المجتمع المدني وسؤال البحث العلمي؟
الحبيب عكي
بالنظر إلى التزايد الهائل لعدد جمعيات المجتمع المدني، ومقارنة بمردوديتها في مجالات تخصصاتها واهتماماتها، فإننا نخرج وبدون أي جهد كبير، على أن المردودية المدنية اليوم لا ترقى إلى أن تناسب عدد الجمعيات وأعمارها الطويلة، فبالأحرى المطلوب منها في تخصصاتها ومستوى تدخلاتها وطاقاتها الخبيرة والمعطاءة، دون أن نتحدث عن الحاجة الميدانية الملحة والمتزايدة للفئات المستهدفة والتخصصات المشتغل عليها على أرض الواقع، من هنا يطرح السؤال ما الذي يحول دون تناسب عطاء الجمعيات كما وكيفا مع عددها وطاقاتها التنموية؟، وما هي السبل الكفيلة لفك هذا اللغز وصيانة العمل المدني من أن يكون مجرد ديكور تأثيثي ورقما من الأرقام لا يقدم ولا يؤخر في جوهر المعضلات الإصلاحية والتنموية شيئا؟.
كثيرا ما يهتم المجتمع المدني كما في جميع الدول بمواضيع أساسية وحساسة من الحرية والمساواة، التنمية المستدامة، العدالة المجالية، الديمقراطية وحقوق الإنسان..، ويهتم بالعديد من الفئات الهشة من النساء والأطفال والمحتاجين والمهاجرين وغيرهم من ذوي الوضعيات الصعبة في الأسر المفككة أو وضعيات الشارع والنزاع مع القانون وحقوق المواطنة، ويرافع من أجل جودة وحكامة الخدمات الموجهة إليها من صحة وتعليم وإدماج ومساعدات.. وقبل ذلك إسعافات مؤسساتية منظمة ومنتظمة، لكن في الواقع وفي المجمل تمضي الأمور أحيانا وكأن لا أحد يتنادى ويترافع أو يحتج ويصرخ..، وتتوسع الفئات المحتاجة بدل أن تتقلص، ولا شيء من حاجاتها يتحقق ولا من لهفتها يغاث إلا بالنقير والقطمير؟.
قد تكون هناك أسباب متعددة وراء كل هذا، ذاتية وموضوعية، سياسية واجتماعية، تنظيمية وتكوينية، مواردية بشرية ومادية. ولكن، ربما هناك سببين مفتاحين يمكنهما المساهمة في حل هذا الإشكال العويص وزحزحة جثومه على الوضع أي وضع، بقدر الوعي بهما وحسن استعمالهما والتعامل مع مدخلات ومخرجاتهما، ومن ذلك:
الأمر الأول: موضوعية الرهان المدني: الذي يراه البعض ويتعامل معه على أنه لا حدود له، ويمكن أن يكون هو الكل في الكل ويحقق الكل وإن في غياب واضطراب الكل، ويكفي للاعتقاد في ذلك بقوة كل هذا التوجه العالمي الذي يضغط في اتجاه هذا الرهان ودعمه حتى ابتدع له ما يسميه بالديمقراطية التشاركية وهي أقوى مؤشرات الدولة الديمقراطية المعاصرة؟. بينما الواقع أن العمل المدني مجرد جزء من الكل وقد يكون أصغر الأجزاء، صحيح، أنه قد يحقق أشياء مبهرة، خاصة إذا توفرت فيه شروط الإمكان والممكن والزمان والمكان، فإذا به قد ينجز.. وينجز.. وينجز..، بناء جسر وحفر بئر.. تعبئة رفيق وتعبيد طريق.. بناء مستوصف وتجهيز مدرسة.. توفير نقل وتسيير إقامة.. تشريع اجتماعي أو سياسي..، لكن، مهما يكن فلا بد من تواضعه وعدم غروره أو تجاوزه حده، فبالأحرى استغنائه عن غيره من الشركاء والفاعلين، واعتبار نفسه يتجاوز حتى أكبر الأحزاب وأعتى النقابات إن لم تكن القطاعات والحكومات، والمصيبة أن يدفعه هذا الغرور وبعض نجاحه الميداني أن يسعى للقيام بدورها بدل مراقبتها وتحريضها والاقتراح عليها ومساعدتها؟.
