لما حررته تامار دون تفاصيل أو بيانات نجحت العملية الإسرائيلية في زرع أجهزة تنصت حديثة داخل قاعة الاجتماعات الرئاسية في العاصمة الجزائر وانتظر بعدها جهاز الموساد تسجيل وسماع الحوار السري للغاية المرتقب والمتوقع بين السادات وبومدين والأسد.
كان الرئيس السادات يدرس باهتمام كل فقرة من مفكرة يوميات تامار جولان بشأن عملية المنزل المصري الغامض بباريس وفي تلك اللحظة انفجر بالضحك وهو منبهراً من دقة توقعاته التي أثبتتها الأحداث المسجلة أمامه ولتلك الواقعة قصة مثيرة.
واضطر مؤقتاً لمغادرة مفكرة اليوميات لأذهب مباشرة للمعلومات المصرية الحصرية مثلما وقعت تكشف لنا سر حالة الغبطة المفاجأة التي انتابت الرئيس السادات والحقيقة رصدت المعلومات ظهور ضابطي جهاز الموساد اللذين ذكرتهما تامار بيومياتها.
وعقب التعرف علي شخصيتيهما وتحليل صورهما الملتقطة في طرقات المؤتمر بالجزائر اضطر اللواء “أحمد عبد السلام محمد توفيق” مدير الاستخبارات المصرية في الفترة من مارس 1973 حتي مايو 1975 لإبلاغ الرئيس السادات باحتمال كشف الموساد معلومة الاجتماع الرئاسي الثلاثي السري للغاية المخطط لعقده في الجزائر.
فأحاط الرئيس السادات نظيره الجزائري بومدين بالمعلومات المصرية فاستدعي بومدين مدير جهاز استخباراته القوي العقيد “قاصدي مرباح” الثابت شغله منصبه في الفترة من عام 1965 حتي عام 1978
والمعروف أنه تولي بعدها منصب رئاسة الوزراء الجزائرية خلال الفترة من 5 نوفمبر 1988 حتي 9 سبتمبر 1989 ثم اغتياله في 21 أغسطس 1993 لاتهامه بالتورط في إفساد الحياة السياسية للجزائر.
في اللقاء الذي حضره الرئيس السادات أطلع بومدين العقيد مرباح علي الصور والبيانات المصرية وطلب منه التصرف بينما تدخل الرئيس السادات واقترح بناء علي خبراته في مواجهة عمليات جهاز الموساد استغلال الواقعة لوضع خطة مرتجلة لتضليل المعلومات الإسرائيلية.
الغريب أن الرئيس السادات اقترح يومها علي الرئيس هواري بومدين ومدير استخباراته مرباح تمكين ضابطي جهاز الموساد من الدخول لقاعة اللقاء المرتقب وأن يراقب مرباح عمليتهما دون تدخل منه وبشرط ألا يكشف جهاز الموساد رجاله الجزائريين أثناء المراقبة.
ورسم الرئيس السادات خطة محكمة بدت للرئيس بومدين ولمدير جهاز معلوماته وكأنها سيناريو فيلم حركة مثير من إخراج السادات حيث لم يغفل الرئيس المصري حتي الحوار ومسيرة الحديث الذي قسمه بينه وبين بومدين وحافظ الأسد بعدما أطلعاه علي السر.
سيوجهه طبقاً للخطة المرتجلة إلي الرئيس السادات وسط الحديث العادي ليسأله بوضوح يعتريه القلق عن الترتيبات المصرية بشأن دخول الحرب ضد إسرائيل وهل باتت قريبة أم ما زالت بعيدة؟
وفي الحوار طبقاً للخطة تقرر أن يجيب الرئيس السادات علي حافظ الأسد بصوت ينم عن عدم استعداد مصر للحرب بسبب نقص الكثير من نوعيات السلاح التي ستحتاجها العمليات العسكرية الشاملة.
وأن يعلن السادات للرئيس الجزائري والسوري عن أمله للوصول لعقد صفقة عاجلة مع الاتحاد السوفييتي لتوفير السلاح وحتي تحقيق ذلك الأمر لن يمكنه إعلان الحرب علي إسرائيل ثم تنتهي الجلسة بشكل روتيني.
