مشاهدات وخواطر من على جناح طائرة..
المختار أعويدي
ألزمتني ظروف طارئة قبيل أيام قليلة، على قطع عطلتي وزيارتي لأبنائي بالديار الفرنسية، والعودة إلى أرض الوطن لقضاء بعض الأغراض.
كان السفر في اتجاه المطار باكرا قبل الفجر بساعات. تحسبا للإجراءات التي تسبق عملية الإركاب. كان الإستيقاظ المبكر متعِبا بعض الشيء، ولكن برغم عناء ومشقة ذلك، وعدم أخذ القسط الكافي من الراحة، من أجل الإلتحاق بالمطار (Beauvaisء) الذي يبعد على مدينة باريس بمسافة ساعة من الزمن في الوقت المحدد، إلا أن روعة التحليق خلال هذا الوقت من النهار. وما كانت تخبئه لي الرحلة من مشاهدات ومناظر طبيعية، غاية في الروعة والندرة والجمال، أنستني لاحقا كل هذه المتاعب.
كان الجو في بلدة بوفي الصغيرة الهادئة، باردا عند وصولي إلى مطارها المدني على الساعة الخامسة والنصف صباحا بال الأولى (توقيت المحلي (الرابعة والنصف بتوقيت المغرب)، لكن البهو الداخلي المغلق للمحطة الأولىTerminale 1) ء) من المطار، الذي كان يعج بالحركة والضجيج، كان دافئا ومكتظا بالمسافرين القاصدين مختلف جهات ووجهات الأرض.
استوجبت عمليات التسجيل والمراقبة الإدارية والأمنية وعمليات الإركاب، ما يقارب الساعة والنصف من الزمن تقريبا، وذلك قبل إقلاع الطائرة نحو وجهتها على الساعة السابعة بالتوقيت المحلي، أي قبل الشروق بحوالي أقل من الساعة.
كان الانطلاق نحو الأجواء في هذا الوقت، الذي كان فيه الظلام لا يزال يرخي سدوله على المكان، رائعا ساحرا. بما كان يعني ذلك أنني سأشاهد لأول مرة، رغم أسفاري العديدة جواً، ظاهرة الشروق من الفضاء من على جناح طائرة. محلقا في أجواء فسيحة رحبة لامتناهية، لا تفسدها حواجز ولا يعكر صفوها وصفاءها شيء، غير هذه الآلات المحلقة العجيبة.
قام الربابنة مباشرة بعد الإقلاع، بتخفيف مستوى الإنارة داخل القمرة، كما لو أنهم بذلك أرادوا تحفيز المسافرين، الذين كان أكثرهم قد بدأ يستسلم للنوم، على أخذ قسط من الراحة. خاصة أن مجال الرؤية في الأجواء خارج الطائرة وقتذاك، كان لا يزال معتما وموحشا، لا يغري بالفضول أو الاهتمام.
لكن برغم حاجتي الماسة إلى النوم والراحة، حرصت على البقاء مستيقظا، حتى لا أضيع موعدا رائعا لشروق الشمس من هذا الارتفاع. وأفوت الإستمتاع بمشاهدة المناظر الجميلة التي تصاحبه. فقد كنت أعلم أن بعد هذه الظلمة، التي لم يخفف من قتامة سوادها سوى ضوء القمر المكتمل بدرا، ستنبثق وتنبلج مشاهد ومناظر غاية في الروعة والندرة. فقد أبيت إلا أن استمتع بهذه المشاهد والمناظر الساحرة، وأرى جانبا من عجائب القدرة الإلهية في مخلوقاته.
ولعل من حسن طالعي وحسن الصدف الجميلة هذا اليوم، أنني ومسافري الرحلة، لم نشهد ظاهرة الشروق الفلكية الفريدة فقط، من هذا العلو الكبير والفضاء الفسيح والفراغ اللامتناهي. بل شهدنا أيضا ظاهرة فلكية أخرى خلال نفس الوقت، على نفس القدر من السحر والجمال، هي ظاهرة أفول القمر.
