لقائي مع فخامة الرئيس الجزائري
رمضان مصباح الادريسي
حدث اللقاء ،وستأتي ملابساته، غِبَّ قمة “لم الشمل” ؛التي لم تلم لا شملا عربيا ، ولا شمائل .
وجدتني في قصر المرادية ،ضمن جماعة من مثقفي المغرب ؛لا أدري أهي موفدة رسميا أم مبادِرة؟
على أي كان هناك حضور كبير في قاعة واسعة جدا ،سعة التاريخ والجغرافية المغاربيين.
أغلب هذا الحضور من كتاب وصحافيين جزائريين ؛بدوا مركزين أنظارهم علينا أكثر من الباب التي سيهل منها فخامة الرئيس.
تنمرٌ جزائري واضح ،خصوصا والقوم في ملعبهم ،محاطون بألف ألف سيف لحمايتهم.
صمدنا لعيونهم ،صمود الوزير بوريطة ،وهو يوزع ابتساماته ،حول مائدة “الكرام”.
ثم صموده وهو يواجه مُطفِّفي الخرائط ،بعد أن أخْسروا ميزان حسن الاستقبال والضيافة ؛وهما من الشمائل العربية.
“بحصصت” شخصيا في من طفق ،من الاخوة الجزائريين،يدلّ جواره علي :
هو ذا رمضان ،قلم “المروك” ،الذي دشن النيل الهسبريسي من الجزائر ،والباقي هواة فقط. ينظرون وأنظر ولسان حالي :
أي نعم، أقولها قلبا وقالبا ،ووراء القلم مدادُ بحر لا ينفذ.
كنا جماعةَ المغاربة كصخرة حطها السيل من علٍ ؛نملك زمام أمرنا صبرا ،وعلى أتم استعداد لندوس على من أراد الدوس.
تحية عسكرية مجلجلة بباب القاعة؛هو ذا الرئيس تبون قادم من وعثاء قمة لم تبرح السفح العربي ،ولم ترتفع عن بحر مشاكله وجزره الموحشة؛الساكنة والصاخبة.
يتصدر محمولا بمغناطيس العيون المصوبة نحوه،ويشرع في “قفا نبك” ؛يستعيدها من زمن امرئ القيس ،الذي عرف كيف يبكي ويستبكي:
*استسمحكم ان تأخرت ،فقد شغلني جبر العثرات ،التي لم نحسب لها حسابا.
*خلناها قمة لا تعدوا أن تكون كاقصائيات كروية ؛كل فوضاها من الجمهور؛فاذا هي قد ثُقبت من جهة الملوك والرؤساء والأمراء.
تضحك القاعة ،مبددة رهبة الدولة كاملة ،حينما يختزلها شخص واحد أمامك.
*نحن الآن أضعف مما كنا ،منذ يوم فقط:في عدم التئام شمل القادة ،ايهام بأنه أمر حاصل ان أرادوا ؛لكن هانحن أكدنا اليوم ألا شمل لنا .
ضحكٌ هذه المرة ،لكنه لم يبدد غير ماأسهب الاعلام الجزائري في تأكيده:
قمة لم الشمل ،قمة القمم التي جاءت طلبا لظل الثورة الجزائرية؛قمة النفرة الى فلسطين ،من بلد عبد القادر الجزائري.
*لا شك ستسألونني عن الربح؛اذ لا يمكن ألا يكون هناك أي ربح،فحتى “هتلر” ربح أن يكون هو من أشعل الحرب العالمية الثانية ،وليس غيره.حتى هذا ربح.
تضحك القاعة مرة ثالثة ،وهي تخمن ما تقوله الكلمات التي لم تُقل،البياضاتُ.
*أكدنا للعرب أن الجزائر تستطيع تقرير مصير قمتهم؛وقد فعلت.
*أكدنا للعرب أن الجزائر تملك من الدهاء ،ما يجعل ملك المغرب يعزف عن الحضور،والتفاصيل اسألوا عنها الوزير بوريطة.
*وهل يعقل أن نهب لملك المغرب تراب الجزائر،كما وهب قديما تراب فارس للمسلمين ؛وقد رأيتم نحل الصحافة الدولية ،لم ترقه غير أزهار بوريطة. فكيف سيكون الأمر مع ملك المغرب؟
*نعم للم الشمل ،لكن ليس رصيدا يودع في بنك المغرب.
ويتواصل الحلم:
نعم وأقسم أنه حُلمي ،ليلتي هذه ،وأنا اسارع لتدوينه ،حتى لا تضيع تفاصيله.
ثم دخلتِ القاعة في هرج ومرج ،مما جعلنا نرص صفنا ،جماعة المغاربة،تحسبا لما يقع في مثل هذه الأحوال.
