لن تجد هذا العبط والغباء والعبث إلا في الجزائر
محمد إنفي
لا أعتقد أن هناك بلدا يشبه الجزائر في حجم العبط والغباء والعبث. ولو أردت أن أستعرض كل مظاهر العبط والغباء والعبث التي تطفو إلى السطح في بلد “الشهداء”، للزمني صفحات وصفحات من أجل تعداد كل هذه المظاهر. لذلك، سوف أكتفي ببعض الأمثلة، أسجل من خلالها مدى غياب العقل والمنطق في هذه البلاد، لدرجة أن كل شيء فيها يبعث على الاستغراب. فالإنسان السوي لا يمكن إلا أن يستغرب ويتعجب مما يقع فيها.
ففي الجزائر، تجد من يتذكر اللحظات الأولى لولادته؛ وهذا ليس من اختراعي، بل مأخوذ من إحدى القنوات الجزائرية. لقد مر في هذه القناة شخص توحي هيئته بأنه محترم، وله وضع اعتباري في البلاد، ما دام قد أستدعي لبرنامج تليفزيوني. ويبدو أنه كان يحكي عن سيرته الذاتية حين تحدث عن اللحظات الأولى لولادته (لا أتذكر الصفة التي تحدث بها: رجل سياسة؟ أم مثقف؟ أم باحث؟ أم…؟). وكان الرجل يتحدث بكل ثقة في النفس ويقينية، وكرر أكثر من مرة بأنه يتذكر جيدا تفاصيل اللحظات الأولى لولادته. ومن بين ما تحدث عنه، ما كان يراه عبر النافذة خارج قاعة الولادة. صدق أو لا تصدق.
في الجزائر، قضية الشهداء تحولت إلى بورصة للقيم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، مع فرق بسيط في كون هذه البرصة لا تعرف في تداولاتها الانخفاض في قيمتها؛ بل هي في تطور مستمر. فبعد حكاية المليون شهيد التي أطلقها الرئيس المصري جمال عبد الناصر مطلع الستينيات من القرن الماضي كنوع من المجاملة للرفع من معنويات الشعب الجزائري وإعطاء قيمة لتضحيات المقاومين، تحولت قيمة الشهادة في الجزائر إلى عملة يُتاجر بها؛ إذ لم يقف الأمر عند المليون والميون والنصف ثم خمسة ملايين ونصف حسب عبد المجيد كذبون، فأحد عشر مليون ليطلع علينا في المدة الأخيرة شخص بحسابات فلكية أوصلت العدد إلى مائة مليون شهيد.
لكل البلدان التي كانت مستعمرة واستردت استقلالها بالمقاومة ومحاربة المستعمر، إلا ولها شهداء. لكن هذه البلدان لا تتاجر بشهدائها، ولم تحصر اهتمامها في الافتخار بأعداد الشهداء؛ إلا الجزائر فهي تشكل استثناء سيئا وبئيسا في هذا الباب. فبقدر ما تفتخر البلدان الأخرى بالخسائر البشرية التي كبدتها للمستعمر (أحيل على معركة أنوال، على سبيل المثال لا الحصر، التي كبد فيها البطل المغربي المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الاستعمار الاسباني خسائر فادحة في الأرواح والعتاد)، بقدر ما تفتخر الجزائر بخسائرها البشرية أمام المستعمر الفرنسي.
