عطلة ،،سيد الميلود،،
محمد شحلال
بعد نيل الشهادة الابتدائية التي امتزجت فرحتها بنكسة حزيران الأليمة،كان علي أن أتابع المرحلة الثانوية بمدينة جرادة لمدة أربع سنوات، بعيدا عن والدتي- رحمها الله-حيث افتقدت حضنها مبكرا ،في الوقت الذي كان الوالد قد رحل قبل أن أتمثل صورته الحقيقية وإن كنت احتفظ بأثارة من حدث وفاته.
كان بيني وبين الوالدة الكريمة شوق أزلي لا تخفف منه إلا أيام العطل لا سيما عطلة الصيف الكبرى.
لقد تزامنت العطلة الصيفية بعيد حصولي على الشهادة الابتدائية مع حلول عيد المولد النبوي الشريف،وهو مناسبة كان الأهالي يستقبلونها بكثير من الحفاوة،حيث كانت والدتي عنصرا لا غنى عنه في جوقة النساء اللواتي يشرعن بعد وجبة العشاء في تسخين الدفوف،لتنطلق أهازيج خاصة بمدح الرسول عليه السلام.
كانت الأمهات يتنافسن في استعراض محفوظاتهن من الأمداح بما يليق من ترخيم في الصوت ،التماسا لثواب المدح،حتى أصبحت معظم هؤلاء الأمهات نماذج متميزة في إتقان المديح النبوي،بل إنهن تحولن إلى مراجع للفتيات الناشئات اللواتي كن يشكلن جوقتهن الموازية للتمرين واستراق أسرار،،لمعلمات،،!
كلما اقترب فصل الصيف،صارت والدتي تترقب ،،عطلة سيد الميلود،،التي تسمح لنا بتجديد اللقاء وتعويض الفراغ العاطفي الذي تحملته مكرها ،لتحقيق رغبة الوالد الذي أوصى بتعليمي كيفما كانت الظروف.
لقد كانت العناية الإلهية إلى جانبي،حيث تجاوزت ظروفا قاسية ربما كان أبسطها سيدفع غيري لترك الدراسة فورا،لكني ،،روضت،،النفس على تقبل حياة بدون طفولة حقيقية، لأن قدر أمثالي ،أن يستشعروا ثقل المسؤولية قبل الأوان،وإلا كان الاختيار الأوحد بالبلدة في الانتظار : الرعي والزراعة التقليدية، ثم الزواج النمطي بكل تداعياته المادية والمعنوية.
تحولت عطلة،،سيد الميلود،،إلى موعد سنوي يحظى لدي بكثير من العشق،ذلك أنها كانت تتيح لي العودة إلى أحضان والدتي،كما كانت تسمح لي ببعض البدائل التي تختلف عما هو منذور لزملائي،من قبيل المخيمات والأسفار،ذلك أنني كنت أجد متنفسا على ضفاف نهر،،زا،،حيث تعلمت السباحة وعشق الحياة بجانب الماء،وكانت سعادتي تتضاعف حين يقع كتاب ما بين يدي فأحمله أكثر ما فيه.
وإذا كان يوم السوق الأسبوعي،فإني كنت أتحول ونظرائي إلى قراء ومحررين لرسائل البدو، مقابل قطع من النقود الصفراء والشاي المرفق بالفول السوداني.
قبيل إغلاق المؤسسة لأبوابها بمناسبة نهاية السنة الدراسية،كان الفرنسيون قد رسخوا بمدينة جرادة تقليدا راقيا،يتمثل في تخصيص يوم لتوزيع الجوائز على التلاميذ المتفوقين،وكان فضاء الحفل لا يقل بهاء عن الحدث،ذلك أنه كان يتم في قاعة السنيما الأسطورية بمدينة جرادة.
كان الفرنسيون بارعين في زرع بذور التنافس الشريف بين التلاميذ،حيث يصنفون الجوائز إلى درجات : الجائزة الأولى، جائزة التفوق…وبهذه الطريقة،كان التلاميذ يبذلون قصارى جهودهم لتسمع أسماؤهم ضمن المستحقين تحت وابل من التصفيقات والزغاريد ،خاصة حين يتسلم الفائز جائزته من من مسؤول سلطوي،أو من إطار فرنسي يكيل له المديح والثناء من أجل مزيد الإنحازات أمام مسامع الحضور.
لم أكن من زبناء السنيما النظاميين في الأيام العادية،لكنني كنت على لائحة المدعوين لاستلام الجوائز طيلة سنوات تمدرسي بمدينة جرادة،وهي جوائز ما زالت تؤثث مكتبتي المتواضعة.
لقد تعرضت قاعة السنيما التي كانت تحتضن حفل توزيع الجوائز للهدم،لكن بعض الوجوه العبقرية من أبناء جرادة ،لن تزول من الذاكرة بفضل باعها الطويل في التحصيل الجاد.
شاء الله أن أواصل مشواري الدراسي،لكنني لم اجتمع بوالدتي أبدا،فقد كنت أطارد لقمة العيش عبر ربوع الوطن ،بينما ظلت والدتي متمسكة بمسقط الرأس الذي لم ترض عنه بديلا حتى لقيت ربها دون أن تبوح بكل أسرارها.
اللهم أكرمها بجنة الفردوس الأعلى، وارحم كل الأمهات اللواتي شقين ليسعد أبناؤهن المحرومون.