خواطر من على جناح طائرة..!
المختار أعويدي
كلما هممت بالصعود إلى جناح طائرة، إلا وانتابني شعور عارم غامر بالإعجاب والإنبهار والذهول، من هذه الآلة المعدنية المحلقة العجيبة، بالغة الضخامة والبناء. وأية قوة مذهلة خارقة تعمل على رفعها من على الأرض، بكل ثقلها الهائل وحمولتها الكبيرة جدا، كي تدفع بها إلى الأجواء حتى تحلق وتنساب في الفضاء البعيد، بسرعة نفاثة هائلة نحو وجهاتها المختلفة. قاطعة مسافات هائلة، كما لو أنها طائرا أسطوريا خارقا، أو كائنا خرافيا عجيبا، أو مُذنَّبا فائق السرعة. منفلتة من قوة الجاذبية الجبارة بعناد وإصرار كبير وقوة مذهلة كأنها بخفة عصفور. الجاذبية التي لا يخفى ما تمارسه على الأجسام من قوة جذب جبارة لا هوادة فيها، حتى أنها لا تسمح ولا تترك المجال حتى لأجسام عديمة الوزن كريشة أو إبرة، كي تنفلت من جذبها وتأثيرها، مصرة على إبقائها على السطح.
الإنبهار والإعجاب، حينما أقف أسفل سُلمها وأنظر إلى بنائها التكنلوجي الهائل، الذي يشبه في ضخامته تلة أو جبلا صغيرا، وأتأمل تفاصيلها وضخامة هيكلها المعدني الكبير جدا، وشكلها الهندسي الإنسيابي فائق الدقة والجمال والجاذبية. وأجنحتها الكبيرة الممتدة بعيدا من الهيكل، المهيأة للتحليق صعودا او نزولا أو التفافا أو مناورة، والحاملة لمحركاتها الجبارة المرعبة، قاهرة الجاذبية، وحمالة كل هذه الأثقال الهائلة.
الإنبهار والإعجاب، حينما أرى هذه الحشود الكبيرة من المسافرين تصعد سلاليمها، بثقة ويقين وطمأنينة، حاملة أمتعتها وحقائبها العديدة وكل مستلزماتها، كي تأخذ أماكنها في جوفها في أمان وضمان، كما لو أنها صاعدة إلى مسرح جبار، أو قاعة أفراح واسعة محكمة البنيان على الأرض. غير منشغلة ولا عابئة ولا مبالية بمن سيرفع هذا البناء التكنلوجي الهائل، بكل أثقاله وجبروته من على الارض، ويدفع به نحو الفضاء الفسيح، كي يحلق ويطير بها إلى وجهاتها المقصودة، بسرعة ورشاقة وانسيابية تضاهي طيران الكائنات المهيأة لذلك، لا بل تتفوق عليها كثيرا في القوة والتحمل والقدرة على اختراق الآفاق البعيدة جدا.
الإنبهار والإعجاب، كلما رأيت مستخدمي المطار يقومون بشحن أعداد كثيرة جدا من حقائب المسافرين ثقيلة الوزن، ويكدسونها في مخازنها وصناديقها الواسعة الموجودة أسفل هيكلها، دون اكتراث منهم بمن سيرفع كل هذه الأثقال الهائلة..!
الإنبهار والإعجاب، كلما صعدت إلى قمرة المسافرين، وشاهدت هذا الإمتداد الطولي المذهل لمقصورة هذه الآلة، كما لو أنها مسرحا عملاقا، أو قاعة سينما مذهلة الطول. وهذا العدد الهائل من المقاعد المصفوفة فيها، ومِثل عددها من المخلوقات البشرية الجالسة المطمئنة بيقين إلى هذه الآلة العجيبة، وسلامة الرحلة والسفر على متنها. دون أن ينتابها خوف أو شك أو قلق أو هلع من ذلك.
أتعجب كيف لهذا البناء الهائل، بعد إركاب كل هذه الحشود الكبيرة من المسافرين، وشحن كل هذه الأثقال والأمتعة الكثيرة العدد من حقائب المسافرين ومختلف الأحمال، أن يقلع ويحلق ويناور ويقطع المسافات الطوال، ليلا أو نهارا، صيفا أو شتاء، حرا أو قرا، في فضاء واسع موحش لامتناهي. دون أن يتيه أو يضل، أو تتقطع به السبل، وينزل بأمن وسلام في الوجهة التي يقصدها.. حقا إن أعاجيب العلم لا تنتهي..!!
