سقطة دبلوماسية فرنسية مدوية!
اسماعيل الحلوتي
يبدو أنه لم تعد تونس وحدها من أصيبت بعدوى التخبط والتوهان وفقدت البوصلة إثر تقارب رئيسها قيس سعيد مع “العصابة” الحاكمة في قصر المرادية، بل حتى فرنسا هي الأخرى نالت نصيبها من تلك اللعنة منذ أن حل قائدها إيمانويل ماكرون ضيفا عليه بالجزائر أيام 25،26 و27 غشت 2022، حيث أنه ومنذ ذلك الحين وهو يخبط خبط عشواء ولا يلوي على شيء، وكأن ضربة شمس قوية شلت دماغه.
إذ أنه وبينما ظلت القناة الإخبارية الفرنسية الشهيرة “سي نيوز” تروج على مدى أسبوع لاستضافة فرحات مهني رئيس الحركة من أجل استقلال منطقة القبايل في الجزائر “الماك” على المباشر مساء يوم: الأحد 2 أكتوبر 2022 ابتداء من الساعة الثامنة و25 دقيقة، فإذا بالجمهور العريض من مشاهديها يفاجأ بإلغاء المقابلة على بعد دقائق معدودة من حلول موعدها. وهو ما أثار زوبعة من التذمر وردود فعل غاضبة، ولاسيما أن القناة تجاهلت متابعيها ولم تقدم لهم أي توضيح بخصوص هذا الإلغاء الذي نزل على رؤوسهم كالصاعقة، وأن الضيف الذي هو في نفس الوقت لاجئ سياسي مقيم في العاصمة الفرنسية باريس ورئيس “جمهورية القبايل” المؤقتة، كان يعتزم تقديم توضيحات حول وضع الجالية القبايلية ومكانتها بفرنسا وموضوع الإسلاميين.
ومما زاد من استغراب الملاحظين والمحللين السياسيين، أنه وحسب ما تسرب من أخبار موثوق بمصادرها، أن ابتزازات وضغوطات جزائرية مورست على قصر الإليزي للحيلولة دون تقديم تلك الحلقة، تفاديا لأي مفاجآت غير سارة من شأنها الإساءة إلى النظام العسكري الجزائري الفاسد والمتسلط. حيث هناك من يقول بتدخل رئيس القناة “يانيك بولوريه” شخصيا، بناء على اتصال مباشر من الرئيس الفرنسي، الذي يسعى جاهدا إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع الجزائر والاستفادة من غازها في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية. وهناك كذلك من يقول أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون كان قد سبق له إنذار مستشاريه، وهدد بإلغاء زيارة الوزيرة الأولى الفرنسية “إليزابيث بورن” للجزائر العاصمة إذا ما تم السماح ببث المقابلة التلفزيونية مع فرحات مهني. وإلا ما معنى أن يقتحم في آخر اللحظات مسؤول من القناة قاعة الانتظار ويعلن للضيف والصحافي المكلف بإجراء اللقاء عن قرار الإلغاء أو التأجيل إلى تاريخ لا حق؟
وفي الوقت الذي تعالت فيه أصوات الاستنكار والتنديد بهذا المنع غير المبرر ومصادرة حق فرحات مهني في إبداء الرأي حول مجموعة من القضايا الهامة، فإن الكثيرين تساءلوا عما ظلت تتبجح به فرنسا من مناصرة حقوق الإنسان وحرية التعبير والصحافة والتعددية الإعلامية، والادعاء بأنها تندرج ضمن أهم مبادئها التي تدافع عنها عبر العالم؟ وهل يعقل أن ترضخ بلاد الأنوار وإحدى الديمقراطيات العريقة في أوروبا، التي ظلت دائما تؤكد على محورية فصل السلط في نظامها السياسي، لأوامر النظام العسكري الفاشي والاستبدادي في الجزائر، ضاربة عرض الحائط بكل القيم الإنسانية مقابل الحفاظ على مصالح اقتصادية آنية؟
ولعل الأسوأ من ذلك هو أن فرنسا لم تقف عند حدود منع قناة “سي نيوز” من استضافة فرحات مهني زعيم الحركة التي لم تنفك تطالب بالانفصال عن الجزائر، لما يتعرض له سكان منطقة القبايل من تهميش وإقصاء وتواجه به احتجاجاتهم من قمع على يد الطغمة العسكرية الفاسدة، بل تجاوزته إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أقدمت سفارتها بالرباط في سابقة تعد هي الأولى من نوعها على محاولة فرض وصايتها على الصحافة المغربية وحرمانها من حقها هي أيضا في التعبير الحر، عندما أجازت لنفسها إصدار ما أسمته ب”بيان حقيقة”، متوخية من خلاله إخراس الألسن، متجاوزة بذلك واجب التحفظ المفروض احترامه في العمل الدبلوماسي الصرف، ومتطاولة على منابر الإعلام الوطنية وحتى على التعليقات والتدوينات، ناسية أن المغرب نال استقلاله منذ أزيد من خمسة عقود، وأنه اليوم ليس هو ما كان عليه بالأمس.
وهو ما أثار حفيظة عديد المواطنين المغاربة الذين مازالوا مستائين من قرار تشديد باريس القيود على منحهم تأشيرات الدخول إلى فرنسا، وتقليص عددها إلى حوالي نصف ما كانت عليه قبل شتنبر 2021. ودفع بالحكومة المغربية إلى الانبراء لذلك البيان الباطل الذي اعتبر أن ما ورد في الإعلام عن تدخل السلطات الفرنسية لمنع المقابلة التلفزيونية السالفة الذكر “مجرد ادعاءات وأن فرنسا ملزمة بالتقيد بحرية الصحافة والتعبير في كل أنحاء العالم”، حيث أنها رفضت بقوة إقحام المغرب في قضية مواطن ليس من مواطنيه وفي قناة ليست من قنواته الوطنية، متسائلة على الهدف من وراء ذلك، وفق ما صرح به مصطفى بايتاس الناطق الرسمي باسمها، خلال الندوة الصحفية التي أعقبت المجلس الحكومي ليوم الخميس 6 أكتوبر 2022.
إن لجوء فرنسا إلى هكذا أساليب استفزازية وإصدار بيانات سخيفة وغير متجانسة، تروم من خلالها حشر المغرب في قضايا لا تعنيه ومحاولة طمس حقائق لم تعد خافية على أحد، عبر سفارتها بالرباط دون باقي سفاراتها الأخرى في العالم، يؤكد بالملموس أن السلطات الفرنسية فقدت فعلا مصداقيتها، ويعد سقطة دبلوماسية مدوية، سيليها بلا شك المزيد من السقطات، ما لم يعمل الرئيس إيمانويل ماكرون على العودة إلى جادة الصواب، والتخلص سريعا من تلك القيود التي فرضها عليه “الكابرانات” في قصر المرادية…