لقد كنا في الحقيقة محظوظين أن نرى في نفس الوقت ومن هذا العلو، ظاهرتان فلكيتان رائعتان، يتمظهر فيهما كل الجمال الأخاذ، والسحر الآسر الفاتن، وتتجلى فيهما الأنوار الإلهية الرائعة، وإبداعها المعجز، وقدرتها الجبارة متناهية الإعجاز.
ففي الوقت الذي كان فيه القمر يهم بالأفول في أقصى أفق الجهة الغربية، المقابلة لنافذتي حيث أجلس، مُشَكلا حوله هالة ناصعة البياض، وراسماً مع تشكيلات السحب الخفيفة متنوعة الألوان والأشكال والأحجام المتناثرة في الفضاء، لوحات ومناظر غاية في السحر والجمال.. في هذا الوقت كانت الخيوط الأولى لأشعة الشمس، قد بدأت لتوها تنتشر في مجموع الفضاء الفسيح، وتسكب في المدى الواسع ألوانا متنوعة متدرجة، يغلب فيها اللون البرتقالي، المتماهي مع تدرجات ألوان السحب المتراوحة ما بين الأبيض الناصع والرمادي الداكن، مرورا بتشكيلات ألوان كثيرة جدا، يستعصي على الرسام تركيبها وتشكيلها. ممتدة على مرمى البصر في شكل بحر لا نهاية له من التموجات. وتتسلل إلى داخل الطائرة عبر نوافذها اليسرى المقابلة للجهة الشرقية، ناشرة ضياءها الذي غطى على أنوار المصابيح الداخلية للطائرة، التي أضحت باهتة شاحبة.
كان صفاء السماء الإستثنائي، إلا من سحب خفيفة متناثرة فوق بلدة بوفي ومجموع شمال فرنسا، في مثل هذا الوقت من شهر أكتوبر، عاملا يسر وأتاح فرصة الإستمتاع بهذه المشاهد الفاتنة الجميلة. حقا قد تظافرت اليوم كل العوامل الفلكية والجوية، التي مكنتني ومجموع مسافري الرحلة، من عيش لحظات فلكية طبيعية رائعة الجمال.
كان نور القمر يتداعى في أقصى الأفق، وسطحه يزداد شحوبا، مع إطلالة الشمس من أقصى الأفق الشرقي، وسط مجال مُضمخ بحمرة برتقالية شاملة، وازدياد وهج أشعتها الساطعة.
حقا إن روعة حركتا الشروق والأفول للشمس والقمر في وقت واحد، في علاقتهما بالأرض، تبرزان في الحقيقة جانبا من دقة الإبداع الإلهي، فيما يتعلق بالدوران والحركة والنظام الفلكي البديع، الذي تخضع له مجموع الأجرام والأجسام السماوية، التي تسبح في الفراغ اللامتناهي. مترجمة قدرة مهندسها وإبداع خالقها سبحانه وتعالى.
لحظتان رائعتا الجمال، تعجز عن تصويرهما الألفاظ والكلمات، مهما أدركت من بلاغة وإبهار ودقة في الوصف. ترسمان كل هذا الجمال متعدد الأشكال والالوان، الذي كانت تسبح فيه الطائرة متقدمة بسرعة نحو وجهتها. ربما نادرا ما قد يتيسر للمرء مشاهدتها، بالنظر إلى أنها ترتبط بتظافر العوامل المذكورة، التي اجتمعت في زمان ومكان وفضاء معين.
برغم صغرها وضيقها، كما في جميع الطائرات، كانت النافذة التي أجلس إليها في مقدمة الطائرة على الجهة اليمنى، تمكنني من رؤية بانورامية واسعة لكل هذا الجمال الذي يحيط بالطائرة من كل مكان. ومن ملاحظة التحولات الحاصلة في الغلاف الجوي بين مكان وآخر، مع تقدم الطائرة نحو وجهتها. حيث المشاهد والمناظر المرتسمة تتغير وتتبدل وتتشكل، وتثير في النفس الإعجاب والإنبهار في ملكوت الخالق..