بدا الأمر وكأن فخامة الرئيس المدني ،ينقلب على فخامة الرئيس العسكري.
جلبة ،وأبواب تُفتح بعنف وتغلق ؛ثم داهمت الخيل قصر المرادية ؛وعلى أكتافها جنرالات في أعقاب جنرالات.
طرِد الجميع ،وبدا الرئيس مسحوبا الى خارج القاعة ،وبعض حروف الفضيحة تصل الى الأسماع :
سأفضحكم اليوم يا لصوص الشعب والثورة والعرب والقمم.
نعم تبينتها جيدا: سأفضحكم وأمام المغاربة.
ولو في الحلم فهمت لماذا استدعينا الى الجزائر ،وبتوجيه من الرئيس شخصيا.
قلت لزملائي : نحن الآن شهود اثبات للتاريخ؛نشهد على انهيار النظام العسكري الجزائري ؛حينما توهم أنه سيترأس العرب كلهم.
لاتنصرفوا يامغاربة:
سمعناها في أعقابنا ،ونحن نسابق الخطى مع الخارجين في هلع؛ليس خوفا من الجزائر وانما خوفا عليها.
ثم هدأت الأجواء ،وبدا الزمن صباحا هذه المرة ؛ليس في القاعة وانما في حدائق قصر المرادية.
هاهو الرئيس ،بمفرده وبدون أي جلبة .انه هو عبد المجيد تبون ،وآثار العياء بادية عليه.
اقترب منا ملاطفا ،ومعتذرا عن عدم تمكنه من لقائنا البارحة على انفراد،والاستماع الينا.
صمتنا وكأن على رؤوسنا الطير ؛ولعل سؤالا واحدا كان موزعا بين أذاهننا :
ماذا حدث يافخامة الرئيس البارحة؟ وتلكم الجلبة؟ وما دخل خيول الجنرالات ،التي داهمت وطردت ؟
شخصيا هممت بها ،فلم تقو على الخروج من حنجرتي؛وبدا لي ما حدث شأنا جزائريا ،فلماذا أسأل عنه فخامة الرئيس.
عجبا وكأن الرئيس يقرأ ما في ذهني سطرا سطرا.
أخرجَ بعض البطائق ،وهي بعدد أفراد مجموعتنا؛ثم نظر الي سائلا:
أعرفك يا رمضان مصباح ،لكني لا أرى في بطاقتك رتبتك العسكرية؛هل أنت جنرال؟
لا يا سيادة الرئيس أنا مثقف مغربي،كاتب متعاون مع هسبريس ليس الا.
حتى في الحلم تركب الأفكار بعضها ؛استحضرت بعض مقالاتي عن الجزائر ،وتوقعت أن يسألني عنها الرئيس ؛أو تداهمني مخابراته ،التي سبق أن هددتني واقعا :
هاقد وقعت أخيرا يا صاحب البيان .
ولما لم يحدث أي شيء من هذا ،أضفت:
لقد كتبت مقالات كثيرة عن رؤساء وقادة جزائريين ؛حتى أنت ،يا صاحب الفخامة ، كتبت عنك.
نظر الي الرئيس مستغربا: لا كتبت عن بنبلة،بوضياف وآيت أحمد ،أما أنا فلا.
فعلا لم أخصص لك مقالا لكنني ،أوردت ذكرا لك في مقلات عدة ،منذ تنصيبك.
لكن لا تقرأني عدوا ،بل مواطنا مغربيا ،اعتدي على وطنه.
هنا نظر الي مليا ثم قال : تنصيبي ؟ لا ،يجب أن أنصب نفسي ،بعد تنصيب الشعب؛وما دام هذا لم يحصل ،فاني لست رئيسا الا في الظاهر؛لا رأي لي في كل ما يقع وما لايقع.
تبادلنا النظرات ،ولعل الجميع كان يستغرب هذه الصراحة الكبيرة من رجل ظللنا نتهمه بالتواطؤ مع العسكر،ومعادة شعبه .
أخيرا الصحراء مغربية،ومن فم الرئيس:
يواصل فخامة الرئيس :
يجب أن تثقوا معشر المغاربة ،ألا دخل لي في كل ما يحبل به – جزائريا – ملف الصحراء.
يوجه لي الكلام : وهل أكذب التاريخ والجغرافية يا رمضان ،وأصدق جماعة من “الكابرانات” سكارى آخر الليل.
