التيمومي والحداوي.. شهرة بائدة وصداقة متينة صامدة..!
المختار أعويدي
شاهدت قبل أيام قلائل فيديو جد مؤثر، يبدو فيه نجمان كبيران سابقان من نجوم المنتخب الوطني المشارك في مونديال سنة 1986 بالمكسيك، الذي عبر فيه هذا المنتخب لأول مرة في تاريخه إلى دور ثمن النهائي. وهما اللاعب والنجم مصطفى الحداوي، لاعب الرجاء البيضاوي والعديد من الفرق الأوربية سابقا. وهو يدفع كرسيا متحركا، يجلس به نجم كبير آخر، من نجوم المنتخب الوطني لتلك الحقبة وفريق الجيش الملكي وبعض الفرق الأوربية، وقد أقعده وأعاقه المرض عن الوقوف، اللاعب والفنان الخلوق المتواضع السي محمد التيمومي، الفائز بالكرة الذهبية الإفريقية لسنة 1985، وهما يرتديان قميص الفريق الوطني، الذي طالما صالا وجالا به، في العديد من الميادين الرياضية الوطنية والإفريقية والدولية، وقاصدان أحد الملاعب القطرية لمساندة وتشجيع هذا الفريق في مباراته ضد البرتغال. ويبدوان معا في صحة متدهورة. وبرغم ذلك فحب القميص الوطني، دفعهما إلى تجشم الأتعاب، وقطع المسافات الطوال، لأجل الحضور ودعم المنتخب الوطني، في لقاءاته الكبيرة التي خاضها بمونديال قطر.
ولعل من الأشياء الجميلة التي لا زال يحتفظ بها النجمان الكبيران، هي التواضع الكبير، وخاصة الإبتسامة الوديعة الخجولة المتواضعة، والإقتصاد في الكلام للسي محمد التيمومي برغم مرضه وإعاقته. وكذا جدية وصرامة الحديث المعهودة في شخصية السي مصطفى الحداوي.
أعَدتُ مشاهدة الفيديو مرات عديدة، وفي كل مرة كان تأثري يزداد. لا لشيء، سوى لسببين أساسيين هزا مشاعري هزا، وأثارا فيها ما أثارا من أشجان واحاسيس قوية.
أما أولهما: فهو أن لا دوام للحال ولا للنجومية ولا للصحة. فالرجلان في زمنهما كانا قد بلغا مستوى من الألق والنجومية والشهرة لا يضاهى، بفعل عطائهما الكبير في مجال كرة القدم، سواء بالفريق الوطني أو بالفرق التي لعبا في صفوفها. وبفضل ما ادخلاه على الجمهور المغربي من أفراح ومسرات، وكذا على محبي الفرق التي لعبا لها.
وكانا وقتها في قمة العافية واللياقة البدنية والعطاء والتميز والشهرة. ما جعلهما بفعل كل ذلك من معشوقي الجماهير الرياضية داخل الوطن وخارجه. يلتمس المحبين والمعجبين لحظة لقاء معهما، أو لقطة صورة تذكارية إلى جانبهما. أو فرصة التفرج على مغازلتهما للكرة داخل الميادين الرياضية.
والحقيقة أن الرجلان معا، كانا على مستوى كبير من التواضع ودماثة الأخلاق، وعلى قدر رفيع من استقامة السلوك، وعدم الغرور والإنبهار بالذات.
كشف لي الفيديو أن لا دوام لأي شيء. وأن كل شيء في المسار الرياضي والشخصي للرجلين قد انتهى وانقضى. فالشهرة قد ذهبت أدراج الرياح، ولم يبق منها غير أسماء مسجلة في ذاكرة الجيل الذي عاصرهما. ولم يعد هناك من المعجبين أو المحبين والمتتبعين، مِن الذين كانوا يرقصون طربا لمجرد سماع إسم اللاعبين، مَن يحفل بالنجمين اللامعين، أو يسأل عن حالهما أو يلتفت إليهما. أو حتى يقوم بالتفاتة دعم لهما، في تنقلهما الشاق إلى الملعب المذكور لمساندة الفريق الوطني.