فالسحب تزداد تشكيلاتها وتتباين ألوانها وأحجامها وسمكها، من مكان لآخر بشكل يثير الدهشة. فتارة تتخذ شكل بحر متموج واسع لا متناهي، ممتد أسفل الطائرة على مرمى البصر، يقف حاجزا يمنع رؤية سطح الأرض البعيد هناك في الأسفل. وأحيانا تتخد شكل أكوام قطن سميكة ناصعة البياض، متناثرة في الفضاء. وأحيانا شكل سجاد أبيض عملاق، مطرز بالرمادي صقيل وناعم ولامع. ومرات حقول ثلج لا نهاية لامتدادها. وتارة شكل ضباب خفيف أشبه ما يكون بدخان يلف الطائرة، التي تتقاذفه على جوانبها مع تقدمها السريع في الفراغ الشاسع.
وفي أقصى أفق هذا الفضاء الرحب، حيث تبلغ الرؤية مداها ومُنتهاها، يرتسم خط أفقي مستقيم، تلتقي فيه زرقة القبة السماوية الواسعة، وتشكيلات الغلاف الجوي المتنوعة. خط مستقيم ممتد على مرمى البصر، مع ميل خفيف إلى التحدب، تناغما مع الشكل الكروي لسطح الأرض.
بالنظر لتحليق الطائرة على علو كبير، فإن مكونات الغلاف الجوي المذكورة، وما ينتج عن تداخلها مع الضوء والإشعاع الشمسي من مشاهد ومناظر وتشكيلات متعددة ومتنوعة، تمتد كلها أسفل مسار الطائرة. في مجال واسع ورحب، لا تخدش نقاءه وجماله وسحره ملوثات الآدمين، المتراكمة هناك بعيدا في الأسفل على سطح الأرض. اللهم من هدير المحركات الجبارة الصاخب للطائرة، وملوثاتها الغازية المنبعثة في شكل ذيول دخانية بيضاء ممتدة خلفها، أشبه ما تكون بمخلفات المذنبات الكونية، أثناء سفرها الجنوني في الفضاء الواسع الرحب.
برغم تقدمها في عنان الفضاء بانسيابية وسرعة فائقة يقل فيها الإحتكاك، تبدو الطائرة كما لو أنها ثابتة لا تتحرك، أو كأن حركتها بطيئة للغاية. وذلك بالنظر من جهة، للأبعاد الواسعة للفضاء الرحب الذي تنساب فيه. ومن جهة أخرى، لانعدام الأجسام الثابتة فيه، التي من شانها ان تساعد على إدراك السرعة الحقيقية الفائقة للطائرة. ولا يمكن إدراك حقيقة هذه السرعة، سوى عند مرور طائرة أخرى في الجوار في اتجاه معاكس. حينها تبدو هذه الآلات الطائرة العجيبة، من فرط سرعتها الكبيرة، كما لو أنها صواريخ عابرة للفضاء والمكان.
هناك في أسفل هذا السحر العلوي، الذي يكتنف هذا الفضاء النقي البهي، تبدو الأرض المثقلة بأوزارنا وآثامنا وقبحنا وملوثاتنا وجشعنا، تبدو بين الفنية والأخرى، كلما تبددت وانقشعت حواجز السحب والغيوم السميكة التي تحجبها، وسمحت بالرؤية المجردة. تغلب على معظم سطحها الألوان الداكنة الغامقة القاتمة الكئيبة، كما لو أنها تحكي بذلك أسرار معاناتها ومآسيها، مع قبح وجشع هذا المخلوق “العاقل” “المتحضر”.. الإنسان.
تتقاسم سطحها أكوام الإسمنت المسلح المتراصة تارة، في شكل مدن أخطبوطية الشكل، ممتدة في كل اتجاه. كما لو أنها أوراماً سرطانية لحضارتنا الملوثة المعطوبة، تخدش جمالها ورونقها وطبيعتها. أو متناثرة في شكل قرى وتجمعات سكنية متفرقة هنا وهناك. هي أشبه ببثور طفيلية في وجه حسناء.
لكن أكثر ما يثير الإنتباه في صورة الأرض من الفضاء، هو غلبة هذه الأشكال الهندسية العديدة والمتنوعة، التي لا تعد ولا تحد، ولا حصر أو نهاية لها، في كل مناطق ومجالات الإستقرار البشري، التي تطرز سطحها وتزركشه، في شكل حيازات أو إقطاعيات أو ملكيات فلاحية أو صناعية أو عقارية أو غابوية.. هي في حد ذاتها حدود ممتلكات، تحكي عن فرط جشع هذا الإنسان، ونزوعه الفطري إلى حب التملك والسيطرة والإستحواذ..
