استغلال سيارات الدولة والجماعات الترابية : فساد كبير و انحطاط اخلاقي
اسماعيل فيلالي
من القضايا التي كان المرحوم عبد الرحمان اليوسفي يلح على الانتباه إليها بعد توليه رئاسة حكومة التناوب ، ظاهرة استغلال سيارات الدولة خارج نطاق القانون ، و الفوضى العارمة التي كانت تعرفها ، و قد أمر عبر مناشير و مراسيم بضرورة معالجة الظاهرة اولا بتقليص حظيرة سيارات الدولة والجماعات الترابية وثانيا بترشيد استعمالها لخدمة المصلحة العامة و ترشيد نفقات البنزين و الصيانة . و كان حريصا على الموضوع و معالجته بشكل صارم لمواجهة كل أشكال تبذير و هدر المال العام . و كانت اولى الخطوات التي قام بها انه اوقف التوقيع على شراء السيارات بالنسبة للوزراء ومديري المؤسسات العمومية . وقد تراجع نسبيا الاستغلال الشخصي لسيارات الدولة . لكن سرعان ما عادت حليمة الى عادتها القديمة بعد ان تبين للنفوس المريضة ان عهد الاصلاح قد انطلق . فاصطدمت محاولة المرحوم بجدار اللوبيات الفاسدة وبقيت كل المراسيم و المناشير والمذكرات حبرا على ورق الى الآن بعد مرور ربع قرن من الزمن ( 25 سنة ) … فكما هو معلوم ، يستفيد المسئولون الحكوميون والموظفون السامون و رؤساء الجماعات الترابية في المغرب من مجموعة من الامتيازات والتعويضات من أبرزها (سيارات الدولة) أو كما يقال (سيارات المخزن ) والتي توضع تحت تصرفهم لتسهيل مهامهم وضمان الظروف الملائمة لقيامهم بها، على أن تتحمل الدولة نفقاتها من تأمين وصيانة ووقود و أجرة سائقيها، وفق المرسوم رقم 2.97.1051 الصادر بتاريخ 2 فبراير 1998 والمتعلق بمجموعة السيارات التابعة للإدارات العامة، والمنشور رقم 98/ 4 الصادر في 20 فبراير 1998 الخاص بتدبير وتسيير حظيرة سيارات الإدارات العمومية، والمنشور رقم 98/ 31 الصادر في 28 يوليو 1998 المتعلق بترشيد تدبير حظيرة سيارات المؤسسات العمومية ، غير أن استعمالات تلك السيارات وعملية اقتنائها وإيجارها من قبل المسئولين ورؤساء المجالس الترابية ( مجالس جهوية ، مجالس اقليمية و مجالس محلية ) تعرف اختلالات كثيرة وتبذيرا مفرطا للمال العام خلافا لما كان يطمح اليه عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله …
و قبل الحديث عن تفاصيل هذه الظاهرة وتجلياتها نشير الى ان المغرب يتوفر على ازيد من 115 ألف سيارة بالقطاعات العمومية والجماعات الترابية حسب المعطيات الصادرة عن ( الشركة الوطنية للنقل و اللوجيستيك ) تخصص لها الحكومة المغربية 1.2 مليار درهم سنويا (100 مليار و200 مليون سنتيم ) تشمل نفقات التسيير والصيانة والمحروقات والشراء و الكراء . بالإضافة الى 44 مليون درهم للتامين ( 44 مليار سنتيم ) . هذه الأرقام تبرز بالواضح الأموال الكبيرة المرصودة لسيارات الدولة و الجماعات المحلية والتي يتم عبرها استنزاف المال العام بدون حسيب أو رقيب . ويتجلى ذلك في تجاوزات استخدام هذه السيارات ، فبدل ان يتم استعمالها لتسهيل مهام المسئولين و عمل الإدارة ، فهي تستعمل في مجالات لا علاقة لها بالمصلحة العامة وذلك من خلال استغلالها من لدن مسئولين، خارج أوقات العمل ولأغراض شخصية بل والسفر بها نحو مناطق