أما الصحة فتدهورت وتلاشت وخانت النجمين، حتى أصبح أحدهما وهو السي محمد التيمومي الذي أضحى معاقا بالكامل، عالة على غيره. وأضحت المعاناة الصحية لثانيهما السي الحداوي، بادية على محياه لا تخطئها العين. فلم تشفع لهما ممارستهما للرياضة طول عمرهما، ولا جنّبهُما استقرار وضعهما المادي ما هي عليه أحوالهما الصحية من اعتلال وتدهور واضح.
فهذا غزال الملاعب الأنيق السي محمد التيمومي الذي كانت مداعبته للكرة أشبه بالسحر، وتمريراته أروع وأجمل ما يمكن أن تجود به ميادين الكرة. قد أصبح معاقا طريح الفراش والكرسي المتحرك، لا تقوى قدماه اللتان سحر بهما عشاق الكرة والمحبين يوما ما، حتى على حمله. حتى قد أصبح عبئا على غيره في تحركه وقضاء كل احتياجاته. بينما السي مصطفى الحداوي، الذي كان سيد وسط الميدان، وكان وجوده في الملعب يضفي على المباريات ألقا ومتعة ومستوى رفيعا. يبدو من خلال الفيديو المذكور، وقد ضمرت صحته وبنيته الجسدية، وغارت عيناه، يبدو منهكا وقد انقطعت أنفاسه، وهو يدفع بصديقه كرسيه المتحرك. وهو الذي كان يجوب الملعب طولا وعرضا خلال المباراة الواحدة، دون أن ينال منه التعب أو العياء أو الكلل. يدفع الكرسي المتحرك وقد جاوز هو وصديقه التيمومي الستين من العمر، دون أن تمتد يد أحد المشجعين المغاربة الكثر بالديار القطرية، كي تقوم بذلك عوضه. يا لمرارة النسيان والنكران..!!! ويا لكذب وخواء أكذوبة الشهرة..!! فلا دوام لا للصحة ولا للشهرة، ولا يُغر بطيب العيش إنسان.
وأما ثانيهما فهو هذا الوفاء الكبير والإخلاص الرفيع للصحبة والصداقة، الذي أبان عنه السي مصطفى الحداوي لرفيقه وصديقه القديم السي محمد التيمومي، في زمن لم تعد هناك صحبة وفية ولا صداقة اخوية، ولا وفاء صادق، غير وفاء الكلاب لأصحابها. في زمن انهارت فيه قيم الصداقة الحقيقة، وتدهورت أسس الألفة والصحبة والوفاء.
حتى وعلامات الضعف الجسدي والإرهاق البدني بادية على صحته ووجهه وملامحه، أبدى السي مصطفى الحداوي لرفيقه، في زمن النسيان والنكران هذا، وفاء رائعا نادرا من معدن نفيس، لا يتحول ولا يتبدل ولا يتغير. يبدو مصرا حريصا على إدخال الفرحة والبهجة على نفس صديقه المقعد، وهو يكابر ويجاهد من أجل دفع كرسيه المتحرك في اتجاه الملعب. مع ما يعنيه التكفل بسفر وحل وترحال شخص مقعد معاق الحركة، من متاعب ومشاق لا تحتمل ولا تطاق.
حقا فقد كشف الحداوي من خلال سلوكه الرفيع هذا، عن معدنه النفيس وجوهره الرائع، وصحبته الصادقة. في زمن الغش والنفاق والتدليس، زمن المصالح والمنافع والغدر والطعن. زمن الكائنات الوضيعة من ورثة بروتوس. زمن الصداقات الكاذبة المغشوشة، والعلاقات المنفعية المتكلسة الموبوءة. حقا فالرجل بسلوكه الرفيع النادر هذا، قد جعلني أكن له قدرا غير يسير من التقدير والإحترام غير الكاذب، تماما مثلما أكن من احتقار وازدراء، لمن هم على ملة بروتوس من الكائنات الحقيرة الوضيعة، التي يضيق بها هذا الزمن الرديء..!