الأمن على الحرمات بين الدولة الحديثة والدولة العتيقة البائدة
المصطفى حميمو
باستقراء التعليقات التي توصلت بها من معارفي على مقالي السابق تحت عنوان “تدريس التاريخ كما هو لتحصين الشباب من آفة التطرف”، ظهر لي أنه يغلب على عدد من القراء الخلط بين حضارات الدول من جهة وأمن شعوبها على حرماتها من جهة ثانية. فيعتقدون أن كل شعب عرفت دولته حضارة مزدهرة ومبهرة كان ينعم تلقائيا بالأمن على كل حرماته. فكان لا بد من تبديد ذلك الخلط حتى يتضح المقصود من المقال المذكور.
ففي العديد من الدول عبر تاريخ البشرية، قد تـــــزامــــــن تواجد حضارات زاهرة ومبهرة، مع غياب تام لاحترام حقوق الإنسان فيها. كما تــــــزامــــــن في أخرى حضور تام لاحترام حقوق الإنسان مع غياب أي شكل من أشكال الحضارة الثقافية والعلمية والعمرانية فيها. وتلك كانت ما يُعرف اليوم بدولة الحق والقانون. مثل الجمهورية الرومانية العتيقة حتى من قبل أن تعرف حضارة عمرانية. ومَثَلها في أبهى صوّره هو عهد الرسول الكريم وعهد الخلفاء الراشدين. فتلك كانت دولة الحق والقانون ومن دون أي مظهر من مظاهر حضارة مبهرة. تلك الدولة التي بحسب ما جاء في كتب المؤرخين المسلمين أنفسهم وفي كل عصر، ما لبثت أن تلاشت تحت ضغط الاتساع السريع لرقعة بلاد الإسلام، وحتى لما ظهرت فيها حضارة زاهرة في فترة من عهد العباسيين ببغداد وفي أخرى من عهد الأمويين بقرطبة.
والدولة الحديثة اليوم هي دولة الحق والقانون، التي جمعت بين تواجد الحضارة بمختلف مظاهرها من جهة وبين ضمان أمن شعبها على حرماته من جهة ثانية. الحرمات التي تشكل مقاصد الشريعة عند الخاصة، وحقوق الإنسان بلغة عصرنا عند العامة كما تقدم.
ففي أوروبا الغربية، الدولة التقليدية العتيقة، التي سمّاها الفرنسيون النظام القديم l’ancien régime إثر ثورة 1789، توفرت لها منذ القرن الرابع عشر الظروف الجيوسياسية المواتيّة كي تتعزز تدريجياً بإدارة قوية. لجأ فيها الملوك والأمراء إلى خبرات المواطنين من الطبقة البرجوازية من رجال المال والأعمال ومن رجال القانون. خبرات اكتسبتها تلك الطبقة في الممارسات المالية والإدارية وفي تجديد القانون المرتبط بتزايد سيطرة القانون الروماني.
ففي بعض الإمارت بشمال إيطالية، كفلورنسا بالخصوص حيث حصل ذلك التطور مبكرًا، تم إنشاء نوع حديث من الإدارة العمومية المحلية على غرار إدارة المال والأعمال في المجالين التجاري والصناعي. ثم تسارع نفس التطور خلال عصر النهضة عندما أمسكت الدولة بسيادتها الكاملة على ترابها بفضل تلك الإدارة القوية والفعالة التي لا تسمح لأي كان فيها أن يخرج عن سيطرتها.