بعيدة عن مقرات عملهم على حساب ميزانية الدولة التي تؤدي مصاريف الوقود والصيانة . في الوقت الذي نجد القانون ينص في مرسوم 2014 على أنه لا ينبغي نقل أفراد غير عاملين بالإدارة عبر السيارات الوظيفية وأن سائق السيارة يجب عليه ان يتوفر على وثائق تهم الوجهة وطبيعة الراكبين معه وعددهم ووظيفتهم ، و المهام التي سيقومون بها وهو الأمر نفسه بالنسبة لأي تزود بالبنزين أو الصيانة ، إلا أن سيارات الدولة وسيارات المصلحة الحاملة لعلامة ” المغرب ” بالأحمر و ” ج ” بالنسبة لسيارات الجماعات الترابية يمكن أن تصادفها خارج اوقات العمل والمهام الادارية في الشواطئ والمنتجعات السياحية ، خاصة في العطل المدرسية و الصيفية ، و امام الأسواق و المتاجر الكبرى وأمام أبواب المدارس والفنادق الفخمة وغيرها من الاماكن الخاصة … لقد تحولت هذه السيارات إلى ريع سياسي واجتماعي بامتياز ، يجعل بعض النفوس الضعيفة لا تتورع عن استعمال المال العام لشراء سيارات فخمة من المال العام دون حياء او خجل . و هذا ما يعتبر فسادا كبيرا و خيانة للأمانة . والذي يزيد في الطين بله ان العديد من الوزارات والمجالس الترابية يلجئون إلى كراء سيارات الخدمة لمدة 3 سنوات أو أكثر بـأثمنة خيالية من شركات لكراء السيارات غالبا ما تكون باسم افراد من عائلاتهم عوض شرائها وتسديد ثمن اقتنائها في مدة وجيزة لتصبح بعد ذلك ملكا للإدارة او الجماعة . و السؤال المطروح لماذا كراء السيارات بأثمنة خيالية و عدم شرائها ؟؟ الجواب : هو ان كراء سيارات الخدمة عوض شرائها، يخدم مصالح شركات عائلية او انتخابية من جهة كما اشرنا و من جهة اخرى يجعل مستغليها، في إطار المهام الموكولة إليهم بعيدين عن المراقبة بسبب أرقام لوحات هذه السيارات التي لا تحمل أية علامة تشير الى أنها سيارة تابعة للدولة. كما ان صفقات الكراء تعرف اختلالات كبيرة وقد تورطت الكثير من الوزارات والجماعات في مثل هذه الصفقات الفاسدة . ورغم ذلك لا تزال الظاهرة قائمة …؟
ان لجوء العديد من المسئولين في الادارات العمومية والجماعات المحلية الى تجديد أسطول السيارات كل سنتين أو ثلاث بميزانية تقدر بملايين الدراهم ، يتسبب في هدر المال العام ، في تحد واضح لتدبير و ترشيد الميزانية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر منها البلاد .. و يكون هذا التبذير في الوقت الذي تفتقر فيه بعض المجالس المحلية ، ان لم نقل أغلبها ، في العالم شبه الحضري والقروي ، الى أبسط الضروريات لتنميتها من حيث إصلاح الطرق والإنارة وبناء المدارس والمراكز الصحية ، فلكم ان تتصوروا كم من مدرسة يمكننا بناؤها بهذه الاموال المهدورة وكم من مستشفى وكم من سيارة اسعاف و كم طريق وكم من فرصة عمل للشباب المعطل ؟؟ انها ، فعلا ، الاخلاق المفقودة لدى أغلب المستغلين لسيارة الدولة و سيارات الجماعات الترابية لأغراض شخصية و عائلية … والذي يحزّ في النفس انك تجد من يستغلها لحملات انتخابية سابقة لأوانها وذلك بجعل السيارة مركبة لنقل الاشخاص الى الاسواق و الشباب للملاعب الرياضية والنساء للحمامات وبالليل الى اماكن خاصة بالفنادق المصنفة و ما خفي اعظم ..كما ان هناك من يستفيد من الشيات المخصصة للتزود بالبنزين و ذلك بأخذ مقابلها نقدا من أصحاب المحطات المزودة للإدارة او الجماعة وهنا تتسع دائرة الفساد … كما ان هؤلاء المفسدين الذين يستغلون سيارات الدولة والجماعات لأغراض شخصية يستفيدون من تعويضات عن المهام و التنقل ، وهذه أكبر تجليات الفساد ؟؟