وعقب تأكد جهاز الموساد مساء 7 سبتمبر 1973 أن مصر غير مستعدة لدخول الحرب وأن الرئيس السادات مريضاً بمرض عضال كافأ مدير الجهاز الإسرائيلي اللواء “تسفي زامير” النقيب تامار جولان بمكتبه بتل أبيب صباح الاثنين الموافق 10 سبتمبر 1973
وبعدها بساعات قليلة طارت تامار عائدة إلي العاصمة الفرنسية باريس للمشاركة بعملية مراقبة المنزل المصري الغامض وبالتأكيد حتي تسلم ما بجعبتها من موضوعات صحفية كتبتها لحساب مكتب شبكة أخبار B.B.C وجريدة الأوبزرفر التي سافرت في الأصل من أجل العمل لصالحهما لتغطية مؤتمر دول عدم الانحياز كمتخصصة بالشؤون الإفريقية.
في هذه الأثناء كان السيد “”A الدبلوماسي الجزائري جاسوس جهاز الموساد قد عاد إلي عمله بالسفارة الجزائرية بالعاصمة الفرنسية باريس ونجح خلال أقل من 72 ساعة مثلما وعد صديقه الدبلوماسي المصري في استئجار منزل بالمواصفات المطلوبة.
وكان قد حقق صفقة جيدة بشأنه مع سمسار عقارات سبق أن تعامل معه عدة مرات وهو منزل فاخر بمواصفات خاصة يقع بمنطقة متطرفة هادئة بإحدى الضواحي الثرية غرب مدينة “فيرساي” الشهيرة بمعالمها ومزاراتها التاريخية والسياسية التي تبعد 17.1 كيلو متراً غرب باريس.
كما استأجر السيارات العشرة لتحركات موكب السادات وعملياً انتهى دور “”A تماماً عند هذا الحد مع حصوله علي عمولة محترمة من صديقه الدبلوماسي المصري مقابل خدماته الخاصة وقد اختفى ذكره مع انتهاء أحداث ذلك الفصل الهام من يوميات تامار جولان.
حيث وصلت إلي موقع المنزل أولاً مجموعة مصرية محترفة أمنت مداخله ومخارجه وقامت بعمليات مسح إليكترونية خشية أن يكون جهاز الموساد قد سبق وزرع بأركانه أجهزة حديثة للتنصت وبالتزامن مع ذلك استلمت مجموعة مصرية أخري السيارات العشرة وقادتها إلي مكان آمن داخل المدينة الفرنسية.
وإمعاناً للتمويه علي مجريات العملية المصرية عادت السيارات العشرة التي استأجرها “”A إلي منزل ضاحية “فيرساي” مرة أخري ليلة السبت الموافق 29 سبتمبر في قافلة تحركت من مطار “لو بورجيه” الذي تأسس عام 1919
وطبقاً للسجلات السرية لهيئة الطيران المدني الفرنسية هبطت بالفعل بنفس التاريخ داخل ذلك المطار الواقع علي مسافة 10.6 كيلو متراً شمال شرق مدينة باريس طائرة خاصة صغيرة الحجم من طراز “داسو فالكون-10” درجة خدمات رجال الأعمال وصلت من مطار القاهرة الدولي المصري.
واللافت أن معلومات جهاز الموساد أكدت بعدها أن أشخاص بهويات مصرية سليمة قاموا باستئجار الطائرة قبل تنفيذ العملية المصرية بساعات قليلة بشكل متكتم من إحدى الشركات الجوية الخاصة في العاصمة الكرواتية “زغرب” وأن عقد التشغيل اشترط أن يقودها طاقم جوي مؤهل مصري الجنسية الأمر الذي دفعهم لتصديق معلومة مرض السادات.
بينما سمحت نفس السلطات بتسريب معلومة واحدة ادعت اشتباه عنصر عامل بالخدمات الأرضية بالمهبط العسكري في مطار “لو بورجيه” بشخص بين ركاب الطائرة الغامضة تشبه ملامحه إلي حد بعيد ملامح الرئيس المصري المعروف للعامة محمد أنور السادات.
