حكمان قضائيان في جريمة واحدة!
اسماعيل الحلوتي
يقول جل من قائل في محكم كتابه العزيز (سورة النساء الآية 58): “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”، فهو تعالى يأمر عباده هنا في هذه الآية الكريمة بصيانة الأمانات بمختلف أنواعها، التي ائتمنهم الناس عليها، والحرص الشديد على عدم التفريط فيها وإعادتها إلى أصحابها، كما يأمرهم إذا قضوا بينهم أن يقضوا بالعدل والقسط، بلا أدنى تمييز بين القوي والضعيف أو الغني والفقير…
بيد أنه ومن خلال ما يروج في محاكمنا من ملفات ويصدر فيها من أحكام متباينة، يتضح أننا مازلنا بعيدين عن الالتزام بما أمرنا به سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، وكذا بما تنص عليه القوانين ودستور البلاد على مستوى المساواة بين المتقاضين في عديد القضايا. رغم أن الملك محمد السادس الذي تنطق باسمه الأحكام لم يفتأ يؤكد على ضرورة تحلي القضاء بالنزاهة والاستقلالية، حتى يشكل دعامة أساسية للتنمية المستدامة. إذ تأبى بعض الجهات المتسلطة إلا أن تجعل من القضاء ببلادنا نوعين من القضاء، واحد لمن يدفع أكثر وعلية القوم، يسهر على ضمان حريتهم وأمنهم وسلامتهم دون غيرهم بصرف النظر عما يقترفون من أفعال جرمية وخروقات قانونية، وقضاء آخر للمستضعفين في الأرض ممن لا حول ولا قوة لهم.
ويأتي حديثنا هنا والآن في هذه الورقة المتواضعة والجد مقتضبة، بمناسبة واقعة تيفلت المأساوية التي كانت ضحيتها الطفلة سناء المنحدرة من دوار الغزاونة ضواحي مدينة تيفلت وذات الأحد عشر ربيعا من عمرها، على إثر تعرضها لجريمة نكراء من قبل ثلاثة مجرمين تتراوح أعمارهم ما بين 25 و37 سنة، تناوبوا على اغتصابها بشكل متكرر ومن دون أدنى رحمة أو شفقة. وهي الجريمة التي اهتز لها الرأي العام والوطني، وأثارت عاصفة من الغضب، التي تفاقمت بعد صدور حكم مخفف في الأسبوع الأخير من شهر مارس 2023، مما خلف استياء عارما في الشارع وعلى منصات التواصل الاجتماعي.
حيث قضت آنذاك غرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالعاصمة الرباط في ملف “اغتصاب جماعي لطفلة قاصر نتج عنه حمل” بسنتين حبسا فقط في حق الأوغاد الثلاثة، إذ حكمت على متهمين بسنتين حبسا منها ستة أشهر موقوفة التنفيذ، وتعويضا قدره مليونا سنتيم للضحية، فيما أدين الثالث بالحبس النافذ لمدة سنتين وتعويض بقيمة ثلاثة ملايين سنتيم، علما أنه إضافة إلى ما خلفه هذا الحكم الجائر من صدمة قوية للضحية وأسرتها وعموم المغاربة في الداخل والخارج، ومن آثار نفسية عميقة للطفلة المغتصبة، ترتب عنه حمل غير مرغوب فيه. وهو ما أدى إلى إشعال فتيل الغضب لدى عموم المواطنين وعديد المنظمات الحقوقية الوطنية والأجنبية، إلى الحد الذي جعل وزير العدل عبد اللطيف وهبي يدخل على الخط فور اطلاعه على نص الحكم، من خلال تصريح صحفي، قال فيه: “صعقت لمضمون الحكم في ملف اغتصاب طفلة تيفلت” ثم أضاف بأن القضية مازالت أمام القضاء في درجة تقاض أعلى، معبرا عن ارتياحه من كون النيابة العامة استأنفت الحكم، سعيا منها إلى حماية حقوق الطفلة الضحية وحرصا على حسن تطبيق القانون…
من هنا واستجابة لمطالب النيابة العامة ووزير العدل وفعاليات حقوقية ونسائية، الداعية إلى ضرورة إعادة النظر في الحكم المجحف وغير المنصف للضحية وأهلها وللمجتمع ككل، والذي يعد بمثابة كارثة إنسانية ووصمة عار في جبين العدالة المغربية ما لم يتم نداركه بسرعة، باعتباره مسا خطيرا بمبدأ احترام حقوق الطفل والمرأة، ويشكل أحد أبرز مظاهر الإفلات من العقاب، الذي سيؤدي لا محالة إلى المزيد من التسيب والاعتداءات الجنسية على النساء والأطفال الصغار…
فقد عادت غرفة الجنايات الاستئنافية بالرباط ليلة الخميس 13 أبريل 2023 لتصدر أحكاما مخالفة تماما لسابقتها، تتراوح ما بين 10 و20 سنة سجنا في حق المتهمين الثلاثة في ذات جريمة الاغتصاب الشنعاء. إذ قضت المحكمة في حق المتهم الأول بعشرين سنة سجنا نافذا وأداء تعويض قدره 60 ألف درهم، إثر مؤاخذته على التهم المنسوبة إليه، فيما قضت في حق المتهمين الآخرين بعشر سنوات سجنا نافذا وتعويض بقيمة 40 ألف درهم لكل واحد منهما، لفائدة المطالب بالحق المدني…
ترى هل كان من الضروري أن يعتبر وزير العدل الحكم الابتدائي في ملف الطفلة سناء صادما، حتى تتضاعف العقوبة بشكل لافت في الحكم الاستئنافي بذات المحكمة؟ فطالما خلفت الأحكام الصادرة في وقائع مماثلة الكثير من الجدل، لكونها تأتي دون مستوى وحجم فظاعة الجرائم المرتكبة، وتعد بمثابة اغتصاب ثان من شأنه تعميق جراح الضحايا وتغذية روح الانتقام فيهم. فخطورة وبشاعة هذه الجريمة بالنسبة للطفلة التي تحولت غصبا عنها إلى أم وهي ما تزال في الثانية عشرة من عمرها، تكمن في كون حالة الاغتصاب ستظل راسخة في ذهنها، تتذكرها بجميع تفاصيلها كلما نظرت إلى صغيرها، مما يستدعي مراجعة جذرية للقوانين المعمول بها، مادامت عاجزة عن ردع المجرمين والحد من جريمة الاغتصاب، التي تشهد ارتفاعا مقلقا في السنوات الأخيرة ببلادنا.