محرر في السوق
…. محمد شحلال
لم تسلم بلدتنا من وقع التخلف الشامل الذي عانت منه جل البوادي المغربية،خاصة في المجال الثقافي، حيث عانى الأهالي من جهل حكم عليهم بحياة نمطية لم ينعتقوا منها إلا بعد عقود طويلة.
كانت بلدتنا تابعة لنفوذ مدينة دبدو ،ولذلك ظلت تحت رحمتها في مجال الارتفاق الإداري ،وما عرفه من تعقيدات بلغت مستوى السادية في كثير من الحالات ،التى امتهنها بعض الموظفين الذين مارسوا كل أشكال الابتزاز في حق مواطنين ،يؤرقهم كل ما يمت ،،للمخزن،،بصلة.
كانت السلطات الفرنسية قد فتحت نواة مدرسة قرب مقر الشركة المنجمية،وهو ما سمح لبعض الأطفال من أبناء العمال وعملاء المحتل باقتحام عالم،،السكويلة،،وإن توقف مشوارهم الدراسي مبكرا،ومع ذلك،فإن معظمهم قد امتلكوا أبجديات الكتابة،وأصبحوا أشخاصا مميزين لا غنى عن خدماتهم.
وهكذا،فإن يوم السوق الأسبوعي، كان فرصة ثمينة للأهالي في الاطلاع على فحوى ما يصلهم من وثائق إدارية، والرد على الرسائل عبر هؤلاء المتعلمين القلائل الذين امتلكوا هالة من الاحترام والسلطة المعنوية، التي ﻻ تلين إلا بعد تحديد الأتعاب المادية ،وتناول الشاي المرفق بالفول السوداني،وهو طبق أرستقراطي يومئذ.
شاءت الظروف وأنا أتابع دراستي الابتدائية، أن أتعرف على شخص من هؤلاء المتعلمين الذين امتهنوا تحرير الطلبات وفك ،،شفرات،،الرسائل والوثائق،،المخزنية،،التي تشمل الذعائر التي كان يرتبها حراس الغابة في حق المخالفين،ثم الاستدعاءات الصادرة عن رجال الدرك والمحاكم،وهي وثائق تخضع قراءتها وتقييمها لسلطة المحرر التقديرية.
كان أحد أبناء مدشر،،المقام السفلي،،أبرز نجم في مجال تحرير وتأويل مختلف الوثائق،وكنت من المعجبين بشخصيته،حيث كنت أحرص على متابعة أنشطته يوم السوق، وهو يجري مفاوضات هامة مع زبنائه الذين ينضبطون لتعليماته حتى لا يضيع دورهم في عرض نوازلهم.
كان الرجل يشكل نشازا حقيقيا في سوق بلدتنا الذي يرتاده بدو يشتركون في هندام نمطي يشار بالبنان لمن يفرط فيه،حيث كان الجلباب والبرنس والعمامة، تراثا لا يحيد عنه إلا زائغ،لذلك كان من النادر أن تجد كهلا عاري الهامة،وإذا حصل،فلا بد أن يكون من الغرباء.
أما صاحبنا المحرر،فقد كان حريصا على أن يصفف شعره بعناية، ثم يضفي عليه ما يكفي من الملمع( البريانتين) الذي يجعل العيون تسرق إليه النظر دون أن تدرك سر هذا اللمعان اللافت.
وحتى تكتمل شخصية المحرر،فقد كان يرتدي بذلة أنيقة تتموج داخلها ربطة عنق تزيد من استغراب البدو حول هذه،،الربقة،،التي لا يعلمون شيئا عن دورها !
لم يقتصر اللمعان على الشعر،فقد كان الحذاء بدوره يخضع لحصة تأهيل كافية حتى يبدو الرجل مختلفا عن الآخرين في كل شيء،حيث كان قلمان يزينان جيب معطفه الأيسر،بينما تؤثث إبطه محفظة سوداء لا أحد يعرف محتوياتها،لكنها لا تختلف عن محفظة رجال الدرك في سوادها،مما يكسبها نصيبا من الهيبة المعهودة في رجال،،المخزن،،ولذلك كان المحرر قد صنع لنفسه قسمات صارمة لا تدع مجالا لمساومته في طلباته.
قضى المحرر سنوات وهو ينفرد بالنجومية في سوق بلدتنا الغاص بالزبناء ذات زمان،إلى أن تعرض المسكين لحملة منافسة شرسة أواسط السبعينات من القرن الماضي، حينما كثر المتعلمون،فبخست سلعة صاحبنا الذي هجر البلدة ليقضي دون أن يتحقق هدفه في الالتحاق بأروبا،لكن ذكره لن يغيب عن أذهان من عرفوه رجلا أنيقا عزيز النفس.
اللهم اغفر له وأكرمه بالجنة،فقد كان معلمة حقيقية نهلنا منه العزم على التحصيل وتحقيق كثير من الأهداف التي لم تكن من نصيبه