بين النَّصيحة ونَقيضِيها: خيْطٌ رَفيعٌ
كمال الدين رحموني
تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا تصريحا لأحد المثقفين البارعين في مجال تخصصه، أثار كثيرا من الانفعال، صاحبَه عددٌ من الردود والنقود استحضارا لواجب “الدفاع” و”الانتصار” لما اعتبره بعض الناقدين “مسّا” بالعلماء و”تبخيسا” لمكانتهم المحفوظة بنص الكتاب والسنة. وقد تباينت هذه الردود، فمنها ما تدثَّر بدَثار العلم وضوابط المنهج، ومنها ما زلّت بها القدم عما تقرّره الشريعة في مثل هذه المواقف، كما تعدّدت وِجْهات النظر في التعاطي مع الواقعة تحت طائلة الانفعال المغلّف بالمنافحة عمّا اعتُبر تطاولا. وإذا سلّمنا بصواب مقاربات بعض أهل العلم في الهبوب سريعا لمواجهة “الزّلل” وتصحيح الخطأ، فأين منهج النصيحة الواجب في مثل هذه المواقف؟ وهل حافظ النّاصحون على المأمور به شرعا في مثل هذه الوقائع؟ وهل الرُّدود عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتفاعلُ الذي أعقبها، يندرجان في خانة النصيحة الشرعية؟ أليس هناك من خيط رفيع بين النصيحة ونقيضها، مما يندرج في خانة التشهير و”التنقيص” من مكانة شخص ظل ناصحو اليوم يعتبرونه مُرابطا على ثغر من الثغور التي يتداعوْن لحفظها والذّوذ عنها؟ فإذا بهذا العضو من الجسد يغدو ” موبوء”، وكأن “وباءه” فاق الأوبئة التي تنخر الأمة في عقيدتها، وتدوس أخلاقها وتسعى لاستئصال ثوابتها ؟ يُروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ له القول فقال:” يا رجل ارفُق، فقد بعث الله مَنْ هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني وأمره بالرّفق، فقال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَـخْشى . ” والقول اللين الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض… بأن يُظهِر المتكلم للمخاطب أنَّ له من سداد الرأي ما يتقبَّل به الحق، ويميز به بين الحق والباطل، مع تجنُّب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله…. ” التحرير والتنوير 16/255 .
وفي تاريخ الأئمة الأعلام تجسيدٌ لـمَثل النصيحة القويم، فقد كتب الإمام مالك إلى الليث بن سعد رسالة ينصحه فيها فأجابه الليث برسالة أخرى يعرض فيها بعض آرائه، ” والرسالتان فوق ذلك أدب جمّ، وبحث قيم، ومودة صادقة، ومخالفة في طلب الحق هادية، لا لجاج فيها ولا خصام، بل محبة وولاء ووئام ” محمد أبو زهرة ، مالك: حياته وعصره، آراؤه وفقهه. ص 141. وبغض النظر عن الناصح والمنصوح، ومع الفرق الشاسع بين العَلَمـَيْن، فإن العبرة بالتحلي بخلق النصيحة حين تختلف السبل. ولست أجادل في قابلية كُلِّ من أوتي علما وفقها أن يقع في الخطأ، فكل ابن آدم خطّاء، ولكنّ التحفُّظَ يأتي من كون التنبيه إلى ما يكون قد غفل عنه الناصحون من الوقوع في “الزّلل” أيضا، فيستوي المَثلان – مَثَلُ الناصح والمنصوح- مع الإقرار بتباين الخطأين من حيث الموضوع. كان من الأولى في عملية النقد أن يُحفَظ للمنصوح قدرُه وبلاؤه العلميّ كما يُـحفَظ لغيره من العلماء، وهو الذي ظل “مُـحاصرا” في ما مضى في قوته وسُمعته، “مُتَّهَما” في أبحاثه العلمية، وكان من الأليق أن تنحوَ النصيحة منحى التوجيه الشرعيّ الـمُرَصَّعِ بالآداب الموصَى بها بين الناصح والمنصوح، وفي هذا المعنى يقول الشافعي: ” من وعظ أخاه سرّا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه” حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 9/140، ــ ومما أنشد الشافعي:
تَعَمَّدْني بِنُصْحِكَ في انفرادي* * *وجَـــنِّـــبْــني الـــنّــــصيـــحـــةَ في الجَماعَه
فإنَّ الــــنُّصْحَ بينَ الـنّاسِ نَـــــوْعٌ * * *منَ الـــــتـــَّوبــيخِ لا أرضى استماعه
وإنْ خــالَـــفْـتـَني وعَــصَـيْـتَ قولي * * * فلا تَــــجْــزعْ إذا لـــمْ تُـــعْـــطَ طاعَه
نعم قد يكون الجهر بالنصيحة مطلوبا في السرّ إذا رجحت المصلحة كما يقول ابن حزم: ” إِذا نصحت فانصح سرًّا لَا جَهراً أو بتعريض لا بتَصْرِيح، إِلَّا لمن لا يفهم فَلَا بُدّ من التَّصْرِيح …. ” رسائل ابن حزم 1/ 364 تح إحسان عباس، ولعمري فإن المنصوح في هذه النازلة له من العلم والفهم في تخصصه ما يدرأ عنه النصح علانية على مواقع التواصل التي تتجاوز الجماعة من الناس بكثير. فهل يُتوقَّع من المنصوح في العلن أن يقبل النصيحة بعد حملات “التشهير” غير المقصود؟ وهل يُتوقَّع منه أن يتقبّل النقد برحابة صدْر بعد أن خلّف جروحا ونُدوبا في النفس قد لا تندمل إلا مع الزمن، اللهم إلا إذا تَزَيّى بسلوك الفاروق رضي الله عنه -وهذا بعيد- حين انتقدته امرأة وهو على المنبر في قضية المهور- مُتجاوبا مع ردّة فعلها بكل تواضع قائلا:” أَصابَتِ امْرَأة ٌوأخْطَأ عُمَر”. فما الشيءُ الحاضرُ المتحقِّق في السلوك العُمَري، الغائبُ في حياة كثير من الناس ؟ إنها تزكية النفس وتهذيب نوازعها، وهي العقبة التي تحول دون تمثّل آداب .