فنشأت الدولة الحديثة بفضل ذلك التطور الإداري القوي. ثم بضغط متزايد ومتدرج من شعوبها تطورت وصارت محكومة بمبادئ الحق والقانون على أساس الفصل بين السلط الثلاث. وتحققت بفضل كل ذلك وبالتدريج دائما العدالة الضريبية، وخضعت ميزانية الدولة لقرار السلطة التشريعية المنتخبة نيابة عن الشعب مع مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية من طرف نفس السلطة التشريعية. فنمت فيها الخدمات العمومية من أمن وطني وجيش وطني وعدالة مستقلة وصحة عمومية وتعليم عمومي وأشغال عمومية تعنى بالمرافق الضرورية. فساد الأمن في كل ربوع البلاد برّا وبحرا، وامتد ليغطي القرى النائية والجبال. وبفضل ذلك استغنت المدن عن الأسوار ذات الأبراج التي كانت تحيط بها لحمايتها بمدافعها التي كانت موجهة صوب الداخل مثل ما كانت صوب الخارج، والتي بقيت شاهدة على هشاشة الأمن بالدولة التقليدية البائدة. لكن فقط المستقرئين لكتب المؤرخين، وما أقلهم مع الأسف الشديد، هم الذين يرون ويدركون ذلك الفارق الكبير في الأمن العام والاستقرار والعدل بين الدولة الحديثة والدولة التقليدية البائدة.
خلاصة القول أن الدولة الحديثة هي تلك التي صارت ذات سيادة كاملة على كل ترابها بفضل الإمكانات الإدارية القوية غير المحدودة والتي يستخدمها صاحب السيادة، مستبدا كان أو شعبا، في ممارسة سلطته. أما الدولة التقليدية البائدة فقد كانت تعاني من ضعف الوسائل التي يمكنها تعبئتها لتنفيذ السياسات التي كان يصممها ويقررها صاحب السيادة، مهما حسنت نواياه. وبما أنه ما كان بإمكانها الاعتماد على إدارة قوية وفعاّلة فقد كانت مضطرة للتعامل مع أنظمة العلاقات المجتمعية المختلّة والمبنية على النفوذ والجاه وأحيانا كثيرة على استعمال قوة السلاح المشاع بين عموم الناس لفض النزاعات وللاستحواذ على الامتيازات.
فكان البسطاء من الأهالي يعيشون فيها بين ناريْن، وذلك مهما ازدهرت وتألقت حضارتها. كانوا عرضة لإجرام قطاع الطرق في المناطق الخارجة عن نفوذها من جهة. وكانوا يئنون تحت نيْر عسف وجور رجالها بالمناطق التي تتحكم فيها من جهة ثانية. فحيث ما وجدوا فيها ما كانوا يأمنون بما يكفي على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
هكذا وبمعيار مقاصد الشريعة السمحاء تبقى الدولة الحديثة اليوم أرقى وبكثير من الدولة العتيقة البائدة، وذلك حتى في عز تألق حضارتها. ولا يدرك ذلك الفرق الشاسع بينهما سوى من يقرأون كتب التاريخ كما هو على حقيقته بحُلوه ومره، وما أقلهم مع الأسف الشديد، بالرغم من وفرتها وفي متناول اليد لكل من يبحث عنها على الإنترنت وبالمجان.
وما خلا يوم مجتمع بشري من ظلم وفساد، ولن يخلو منهما أبدا مهما تطوّر وازدهر. لكن بنفس معيار مقاصد الشريعة السمحاء، سيظل الظلم والفساد في الدولة الحديثة أقل وبكثير من ظلم وفساد الدولة العتيقة البائدة. وكما في باقي العالم، تشهد مرة أخرى بذلك كل كتب المؤرخين المسلمين في مختلف بقاع أرض الإسلام وعبر مختلف العصور، اللهم في عهد الرسول الكريم وعهد الخلفاء الراشدين.
فلا يصح أبدا أن يبغي بعض من شبابنا الدولة العتيقة البائدة بديلا عن الدولة الحديثة، مهما تألقت وازدهرت حضارتها، التي يحق لنا أن نفتخر بها، ولكن من دون أن تحجُب عنا تخلفها في مجال حقوق الإنسان التي تضمنتها مقاصد الشريعة السمحاء والتي هي أهم بكثير من بريق أية حضارة. وحتى يقتنع بذلك، فقد حان الوقت لتدريس تاريخ أسلافه كما هو على حقيقته بحُلوه وبمُرّه، وليس فقط ما عرفه من صفحات مجيدة ومشرقة وزاهية، فلا يُشمت في حقيقة طبيعة الدولة العتيقة البائدة، وفي مثالبها.