وأنتقل إلي قافلة ركب السيارات التي خرجت من مطار “لو بورجيه” حيث استقرت داخل ساحة المنزل المصري علي أطراف ضاحية “فيرساي” الثرية ولم تتحرك منه طيلة فترة شغل المنزل سوي سيارة ماركة “سيتروين” – انتجت عام 1919 – فرنسية الصنع لونها أسود.
أقلت عصر الثاني من أكتوبر 1973 شخص مصري ذو ملامح شرقية واضحة غاب لمدة ساعة وخمسة عشر دقيقة في اتجاه وسط باريس ثم عاد وبصحبته طبيب فرنسي متخصص في مجال الأعصاب معروف بالمدينة أنه شيوعي متعصب من أشد المعادين لدولة إسرائيل والصهيونية له سجل حافل بتأييد القضية الفلسطينية داخل أروقة أكاديمية الطب الفرنسية.
وربما قصدت الخطة المصرية اختيار ذلك الطبيب بالذات لمنع جهاز الموساد من مجرد محاولة التفكير بالاقتراب من الطبيب المتعصب لاستجوابه عن حالة ذلك المريض الذي ذهب للكشف الخاص عليه داخل المنزل الغامض علي أطراف ضاحية “فيرساي” عصر الثاني من أكتوبر عام 1973
ما زال الرئيس السادات يطالع التفاصيل وهو علي وشك الانتهاء من يوميات تامار جولان بشأن واقعة خطة المنزل المصري الغامض وقد تذكر في تلك اللحظة تعمده الاختفاء عن أنظار وسائل الإعلام بأنواعها المحلية والدولية بداية من نهاية شهر سبتمبر 1973.
ترسخت الفكرة لدي جهاز الموساد وكأنه سافر بالفعل إلي فرنسا للعلاج الأمر الذي جعل تامار جولان ومجموعتها التي راقبت المنزل المصري الغامض بضاحية “فيرساي” يعتقدون بقوة أن الرئيس السادات تواجد بالداخل للعلاج وبعدها فوجئ العالم بمصر تشن حرب أكتوبر وتنتصر بخطة رئيسها العظيم وعقول رجال أجهزتها التي خططت ونفذت الخدعة الكبرى للسادات.
*غادرت “تامار جولان” ضابطة عمليات وحدة النساء التابعة لمؤسسة الاستخبارات والمهام الخاصة “الموساد” العاصمة الأمريكية واشنطن صباح السابع من نوفمبر 1975 بعد يوم واحد من مغادرة الرئيس السادات إلي مصر في طريقها إلي العاصمة الفرنسية باريس.
وقد ودعها بالمطار الصحفي الأمريكي “والتر كرونكيت” كبير مقدمي البرامج لدي شبكة CBS الإخبارية بعدما نجح في تنفيذ خطة الرئيس السادات ما أكسبه ثقتها الكاملة وجعله أحد أهم أصدقائها المقربين.
أعادت تامار افتتاح صالونها الثقافي الذي أطلقت عليه النخبة المثقفة العربية والإفريقية – هدف عمليتها – “صالون ذات الرداء الأبيض” الذي أدارته وأشرفت عليه وسط الحي السادس عشر في مدينة باريس.
والتسمية لأن تامار ارتدت عقب وفاة زوجها “أفياهو جولان” ضابط الاستخبارات الحربية الإسرائيلية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1961 ملابس الحداد السوداء لمدة ستة أشهر ثم خلعتها في بداية شهر يناير 1962 لترتدي بعدها طيلة حياتها الملابس البيضاء وحدها حتي عرفت في الأوساط الثقافية الفرنسية والإفريقية بلقب ذات الرداء الأبيض.
الغريب أن معظم من عاصروا نقيب جهاز الموساد تامار جولان اعتقدوا أنها تخلصت من حزنها بالأبيض بينما اكتشف الرئيس السادات العكس بمفكرة يوميات مذكراتها الشخصية التي أرسلها إليه كرونكيت في آخر أيام زيارته الرسمية لواشنطن.
بعدما سجلت أن اللون الأبيض هو لون الحزن التقليدي لدي معظم دول القارة الإفريقية وهي معلومة سبق وكشفها اللواء “كمال حسن علي” إلي الرئيس السادات مؤكداً العكس وأنها لم تنسي حزنها عندما خلعت الأسود بل أصبحت بالأبيض أكثر كراهية وشراسة لإفريقيا.