الأمر الثاني: مدى علمية ومهنية الممارسة المدنية: إذ لا يسود التعاطي مع مشاريعها عن بحث علمي اجتماعي رصين، وكما يقول أحدهم: كم جمعية لدينا اليوم في هذا الوطن الحبيب تحارب الهدر المدرسي ويزداد (54% في الإعدادي فقط)؟، وكم جمعية تحارب المخدرات في الأحياء الشعبية ويستفحل تفشيها؟، وكم جمعية تحارب الفقر والهشاشة وبمشاريع وشراكات هامة ومبالغ مالية مدنية معتبرة فإذا بهذه الظواهر المحاربة تمتد رقعا وفئات؟، كم جمعية أنهت شراكتها في محو الأمية والتربية غير النظامية مع مديرية إقليمية وإذا بها تصبح مرتعا لهما بأميتها التي لم تنمحي ولم تنتهي؟، ذلك أن.. وأن.. وأن، وأن المدخل لهذه المشاريع والشراكات لم يكن صحيحا، وأن تصور محاربة المعضلة لم يكن أيضا صحيحا، لأنه.. ولأنه.. ولأنه.. ولأنه لم ينتج عن بحث علمي ميداني.. تخصصي، وتشاركي.. مؤكد المنطلقات والحوامل والمخرجات، حظه من استيعاب المعضلة: ” النظر إلى الفروع بدل الجذور، ومعالجة الأعراض بدل الأسباب، وبالتالي التعايش مع التخلف وتنميته بدل محاربة التخلف وتحقيق التنمية الحقيقية”، على قول الدكتور “حسن مشهور” حفظه الله؟.
لا عمل مدني احترافي رصين ومنتج دون بحث علمي.. اجتماعي.. تربوي.. نفسي ثقافي.. سياسي.. تنموي.. فني إعلامي.. يجلي الأمور على حقيقتها كقطع (Puzzels) المتشابكة بألوانها المزركشة ووضعياتها المعقدة، ويمنح اللاعب قدرة ترتيبها بأقل جهد وفي أسرع وقت. فمتى يعرف الفاعلون المدنيون أن العمل المدني ليس مجرد فعل خير وتجزية وقت.. وتغيير العمل في مجال تنظيمي مقيد إلى مجال حر مسؤول ومستقل.. صحيح، كل هذا جيد ولازم لاعتبار الإمكانيات والممكنات والطاقات والظروف والنفسيات.. ولكنه لا يؤتي كثيرا من الأكل أو حتى شيء منه مما قل أو كثر، إذا لم يبنى على البحث العلمي تصورا وممارسة.. اهتماما وتخصصا.. نقدا وتطويرا..، ومن أوجه البحوث العلمية اللازمة والممكنة:
البحث الذاتي.. فردي أو جماعي.
البحث الدراسي.. الاستنباطي والاستقرائي.. التحليلي والتركيبي.
البحث المؤسساتي.. في الدورات والورشات.. منتديات ومسابقات.. في إطار المؤسسة الجمعوية وغيرها.
البحث الافتراضي عن بعد.. عبر مناظرات حية وتبادل الرأي والخبرات على المواقع والشبكات والمجموعات.
بحث التأليف والنشر.. عبر المجلات العلمية المعتبرة.. وتوثيق التجارب وعرضها عبر كل الوسائل المتاحة.
واليوم مثلا، هل نحتاج في مجتمعنا المدني إلى ثقافة المشروع أم إلى مشروع الثقافة؟، هل كل القضايا تحتاج إلى مشروع وشراكة، أم هناك مساحات ذاتية مقدور عليها أفرغت دون أن يلج الفارغون ما يوعدون به من المساحات الجديدة وهم لا يملكون مفاتحها وليست بأيديهم شروط ذلك؟، هل كل القضايا تحتاج إلى مساعدات وخدمات؟، أو إلى ترافعات قوية وتشريعات جماعية؟، أو إلى مجرد تكوينات وتدريبات وإحياء الرغبات والمبادرات وإطلاق الممكنات وتثمين القدرات على حد تعبيرهم؟، لماذا نتعامل مع جميع الفئات الاجتماعية بنفس التدخلات؟، ما حظ مساهمة هذه الفئات في البحث عن حلول مشاكلها، بلورتها وأجرأتها ولما لا توريثها واستدامتها؟. أين توضيحنا العلمي في العديد مما يملأ الدنيا صخبا وصراعا من مواضيع جلها فيه ملابسات ومغالطات خفية وجلية سرعان ما يلتهمها الملتهمون قصدا وجهلا فتنجرف بهم إلى المهالك؟.
كم ينشر المجتمع المدني من بحوث اجتماعية وتربوية في منصات البحث العلمي المعتبرة؟، كم يصدر من دراسات وبحوث ومجلات ومنشورات في الموضوع تكون معينا لهم ولغيرهم من السياسيين من أصحاب القرار؟، كم نجد من توثيق تجاربهم الثرية؟، بأي عمق وتفاصيل يتحدثون عن المواضيع التي يتصدون لها ويتصدرون الحديث عنها في شتى المنصات؟، كم يبرزون من طاقات مدنية متخصصة ومقنعة في مختلف المجالات؟، كم يعد من برامج حوارية تشاركية مفتوحة في وجه جميع الأطراف والتوجهات وهو دائما يشتكي من انغلاق وسائل الاعلام في وجهه؟. ما حظ القيم والهوية والأصالة والعلمية والموضوعية في كل ذلك؟، فالعلم العلم، فالعلم نور والجهل عار، وصدق الشاعر إذ يقول: “وأخو الجهالة في الحياة كأنه***ساع إلى الهيجا بغير حسام”، وحسام العمل المدني كغيره من الأعمال هو العلم والبحث والدراسة والمبادرة والتخطيط والتعاون والالتقائية..، فكفانا من كل ما قد لا يتسم بهما؟.