في هذا الوقت الذي تستفز فيه هذه الآلة العجيبة ذهني، وتثير فيه عددا لا حصر له من الأسئلة، يحلق فكري بعيدا بعيدا، متوغلا في سراديب التاريخ، مستحضرا شجاعة وعظمة أولئك المغامرين الأوائل، الذي جعلوا من الطيران وممارسته أمر ا ممكنا. سواء منهم الذين فكروا أول مرة في التحليق وتحدي قوة الجاذبية. أو الذين ضحوا بحياتهم وأرواحهم، وقدموها قرابين على مذبح العلم والمعرفة والتكنولوجيا، والشغف بالفضاء والأجواء وحب الطيران. كي يجعلوا حلم التحليق أمرا واقعا ممكنا، من خلال محاولاتهم وتجاربهم العديدة التي يذكرها التاريخ، والتي انتهى أكثرها وأغلبها نهايات مأساوية حزينة، لكن بعد أن أرست لبنات عظمى في مسلسل تقدم هذا المجال وتطوره. أو الذين طوروا أدوات التحليق المختلفة، وعلى رأسها هذه الطائرة العجيبة، وجعلوا بذلك مسافات وأبعاد كوكبنا الكبيرة جدا، تنهار وتتلاشى أمام اختراعهم الفريد هذا.
أفكر في أولئك الذين طوروا هذه الآلة المحلقة على مدى التاريخ، وجعلوها فيما هي عليه اليوم من تطور تكنلوجي مذهل، حتى قد أصبح بإمكان المسافر على جناحها اليوم، ليس فقط الركون في مقعده من بداية الرحلة إلى نهايتها، راجيا ومتوسلا سلامة الوصول والنجاة، بل أصبح بإمكانه التجول والتسوق وارتياد المطاعم، لا بل وحتى النوم والتمدد على متنها، خاصة على جناح بعض أصناف الجيل الجديد من الطائرات العملاقة، التي أصبحت من الكبر والضخامة حدا، جعل بعضها يتوفر على طابقين ومحلات تسوق وإطعام (Airbus 380). حتى قد أصبح السفر جوا، ضربا من ضروب المتعة والراحة والطمأنينة وحتى الرفاهية..
أفكر فيهم جميعا، بغير قليل من التقدير والاحترام والإعجاب، وحتى الإنحناء لأرواحهم الزكية وتضحياتهم النبيلة. لا تهمني جنسياتهم أو أعراقهم أو حتى دياناتهم.. يهمني انتماؤهم إلى بني جنسي الإنسان، وتهمني عظمة تحدياتهم للصعاب والأهوال، وهم يركبون مخاطر التحليق، ويقدمون أرواحهم خدمة لجعل حلم التحليق حقيقة وواقعا. وتهمني روعة إيمانهم ويقينهم في صدقية العلم وحتمية نتائجه الإيجابية، ودوره بالغ الأهمية في حياة الإنسان. أفكر بكثير من الإعجاب فيما أسدوه للإنسانية جمعاء من خدمات بالغة الاهمية، بفضل محاولاتهم وتضحياتهم وابتكاراتهم في مجال الطيران.
أفكر في أمم جعلت من العلم والتعليم والتكنلوجيا ضالتها، فخصتها باهتمام كبير وبإنفاق سخي باذخ. مما بوأها طليعة الشعوب المتقدمة. أمم جعلت الإنسان محور اهتمامها، فسلحته بالعلم والمعرفة متعددة المشارب والأبعاد والمجالات. حتى أضحى مبدعا لمثل هذه العجائب التكنلوجية المحيرة، من قبيل هذه الآلة المعدنية المحلقة موضوع حديثنا، وغيرها مما لا يعد ولا يحصى من المنجزات والمعجزات التكنلوجية المذهلة.
وبقدرما أفكر بإعجاب في هذه الأمم المتقدمة، التي قطعت أشواطا بعيدة في مجال العلم والتكنلوجيا والتقدم والتطور، وجعلت من الإنسان محور هذا التطور، ومن ارتقائه وتقدمه وتطوره هدفا تنفق لأجل بلوغه وإدراكه المجهودات والثروات الطائلة، أفكر في المقابل بإحباط وانكسار في شعوبنا وأمتنا، ومدى ما وصلته من تأخر وتخلف وضياع. أفكر بإحباط فيما هي عليه أحوالنا من تدهور وتأخر وتردي وحضيض، قياسا مع ما بلغته وأدركته أمم الأرض المتقدمة.
