مقاربات على مشارف المنجز الروائي … آلهة الأرض، وصراخ الأشقياء.. للكاتب المغربي ( الخضير قدوري)
بلقاسم سيداين
بعد سلسلة من الإصدارات، وفي مجالات مختلفة يتقدمها الجنس الروائي/ السردي:
– (دموع في عيون الحرمان)،
– (الأرواح الهائمة)
يطلّ علينا فجأة الكاتب المغربي (الخصير قدوري) بمنجز أدبي اِنتقى له العنواَن التالي:
– (آلهةُ الأرضِ، وصُراخِ الأشقياءِ).
وهو عمل روائي أدبي من الحجم المتوسط.
فآلهة الأرض، تقابلها آلهة السّماء. (والشّيء بضدّه يعرف).
– فهل ستكون آلهة الأرض، كآلهة السّماء…؟؟
– وما علاقة صراخ الأشقياء، بهذه الآلهة…؟؟
– وما دوافع وعوامل هذا الصّراخ، ونوعيته..؟؟
●مقاربة أولية..
ونحن نستجدي عالم هذا النص الموازي/العنوان، ونُسائل مكوناته تستوقفنا مطالعُ رؤوس إحالات لبعض أسئلتنا لمعالم هذه المغامرة الإبداعية مطلة بادِيةً..
وتتشّكل في مخيلتنا دائرة بناء تشييد هذه الرّواية واضحة، وجليةً..
حيث يعد هذا المنجز الرّوائي من خلال عتبة العنوان تدفق حقيقي، لتصدع واقع يملأه التناقضُ، وتحكمه المفارقات.. ويجثو على صدره ظلم اجتماعي..وتملأ أيامه متواليات شظف عيش قاس ينتج عنه سيلُ صراخ الأشقياء فوق أرض خاضعة لسيطرة آلهة أرضيّة..والتي لن تكون أبداً كآلهة السّماء.
●مقاربة الكاتب لمنجزه.
رسم الكاتب لقرائه خارطة طريق لكي يتفاعلوا مع مقروء روايته، وصَرّح عبر هذه الإضاءة التمهيدية بأن أشخاصَ الرّواية، ومعالمها رموز تنبثق من صميم الواقعِ. لكنّها صِيغت في قالبٍ خيالي لتتجاوب مع مُختلف مستويات القراءة، والتي تدُور أحداثها وتجري في قرية من القرى المتاخمة لمدينة (تاوريرت) الشرقة بجوار جبل يرمز إلى كثير من المتعالين في الأرض في ظل حياة مليئة بالمتناقضات، والمعاناة. محورها إنسان شقي ومقهور يجسد سلسة من الصور البشعة لمجتمع مريض تتحكّم في رقابه أيادي خفية وظاهرة، وترغمه ليؤدي أدوار مسرحية بلا عنوان..وفارغة بلا مضمون.
وقد وجد الكاتب أن الحياة في بعض أشكالها تشبه ملعباً رياضياً يتسع للجميع، والحياة بداخلها كرة هوائية تتقاذفها رؤوس المتلاعبين/اللاعبين، وتشدّ إليها أبصاراً لا تبصر..وتشغل عقولا لا تعقل..وهي حياة لا تختلف عن حياة جرذان في حقول تجارب..وهي عبارة أيصاً عن مقرات حزبية لممارسة كل أنواع الخدع السياسية، وصياغة مختلف أساليب الكذب، وبيع الوهم لتحقيق أهداف زائلة فانية. مادامت الدنيا في نظره سجن يضم دهاليز وزنازن متعددة والإنسان بداخلها سجين خاضع/خانع لسجانه، لا أثر فيها لحقوق الإنسان أو الديمقراطية أو الحرية..
كما صور الحياة كعجوز شمطاء بأصباغ مغرية على وجهها..
والإنسان في هذه الحياة لا هو بحي، ولا بميت..بل غائب ومغيب..عاطل، ومعطل..ناخب، ومنتخب..تسوق جسده رياح بلا روح في شوارع المدن، وربوع القرى..
