روح التطوع
ذ. محمود بودور
كثيرا ما نسمع عن روح المواطنة الحقة فيتبادر الى أذهان الكثير من الناس الفريق الوطني اوالعلم الوطني او شعار المملكة. غير ان المفهوم في واقع الامر اشمل من ذلك وأعم. فمن بين ما تقتضي روح المواطنة في صاحبها روح التطوع . فهي من الصفات المحمودة الدالة على حب الخير للاخرين. ولربما كان هذا الخلق النبيل من المفاهيم الراسخة في ثقافتنا وديننا الحنيف تحت مسميات عدة.
العمل التطوعي كترجمة للجملة voluntary work بالانجليزية نعني به كل ما تقدمه من مساعدة ومعروف للآخر . فيدخل فيه تقديم خدمة او مساعدة محتاج او عمل بيئي لصالح مجتمعك او مدينتك او حيك او مؤسستك او غير ذلك. فهو مفهوم واسع يشمل كل معروف. بل وقد يكون بالكلمة الطيبة و حسن الاستقبال والوجه الحسن. وإدخال السرور على الآخرين كما نرى في بعض البرامج التلفزيةJust for laughs
فينفق كل من سعته وليس من ماله فقط.
والتربية على التطوع مما تركز عليه الدول المتطورة في مدارسها. فتنمي هذا الحس في أطفالها منذ نعومة أضافرهم لتنشئ أجيالا مستقبلية محبة للخير مساهمة في نماء أوطانها. فنرى في المدارس اليابانية مثلا تلاميذ القسم ينظفون أقسامهم كل يوم برفقة معلميهم ومعلماتهم بزي مدرسي موحد لا تفرق به بين غني وفقير. يربونهم على حب مدرستهم واحترام مربيهم وخدمة بعضهم البعض. وتتطوع كل يوم مجموعة من التلاميذ لتقديم الطعام لأقرانهم في نظام وانتظام يتعلمون مهارات الحياة الحقيقية من حب الخير وخدمة الاخر والاعتماد على الذات والتواضع مع الناس وحب النظافة واحترام العلم وتقدير بل وتقديس المعلم و غير ذلك من الصفات التي جعلت من المجتمع الياباني كوكبا فريدا انبهرت به حتى المجتمعات الغربية المتطورة نفسها.
فهل اليابان عاجزة عن توفير أعوان النظافة في مدارسها؟ أم هي عاجزة عن توفير أشخاص يخدمونهم في مطاعمهم؟
فلماذا لا نشجع مدارسنا على تبني مثل هذه الأفكار بدلا من اعتبار يوم النظافة اليتيم – ان بقي – عقابا للتلميذ وعملا يزدريه الاباء قبل الابناء. وبدلا من تقزيم التربية على الاخلاق في ساعة او ساعتين في مادة تسمى التربية الاسلامية.
لقد استطاعوا ان يربوا شعوبهم على الأخلاق الكونية المشتركة ومن ببن أهم هذه الأخلاق حس التطوع volunteerism.
فالمجتمع الذي ينشئ أبناءه على الأقل ل 15 سنة في التعليم الابتدائي والاعدادي الالزامي على مثل هذه الأخلاق يوميا يا تراه هل سيخرب أو يلوث أو يعتدي على الآخرين يوم يتخرج الى المجتمع بعد انهاء دراسته؟ أكيد لا.
قد يقول القائل منا إن اليابان كوكب آخر لا قبل لنا به. لكنهم بشر مثلنا مثلهم.
الكثير من الدول اليوم تتبنى تدريب التلاميذ على العمل التطوعي حتى في برامجها الدراسية فيصبح هذا الخلق جزءا لا يتجزء من شخصيته بل ومتطلبا في بعض الأحيان. ففي كندا مثلا لا ينتقل التلميذ من السلك الاعدادي الى الثانوي الا اذا قدم على الأقل 50 ساعة من العمل التطوعي. فيقوم التلاميذ بأنفسهم وأحيانا بتوجيه وتسهيل من الادارة بالتطوع لخدمة الآخرين في المتاجر الكبرى والمقاولات الخدماتية المحلية يساعدون العجزة بين ممراة المتجر ويعرضون خدماتهم في حمل المقتنيات أو الاجابة عن استفسارات الزبائن أو إتمام عملية الشراء عند الاستخلاص . وذلك كله بدون مقابل.