لا تأخذ الأرض طبيعتها وجمالها وروعتها، سوى عند التحليق فوق مسطحات مائية، كالبحار أو الأنهار أو البحيرات الطبيعية. أو فوق مجالات تضاريس طبيعية عذراء، كالغابات والمرتفعات والجبال والوهاد والفجاج والسهوب والأحراش، التي تنتفي فيها لوثة هذا الإنسان وأثره المدمر، وتختفي فيها معالم الزحف المتسرطن لخوردة حضارته الصدئة.
ليس هناك في الحقيقة أكثر ما يبعث على الإرتياح والإنشراح، في أجواء العودة إلى الوطن، من التحليق فوق سطح البحر.. البحر الأبيض المتوسط، الذي يتراءى بعد اجتياز الطائرة لأجواء التراب الإسباني، ممتدا على مرمى البصر والنظر، بزرقته الفاقعة، وسطحه الأملس الناصع، وسكونه الكبير غير المعهود، الذي يبعث في النفس الهدوء والإسترخاء. البحر المتوسط، مهد العديد من الحضارات التي قامت وسادت ثم بادت. وموطن العديد من الشعوب والأقوام، التي تعايشت وتساكنت على سواحله تارة، وتناحرت واقتتلت أطوارا.
يبدو البحر المتوسط هذا الصباح هادئا مستسلما على غير عادته، كما لو أنه يتكتم عن قصص الموت الرهيبة، التي اقترفها على مدى العصور والأزمان، أو التي عايشها وكان شاهدا عليها، بسبب تناحر الشعوب واقتتالها على سواحله وفوق مياهه .. أو لكأنه يحاول إخفاء قصص مهرجانات الموت الجماعية الحزينة، وحكايا رحلات الهروب المؤلمة من الأوطان، التي كان محركها الأمل، وتعقب حياة ومستقبل أفضل، والتي انتهى أغلبها على وقع مأساة الموت والغرق في أحشائه.
بينما أغوص في تأمل جمال هذا البحر وبهاءه وروعته ومنظره الخلاب من الفضاء، وأفكر فيما شهده من قصص موت حزينة، يزدحم ذهني بالعديد من صور معاناة مواطنينا وسواهم من المواطنين العرب والأفارقة، الذين شهدوا صنوف المخاطر والأهوال، أثناء محاولات عبورهم لهذا البحر. في إطار عمليات الهجرة الإنتحارية والرحيل الموجع عن أحضان الأوطان. وترتسم في ذهني مأساة مواجهتهم لأمواجه العاتية المرعبة، وصراعهم من أجل البقاء. أحاول تقمص أرواحهم وتخيل لحظات صراعهم المرير الأخير مع الموت.. ينتابني شعور مرير لا يحتمل، وتكبس على نفسي شهقة ألم وحسرة حزن غامر، تنزل في شكل دمعة حارة على الخد، لأجل أرواح هؤلاء الشباب الذين انتهى المطاف بأكثرهم، جثثا طافية فوق سطح هذا البحر، عائمة نحو المجهول، تتقاذفها امواجه العاتية التي لا ترحم في كل اتجاه.
تستبد بي لحظات ألم وحزن كئيبة لأجل أمهاتهم الثكالى، اللائي ظللن ينتظرن بأمل وشوق أخبار فلذات أكبادهن. حتى باغتتهن اخبار الموت القادمة من بعيد. الموت الذي أجهز على أرواح أبنائهن في أعماق البحر الباردة المرعبة، في غفلة من الجميع. حتى من دون خبر أو أثر لجثثهم التي ضاعت في غياهب هذا البحر، أو وصلت منقوصة الأعضاء أو مبتورة الاطراف أو منزوعة الأحشاء. ما حرمهن حتى من إلقاء النظرة الأخيرة على جثثهم، أو تشييع جنازاتهم وتنظيم سرادق العزاء لهم..