صحيح أن هناك جزائريين ينكرون ويستنكرون كل هذا اللغط حول عدد الشهداء، ويؤكدون أن العدد بعيد جدا عن المليون. لكن النظام يصر على تضخيم العدد لحاجة في نفسه، والمبرْدَعون يستهوون هذه اللعبة وينخرطون فيها بكل غباء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد. لقد روى مؤخرا أحد مستشاري الرئيس الجزائري قصة أغرب من الخيال. لقد تحدث عن جهاد اللقلاق (بلارج) الذي تعرض للسجن بعد محاكمته على فعلته “الشنيعة” المتمثلة في تجرؤه على اقتحام ثكنة عسكرية وتمزيق علم فرنسا. ولوطنية اللقلاق السجين فقد أضرب عن الطعام تضامنا مع المجاهدين المعتقلين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب. وزعم المستشار المذكور أنه قد أخذ صورة لهذا اللقلاق وهو يمزق العلم الفرنسي (متى أخذ هذه الصورة؟ وكيف دخل إلى الثكنة؟ وكم كان عمره؟ فهيئته لا توحي بأنه قد بلغ الستين سنة؛ فربما لم يكن قد ولد في الفترة التي كان يتحدث عنها).
ليس اللقلاق وحده الذي تعرض للمحاكمة والاعتقال. فهناك في إحدى الولايات صخرة يحتفى بها لكونها قتلت جنودا فرنسيين بعدما انجرفت من الجبل، فتمت محاكمتها وتطويقها بسلاسل حديدية عقابا لها. وفي نفس المكان، يتحدثون عن شجرة آوت في جذعها مجاهدا وابنه لست سنوات بعيدا عن أعين قوات المستعمر.
وهكذا، فإن الجهاد والاستشهاد، في الجزائر، لم يقتصر على البشر، بل شارك فيه حتى الطير والحجر والشجر. أضف إلى ذلك أن الجزائر هي البلد الوحيد الذي فيه الشهداء أحياء؛ إذ ينادى عليهم في التجمعات للإدلاء بشهادتهم الحية عن بطولاتهم الخارقة.
وإذا تركنا قضية الشهداء وانتقلنا إلى الإعلام، فلن تجد إلا نفس العبط والغباء والعبث المفرط، سواء تعلق بالإعلام الرسمي أو الإعلام غير الرسمي. وحسب ما ينشر في الجزائر (سواء المكتوب منه أو بالصوت والصورة)، لا يمكن ألا يستوقفك حجم العبط الموجود في هذه المنشورات، إلا ما كان من استثناءات قليلة جدا. وسواء تعلق الأمر بالإعلام الرياضي أو الإعلام السياسي، سوف يصدمك حجم الغباء (وقد كتبت أكثر من مقال على الغباء في الجزائر) في إعلام هذا البلد. ولكم أن تستحضروا مهازل المخابرات الجزائرية التي أصبحت أضحوكة في العالم. فمن مهزلة تسريب أخبار عن اجتماع وهمي في تل أبيب بين المخابرات المغربية والإسرائيلية والفرنسية لوضع خطة لزعزعة أمن واستقرار الجزائر، إلى خرافة فرار 850 جندي مغربي، فترويج أخبار عن أزمات في المغرب تهدده بالتفكك، وهلم جرا في قلب الحقائق بوصف ما يقع في الجزائر ونسب ذلك إلى المغرب.
صدق أو لا تصدق: الجزائر علَّمت قواعد اللغة العربية للمشرق العربي؛ الجزائر حررت المانيا من النازية؛ الجزائر مهد الديمقراطيات الأوروبية ومنها انطلقت الثورات في اليونان والبرتغال وإسبانيا؛ كلمة الجزائر هي لي تفوت في الأمم المتحدة (ٍ عبد المجيد كذبون)؛ الأرقام المستعملة اليوم اختراع جزائري؛ جبل توبقال نقل من الجزائر إلى مراكش؛ أهل الكهف كانوا في الجزائر؛ والهلوسات كثيرة في هذا البلد؛ وما هذا إلا غيض من فيض.
ما السر في هذا الأمر؟ إنها أزمة الهوية وعقدة التاريخ. والعداء للمغرب (الذي تحول إلى عقيدة وعقدة) زاد من حدة هذه الأزمات، فتحولت الجزائر إلى مستشفى مفتوح للأمراض العقلية والاضطرابات النفسية. فلا غرابة في أن يفشلوا في كل شيء؛ حتى في الكذب.