قطار الأسود يتوقف في المحطة ما قبل الأخيرة!
اسماعيل الحلوتي
فضلا عما أجمع عليه الكثير من المهتمين بالشأن الرياضي عامة ونجوم كرة القدم خاصة في مختلف بقاع الأرض، من كون بلوغ المنتخب الوطني دور نصف نهائي كأس العالم في كرة القدم، الذي تنظمه لأول مرة في التاريخ دولة قطر العربية ما بين 20 نونبر و18 دجنبر 2022، لم يأت عن طريق الصدفة وبشكل مفاجئ، وإنما عن جدارة واستحقاق، لما تميز به لاعبوه سواء منهم الذين يمارسون في كبريات الأندية الكروية الأوروبية أو في البطولة الوطنية الاحترافية ومعهم الناخب الوطني وليد الركراكي من حس وطني رفيع المستوى وأبانوا عنه من علو كعبهم وإرادة قوية في الذهاب بعيدا…
فمن المؤكد أنه ليس هناك من سر ولا وصفة سحرية خلف تحقيق “أسود الأطلس” تلك السلسلة من الانتصارات المتوالية على أعتى المنتخبات وإسعاد المغاربة وشعوب البلدان العربية والإفريقية، سوى م منا أبدوه روح قتالية وأداء جماعي وانضباط تكتيكي ونية حسنة. علاوة على الدعم الملكي المتواصل ومناصرة أمهات وآباء اللاعبين والجمهور العريض. ثم لا ننسى أن قائد النخبة الوطنية وليد الركراكي، المغربي القح الذي يذوب عشقا في وطنه، عرف كيف يروضهم جيدا على نكران الذات والمزيد من البذل والعطاء، ويحرك مشاعرهم بخطابه البسيط والمفعم بالأمل والتفاؤل، مما جعلهم يلعبون بأفئدتهم وأرواحهم قبل أرجلهم ورؤوسهم، ويؤكدون للعالم أجمع أن ما كان يعد بالأمس أمرا مستحيلا ويحول دون تقدمهم، صار اليوم ممكنا بفضل تلاحمهم العائلي وطموحهم اللامحدود، معتبرين أن المستحيل لا يوجد إلا في عقول المتقاعسين والفاشلين، الذين لا يؤمنون بقدراتهم الذهنية والبدنية والمهارية…
ولا غرو أن نجد مثلا يوسف النصيري صاحب الهدف الذهبي في مرمى حارس المنتخب البرتغالي ديوغو كوسطا برسم دور الربع، ينشر في حسابه الشخصي بشبكة “إنستغرام” بعض صوره الفريدة ويقول: “المستحيل ليس مغربيا” ويضيف “سنقاتل من أجلكم ومن أجل أحلامنا إلى آخر رمق” و”ديما مغرب”. وهو نفس الانطباع الذي أكده الناخب الوطني في المؤتمر الصحفي عقب نهاية اللقاء الذي جمع بين المنتخبين المغربي والبرتغالي، حيث أفصح عن مدى فخره بصمود اللاعبين بدنيا بعد المباراة القوية التي جمعتهم من قبل في دور ثمن النهائي بالمنتخب الإسباني واستمرت 120 دقيقة قبل المرور إلى الضربات الترجيحية، وأقر بأن الجميع كانوا على قدر المسؤولية، مشيرا إلى أن “المستحيل ليس مغربيا” حتى وإن كان المغرب لا يملك ذات الإمكانات المتوفرة لباقي المنتخبات الكبرى، لكنه عرف كيف يقف في وجهها ندا للند ويطيح ببعضها مثل بلجيكا، كندا، إسبانيا والبرتغال، ولم يستقبل مرماه عدا هدفا واحدا جاء من “نيران صديقة”.
فما حققته “كتيبة الركراكي” في فعاليات كأس العالم قطر 2022 من نجاح ميداني مبهر وإنجاز بطولي كبير سواء في دور 16 بالمجموعة السادسة “مجموعة الموت” التي تصدروها بسبع نقط بعد التعادل السلبي مع كرواتيا 0/0 وانتصارين على كل من بلجيكا 2/0 وكندا 2/1، أو في دور الثمن بإزاحة المنتخب الإسباني بالضربات الترجيحية 3/0 أو دور الربع ضد المنتخب البرتغالي 1/0، لا يعد انتصارا للمغرب وحده، بل هو انتصار للقارة الإفريقية والعالم العربي، وهو أيضا حصيلة مشرفة تؤكد على أن عناصر المنتخب المغربي هم فتية بررة يجري في عروقهم دم “تمغربيت”، آمنوا بقدراتهم وكشفوا جيدا عن أن حلمهم الجميل لم يفتأ يكبر بتوالي المعارك الكروية.
ترى ما الذي يمكن استخلاصه من هذا الإنجاز/الإعجاز غير المسبوق في تاريخ كرة القدم الإفريقية والعربية، الذي نال إعجاب عديد الشخصيات الرياضية والفنية والسياسية وغيرها، وجعل برقيات التهاني تتقاطر على ملك البلاد محمد السادس من رؤساء وأمراء الدول الشقيقة والصديقة؟ دروس عديدة ومتنوعة تلك التي يمكن استخراجها من هذه النهضة الرياضية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر إسناد المسؤولية لمن هو جدير بتحملها، إعطاء الأمل بألا شيء مستحيل أمام الإصرار والمثابرة، والعمل الجاد بكل شفافية وروح وطنية عالية، التعاضد بين جميع مكونات المنتخب الوطني وتضافر جهود اللاعبين والطاقم التقني والطبي وسائر أبناء الشعب المغربي في الداخل والخارج، المساندة القوية للجماهير المغاربية والإفريقية والعربية، وحتى شعوب بعض الدول الأوربية والأمريكية التي ترى في المنتخب المغربي نموذجا يحتذى…
إن النسخة الثانية والعشرين من كأس العالم في قطر ستظل راسخة في الأذهان عبر الأجيال، باعتبارها النسخة التي شهدت ميلاد مغرب كروي جديد، حيث التزم “وليدات الركراكي” بقواعد النجاح، الثقة في النفس وربط النية بالإصرار على الانتصار، مما مكنهم من صناعة التاريخ وتسطير ملاحم كروية خالدة، يعود الفضل فيها إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهو المبدأ الذي طالما نادى المغاربة بتفعيله ليس فقط في مجال الرياضة، بل في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها كثير…
فشكرا لأسود الأطلس على ما بذلوه من جهود مضنية وخروجهم مرفوعي الرأس رغم الهزيمة أمام المنتخب الفرنسي 2/0 في المحطة ما قبل الأخيرة، من خلال ما قدموه من عروض فنية وأبانوا عنه من تضحيات كبرى في تحقيق هذا الإنجاز البطولي والتاريخي، الذي أذهل الجماهير الرياضية عبر العالم، وأسعد ملايين العرب والأفارقة، مما جعل كبريات الصحف الرياضية والمجلات الدولية المختصة تسلط الضوء على عدد من اللاعبين، وساهم في ارتفاع قيمة أسهمهم في بورصة كرة القدم العالمية.