لقد سبق لك أن حدثنا عن ابن تومرت ،وعبد المومن بن علي ؛فهل أقوى على مواجهة روحيهما ،بكل هذه الوقاحة التي تحصل اليوم؟
ما أن بلغها حتى ارتمينا في أحضان بعضنا البعض ،وفخامة الرئيس يذرف دمع الفرح ،ويقول:
أخيرا أستطيع أن أفرج على ما بوجداني ،في محيط أخوي لا خوف منه.
مرحبا بك في المغرب:
صرنا الآن في انشراح تام ،وتعالت أصواتنا دفعة واحدة ،فقد تحول فخامة الرئيس الى رجل عادي مثلنا ؛بل أكثرنا انسانية وتأثرا بكل ما ضاع من السنين .
استسمحت زملائي طالبا الاصغاء:
يا فخامة الرئيس ،اذا تركتَ جانبا عربدة سكارى آخر الليل – كما نعتهم- فلن تجد في المغرب الا أخا وحبيبا.كلنا في المغرب على قلب محبٍّ للشعب الجزائري والمغاربي.
وواصلت : من نبل ملكنا أن وجه لكم الدعوة للحضور الى المغرب ؛حتى ووفده في ضيق من طيش بعض ساستكم.
وهل تكفي قمة واحدة ،يا فخامة الرئيس ،بيننا وبينكم؟ وهل نحن بحاجة الى لم الشمل ؟ شملنا ملموم وموثق منذ قرون وقرون.
ما بيننا من حدود صناعة استعمارية ؛والدليل ما أن استقل المغرب حتى هرعت ساكنة وجدة – مثلا – الى قطع الأسلاك الحدودية الشائكة وبيعها في سوق المتلاشيات.
وواصلت ،وزملائي في المجموعة يصدقون:
يا فخامة الرئيس :أنا من وجدة هذه ،ولهجتي كما تسمع ،ألا تجد فيها لهجة وهران؟
يؤكد أن نعم ..
من أين هبت الرياح اذن؟
وهذا التكتل البشري والاقتصادي ،يا فخامة الرئيس ، لماذا هو هكذا منذور لأعشاب البحر وليمة؛ومنذ عشرات السنين؟
لعلك تدري قوتنا التفاوضية المهدورة في هذا العالم المتدافع؟ يؤكد أن نعم.
مرحبا بك في بلدك المغرب ؛وان كنتُ غير مُخول لتوجيه أي دعوة رسمية.
مرحبا بك حتى ضيفا علي ان قبلت ؛وفي وجدة وباديتها.
بنتي مريضة:
ثم انصرف حديثه معنا جميعا الى متاعبه الشخصية ،الصحية والعائلية ؛مركزا على الحالة الصحية لبنته : لقد تركتها هذا الصباح تبكي في المنزل من شدة الألم؛هي لا تريح نفسها من شدة العمل ،فطالما نصحتها بذلك.
بدا لي الأمر مناسبا لدعوته لعرضها على أطباء المغرب؛لكنني استحييت من أن يفهم أني أنعت بلده بالقصور في المجال الصحي ،فسكت.’والله لا أدري أله بنت أم لا).
رئيس المجلس العلمي بوجدة:
استيقظت من نومي ،وحلمي الجزائري هذا ؛طلبا لكأس ماء أبُلُّ به حنجرتي ؛وبعده فتحت الهاتف ودونت به خطوط رؤياي العريضة.
ثم عاودت النوم ،حائرا متأملا في كل ما رأيت وسمعت.
لكن الحلم لا ينتهي ،اذا كان كثيفا وملحاحا.
هذه المرة وجدت نفسي في مكان ما بواحة سيدي يحي بوجدة؛ولم يكن جليسي غير الدكتور مصطفى بنحمزة ،عالمها ورئيس مجلسها العلمي ،أطال الله عمره.
كنا وكأننا تواعدنا ليستمع مني ،وبطلب مني ،أمرا هاما؛مع العلم أن معرفتي به لا تخرج عن لاطار العام.
نظرت اليه ،بجلبابه الرمادي وقبعته السوداء ،وطفقت أقص عليه من هذا الحلم ،وهو ينظر الي صامتا مركزا ،لا يرف له جفن.
ختمت الحلم ،الذي أبى الا أن يكون خاتمىة للحلم الأصلي ،بقولي :
سأكتب هذا ليطلع عليه قراء المغرب وساسته ،فعساه يفيد في شيء.
لم ينبس سيادته ببنت شفه ،عدا قوله:
أكتب فمبتدأ السياسة ومنتهاها في الأحلام.
ثم استيقظت ،وما خلصت من الحلم الا اللحظة وقد كتبته؛والله شاهد على أن ما قرأتم ليس ابداعا أدبيا ،ولا تحليلا سياسيا ؛وانما رؤيا عشتها وعاشتني.