فيتملكني الحزن والألم حينما أرى جامعاتنا، وهي التي من المفروض أن تمثل قاطرة التقدم والتطور العلمي، تتبوأ الصفوف الأخيرة في ترتيب أفضل الجامعات العالمية، بالنظر لما هو عليه حال البحث العلمي بها من بؤس وضعف وعقم. وما هي عليه الأبحاث والمنجزات العلمية بها من ضعف وهزال، حتى قد أصبح دورها ينحصر في الغالب في توزيع أكداس من الشهادات الشفوية النظرية عديمة الفائدة، التي لا تقدم ولا تؤخر شيئا. وأصبح عدد ما “تنتجه” وتوزعه من شهادات الدكتوراه الفارغة الجوفاء، يتجاوز إنتاج البلاد من القمح أو الفاصوليا..! شهادات لا تعدو في أغلبها، كونها عمليات قص ولصق وتدوير وإعادة تدوير، لما هو متوفر من “خشاش شبه علمي بائس” يتوزع أكثره على مواقع الأنترنت، أغلبه في مجالات ومواضيع بلييييدة بعييييييدة عما يقتضيه تقدم البلاد وتطورها المنشود. وأصبح كل من هب ودب يعمل على الحصول عليها بكل الطرق والسبل، ليس حبا في العلم وتطوير المعرفة البشرية والدفع بالبلاد إلى مصاف الأمم المحترمة، ولكن بحثا عن ترقيات مادية ومهنية تافهة، وتسلق درجات اجتماعية كاذبة واهمة.
بؤس وتخلف نابع من تهميش هذا المجال الحيوي والحاسم في تقدم الشعوب.. البحث العلمي. كم يستبد بي التوتر والغضب والإستنكار، حينما أرى ما هو عليه حال هذا المجال في بلادنا من تهميش ولامبالاة. وكيف يتم التقتير في الإنفاق عليه بتقصير وشح فاقع غير مفهوم. فهو لا يمثل بالكاد سوى 0،3 بالمائة من الناتج الداخلي الإجمالي للبلاد (في الولايات المتحدة 3،5 بالمائة – كوريا ج 4،81 بالمائة)، وفي المقابل كيف يتم الإنفاق بسخاء وكرم حاتمي على تمويل مجالات لا تمثل أولوية في تطور البلاد، ولا ينتظر من تقدمها شيء غير هدر المال العمومي عبثا وسفها… من قبيل بعض الرياضات الباذخة كالكولف والفروسية والتينس، وحتى الشعبية منها ككرة القدم. وكذا المهرجانات والمواسم فارغة المحتوى والمضمون. والمجالس العليا والسفلى، واللجان المؤقتة والدائمة، والملتقيات، والتدشينات، والإجتماعات، والأجور المنتفخة غير العادلة، والتعويضات الفلكية غير المستحقة….
كم يتملكني الغضب حينما أسمع وزير الأوقاف يتباهى بإنفاق 16 مليارا سنويا على دعم الأضرحة والزوايا، وترسيخ ثقافة الشعوذة والعبث، في الوقت الذي تعاني فيه مختبرات الجامعات من تجهيزات كارثية، وتفتقر فيه إلى أبسط أدوات ووسائل البحث والعمل والتحفيز.
لا يبدو أبدا، في ظل ما يعتري البلاد من هدر للثورة الوطنية، وفساد متمكن من مفاصل البلاد، وتهميش صارخ للمؤسسات العلمية والثقافية، أن تقوم للعلم والبحث العلمي وجني ثماره التكنلوجية قائمة. خاصة في ظل ما يوجَّه للبحث العلمي من فتات لا يسمن ولا يغني من جوع، من حصة الناتج الداخلي الإجمالي للبلاد. هذا إذا علمنا أن مجموع مقدار هذا الناتج هو أصلا محدود ومعدود، وهو ما يجعل حصة البحث العلمي منه وجوبا حصة بائسة هزيلة..
وهذا يعني من ضمن ما يعني، أن الجامعة المغربية ستظل، كما كانت دائما، قلعة حصينة للبحوث النظرية الإنشائية الجافة، التي تتقفى أثر المتون والنصوص البالية نقلا ونسخا وعرضا. بعيدا عن البحوث العلمية الرصينة المتينة، التي من شأنها الإقلاع بأوضاع البلاد والعباد. هذا في ظل ما يعتري هذه الجامعة من مشاكل وشوائب وفساد مستشر على كل المستويات، وحشد وتجييش لها بعناصر يحكمها الإنتماء الحزبي والأيديلوجي، والوازع المنفعي المصلحي، أكثر مما يشغلها الهاجس العلمي.
وابكرييييي حتى حنا طلَّعنا شي طيارة بحال شعوب الأرض المحترمة، التي تقدر قيمة العلم والبحث العلمي، وتحترم الإنسان والمواطن.. فلم يحصل أبدا في التاريخ، أن تشجيع الفساد أو الإنفاق على الزوايا والأضرحة، ساهم حتى في تحليق “جرادة” أو “بوبريصا”..!!