فينتقلون من المهارات الدراسية في المدارس study skills الى تعلم المهارات الرطبة soft skills في المتاجر والأسواق. فبينما يتعلم الحساب على السبورة في القسم يقوم بتطبيق الكفايات الحقيقية competences مع الناس في المتجر الذي يتطوع فيه فيتعلم التعامل بالمال ويرى بأم عينه كيف يشتري الناس وكيف يبيعون ويتعلم إستخلاص المبيعات إما نقدا أو عن طريق الاستخلاص الالكتروني من حساب الزبائن. ويتعلمون مهارات التعامل مع الناس والتواصل معهم وحسن مخالطتهم والصبر على أذى بعضهم. فيفيدون مجتمعهم ويطورون أنفسهم بمهارات حياتية لا يمكن للدروس النظرية الجافة في المدارس أن تقدمها لهم. وأترك لكم مجال المقارنة مع أولادنا. وعقليتنا.
لا أريد ان أبخس الناس أشياءهم وأقول أنه ليس لدينا أي عمل تطوعي في بلدنا الحبيب. لا أبدا. هناك الكثير من الناس والجمعيات والهيئات التي تقوم بذلك بكل تأكيد. لكنني لا أتحدث عن ذلك بل أتحدث عن التربية على هذا الخلق العظيم في قلب مدارسنا.
أكيد أن بعض المواد الدراسية تتضمن بعض المضامين هنا وهناك حول خلق التطوع غير أنها تبقى مضامين جافة لا تتجاوز الحناجر ولا ترقى إلى مستوى التبني والانصهار. فيتعلم تلميذنا أن الغش حرام ويحفظ من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك ما يحفظ لكن ذلك لا يجاوز عتبة باب الفصل فيغش في الامتحان داخل الفصل نفسه الذي درس فيه خصلة الصدق وأداء الأمانة قبل أز بخرج إلى المجتمع ليصير غشاشا محترفا أو سياسيا كذابا أو موظفا محتالا.
غير أن هناك أفكار واعدة لا نملك الا ان ننوه بها كتلك التي جاءت في مذكرة تنشيط الحياة المدرسية والمشروع الشخصي للمتعلم. الا أن كل ما جاءت به آيلة للفشل ما دامت هي نفسها تعتمد على روح التطوع لدى الأستاذ وهو ما ندنن حوله في هذا المقال.
إن هذا الخلق العظيم لا يباع ولا يشترى. قد نبدأ بالمكافآت المادية للمتطوعين للتشجيع. لكننا لن نصل إلى المبتغى حتى يصبح هذا مشروعا مجتمعيا تربى عليه الأجيال في المدارس وفي القنوات الاذاعية والتلفزية وفي المساجد والأماكن العمومية وحتى داخل البيوت والأسر.
غير أن التربية على روح التطوع في المدارس لن تؤتي أكلها حتى تتبنى الأسر نفس المنهاج داخل البيوت. ونغير من العقلية الذكورية التى تحكم مجتماعتنا وأسرنا وتجعل من الآخر خادما أو خادمة لنا ونقلب المعادلة حتى نصبح نحن خادمين للآخرين. فينشأ الطفل ذكرا كان أو أنثى مبادرا لخدمة والديه وإخوانه داخل بيوتنا. ونرى الكل يتعاون في تنظيف المنزل وإعداد الطعام وطهيه وجمع الأواني وغسلها ويرى الأبناء آباءهم يخدمون أمهاتهم في جو من الرحمة والود المتبادل ليس فيه سيد وخادم بل الكل خادم للآخر متطوع بحب ورحمة.
أبهرني عنوان كتاب My parents are not servants والدي ليسا خادمين. وهو يستحق الوقوف عنده لندرك أننا لا زلنا لم نتخلص من العقلية البائدة التي تجعل من الأم خادمة بل وأمة لزوجها وأبنائها. بل الأدهى والأمر عندما تجد المرأة نفسها تحمل في ذهنها أنها ستتزوج فارس أحلامها لتخدمه وتخدم أبناءه خدمة الأمة لسيدها إلى أن توارى التراب.
عندما نرى في بعض المجتمعات المتطورة الزوج والزوجة والأبناء كل يخدم نفسه بنفسه ويتطوع لخدمة الآخر ندرك أننا لا زلنا بعيدين كل البعد عن ركب الأمم المتحضرة التي انسلخت عن فكرة من يخدمني إلى سعادة من سأخدم.
إنها روح التطوع يا سادة.