ان تنامي الاستخدام السيئ و اللاخلاقي و اللامسؤول لسيارات الدولة خلال السنوات الأخيرة وتهافت الوزراء ورؤساء المؤسسات العمومية والموظفين السامين ورؤساء الجماعات الجهوية والإقليمية والحضرية والقروية على استعمال أفخمها وأجودها لقضاء حاجاتهم وحاجات عائلاتهم في تحد صارخ للقانون ، يجب ان يوضع له حد و ذلك باتخاذ الاجراءات التالية :
– الضرب بقوة على أيدي تجار الريع ، والبداية بعدم التأشير على جميع النفقات التي تخالف توجهات الشفافية وضرورة تشديد المراقبة عبر لجان تفتيش مركزية لضبط عملية استغلال سيارات الدولة ومراقبة حظيرتها واتخاذ الإجراءات القانونية في حق المخالفين، ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه العبث بممتلكات الدولة والمؤسسات المنتخبة وإهدار المال العام – على العمال و الولاة تحريك الفصل 64 من القانون التنظيمي للجماعات بوقف الأفعال المخالفة للمقتضيات القانونية والتنظيمية منها المنشور رقم 98.4 المتعلق بتحسين وتدبير حظيرة سيارات الإدارات العمومية . – اعتماد آليات المراقبة التي أعطيت لرجال الأمن والدرك بحجز كل سيارة للدولة أو الجماعات الترابية تتحرك خارج نطاق الاختصاص والعمل دون تردد او خوف من أحد
– على المجلس الأعلى للحسابات ان يلعب دوره كمراقب لميزانية الدولة في جميع القطاعات و تحديد اختلالات تكاليف سيارات الدولة على مستوى كمية الوقود المستعمل وقطع الغيار والصيانة والتأمين باعتماد آليات المراقبة لمعرفة نطاق استعمال سيارات الدولة وعدم استغلالها لأغراض شخصية وعائلية (وهذا ما اغفله التقريرالذي اصدره مؤخرا ؟؟) – قيام اللجان التابعة لهيئة النزاهة ومكافحة الفساد بمراقبة استخدام السيارات الحكومية خارج القانون لأنه يعتبر شكل من أشكال الفساد الذي يستنزف المال العام – سحب السيارات من المخالفين للقانون ومنع خروجها بدون اوامر من السلطات العليا . – حذف التعويض عن التنقل والمهام للذين يتوفرون على سيارات المصلحة . لان هذا الامر يبدو غير منطقي وهدر و تبذير للمال العام . و للإشارة فعدد سيارات الدولة والجماعات الترابية قد تضاعف اربع مرات من 36 الف سيارة الى 115 الف سيارة اضف لها الدراجات النارية التي تعد بالآلاف ….. كما ان المغرب يتفوق على امريكا اكبر دولة في العالم التي توجد بها سوى 72 الف سيارة وعلى اليبان ثالث اقوى اقتصاد في العالم التي لا تتجوز سيارة الدولة فيها 4000 سيارة ، بدون تعليق ….
في الختام يجب ان تتوفر الإرادة الحقيقية لدى االحكومة للتصدي الحازم لهذه الخروقات وهذا الاستغلال البشع لسيارات الدولة و الجماعات الترابية لأغراض شخصية وعائلية . حتى لا نعيش على ازدواجية الخطاب بين اللغو و الكلام والممارسة الميدانية . و نقول للذين يستغلون هذه السيارات : قليلا من الحياء فرأس الحكمة مخافة الله …