يتبادر إلى ذهني السؤال الموجع الحارق، على من تقع مسؤولية هذا الموت الجماعي المتكرر، الذي يقض مضجع كل الأسر المكلومة ويؤرق كل المواطنين والغيورين حيثما وجدوا. وتبقى الحقيقة المؤكدة، هي أنه مهما بلغت قسوة هذا البحر، الذي اقترف كل هذه المآتم في حق هؤلاء الأبرياء، فلن يكون أبدا في مستوى قسوة ضمائر أولئك الذي كانوا سببا في هروبهم الجماعي من أوطانهم، وتورطهم المباشر في تحمل مسؤولية هذا الموت المؤلم المخجل..
بينما كانت تستبد بذهني كل هذه الصور والأفكار السوداوية الحزينة، إذا بقائد الطائرة يجتثني منها اجتثاثا، على وقع صوته الرخيم في مكبر الصوت، وهو يخبر المسافرين ببداية عملية هبوط الطائرة. التي من المعلوم أنها تبدأ عادة على بعد عشرات الكيلومترات من مطار النزول. كان ذلك إيذانا بقرب مغادرة الطائرة لأجواء المياه الدولية. ودخولها للمجال الجوي البحري الوطني.
كم هو رائع ساحر دافئ، هذا الإحساس الجميل بحضن هذا الوطن العزيز المغرب ونبضه..! فبمجرد إخبار قائد الطائرة المسافرين بدخول أجواء البلاد، حتى كان لذلك وقع سحري هز الفؤاد، وزلزل الكيان، وأحدث في النفس رجة قوية، تمتزج فيها مشاعر البهجة والفرح والسرور، واحاسيس الإنتماء والفخر والعرفان. ويسري في القلب نبض قوي، ودفق كهربائي غامر، يبعث بشحنات حب ورشقات عشق، عصية على الفهم والإدراك، إلى كل الجوارح والأعضاء والخلايا، محدثا في الكيان هزة ورعشة عنيفة، هي أشبه بما يحدثه التيار الكهربائي في الأجسام. ومن غريب الأمور أن هذا الشعور يكاد يلازمني ويستبد بي كلما هممت بالعودة إلى أحضان الوطن الرائع.!
مهما كان هذا الوطن قاسيا عاتيا، ومهما كان مسؤولوه جبارين ظلمة، ومهما كانت أوضاعه متخلفة ومتأخرة عما تشهده بلدان الجوار الشمالية، من تقدم وازدهار ورفاهية، تغري بالهجرة والإغتراب. فإن لحبه وعشقه في النفس وقع سحري عجيب. له قدرة عجيبة على أن يحيل حتى أكثر النفوس سخطا وغضبا ونقمة ونفورا، إلى جوارح طيعة طرية نقية بهية، تنبض بحبه وتخفق بعشقه وهيامه. فحب الأوطان من الإيمان، ولا علاقة لذلك بطبيعة الحكم أو شكل الحكومة أو نوعية المؤسسات وما إن كان هناك عدل أو ظلم. فحب الوطن أقوى وأبقى منها ومنهم جميعا..!
أخيرا بعد مغادرتها لأجواء البحر المتوسط وحكاياه الحزينة، حول مصير أفواج الشباب الذين تبخرت أحلامهم وتكسرت طموحاتهم وانتهت حياتهم هناك في أعماقه الباردة المعتمة، حلقت الطائرة فوق تراب الوطن على علو منخفض، أصبحت معه تفاصيل السطح تبدو بوضوح كبير، وتبدو خصوصيات بيئة الوطن وتفاصيلها المختلفة، فظهر الإمتداد الكبير لمدينة الناظور المتشحة بالبياض الذي تصطبغ به مبانيها، على طول ساحل بحيرة مارتشيكا الجميلة المميزة. وظهرت البلدات المنتشرة في محيطها والمداشر القروية المتفرقة. بينما كان سهل كارت آخر مجال جغرافي، تحلق الطائرة فوق ضيعاته الواسعة المنتظمة، قبل أن تحط فوق أرضية المطار بسلام، ليُعلِم بعدها القائد المسافرين بانتهاء الرحلة، مرحبا بهم فوق مطار العروي الناظور، على الساعة التاسعة والنصف صباحا.. فحمدا لله وشكرا على سلامة الوصول..