فمن خلال هذه التوطئة يقدم الكاتب لنا معالمَ روايته، ويكشف دلالاتها وبُعْدَ مضمونها..وتنفتح مستوياتها القرائية على عدة رتب، ودرجات من القراءة..
●مقاربة لمضمون العمل الروائي
بين أحضان جبل شامخ الرأس، وواسع الصّدر يطاول الشّمس، وتلفّه أسرار عظيمة، وروابي ساجدات، وبين حماها يضرب( سعيد)، وزوجته(سعيدة) خيمتهما المتواضعة وبمحيطها زريبة لقطيعهما..يعيشان على كرم ما تجود به الطبيعة من حولهم. ولم يكن لهما من السّعد، والسّعادة غير الإسم على طرف اللسان..فتقف (سعيدة)موقف السند لزوجها والمعتمد الأقوى له، والملاذ الآمن الذي يلوذ إليه من همومه، ومتاعبه بعد عودته نهاية كل يوم بقطيعه مصدر رزقه، وعيشه بعد أن يوصد باب الزريبة موكلا أمر حراستها الليلية لكلبه الوفي..
في سعادة حقيقية يجلس (سعيد) إلى فراشه المتواضع محتضنا بدفء أبوي ابنتيه (نرجس) و(نسرين) وبجانبه رفيقة عمره تختلس إليه نظرات الحب، والعطف..وتخفف ما علق به من تعب يومي صابرةً رغم كلّ الظّروف وكلّها رغبةً وزوجها أن يرزقهما الله ولداً ذكراً يخلفهما ويرعى اختيه بعدهما..
وقد تعاطف الكاتب مع الوضع المؤرق لهذه الأسرة في لياليها الطويلة على مسرح واقع صعب جِدّاّ. وهو يحضر معهم داخل خيمتهم، ويقاسمهم معاناتهم..ويُحمّلُ مسؤولية وضعهم لم أُوكلت لهم أمور البلاد، والعباد. وما صُبْحهمْ إِلا كَليلِهِمْ..وصدق (أمرؤ القيس) عندما قال:
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي
بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ
فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ
بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ
فتبدأ (سعيدةُ)صُبحها كعادتها بالنّفخ في الرّماد لايقاذ جمرة الموقد لتهييء الفطور لزوجها، وتودعه رفقة قطيعه نحو المراعي في الجبل، وهضابه، وغاباته ومروجه..وهم يعيشون حياة هادئة هدوء المقابر..وساكنة سكون الليل، لا يُزعجُون بمعاناتهم راحة من يتمتعون في هذه الحياة بمتاعها، وينعمون فيها بسعادتهم..لكنه في العمق هدير صراع بين قوى الشر، وقوى الخير..فيها الحياة للأقوى تحكمها قوانين الغاب..إنه عيش شقي على أرض منكرة عن رقعة هذا الوطن تحتفظ برفات أشقياء هاربين من ظلم الظالمين، وجشع المفسدين، فتُطوى بهذا المكان أسرارهم، وتُدفن إلى أجل أخبارهم. ولهم في السماء ما يوعدون عند ملك مقتدر..
لقد كان الكاتب غارقا في تأملاته لعناصر الطبيعة، فإذا بنداء (نرجس) يستعجله، ويستحثه ليس كعادتها كلما آن أوان طعام الغذاء، بل لمساعدة (سعيدة ) التي أُصيبت بوعكة صحية مفاجئة، وهي تتلوى من شدة الألم ومغصها كإلتواء سمكة أُلقي بها إلى شط البحر..لكن لا حيلة له..! ولا وسيلة لانقاذها..! فها هو يرى مخالب الموت تنشب أظافرها في جسدها، ومهلة انقاذها تتجه بسرعة نحو النفاذ. أمام فاقد الشيء لا يعطيه..لتلفظ (سعيدة) أنفاسها الأخيرة أمامهم وتنتهي مسيرة حياتها القصيرة في طريق بؤس، وشقاء وهي تلبي نداء الموت كمن سبقوها إلى هذه الحياة المحاطة بالتهميش، والإقصاء. ثمّ تصبح ذكرى ترددها فضاءات هذه الطبيعة..
ماتت (سعيدة)، وانتهت إلى الأبدِ رحلتها في هذه الدّنيا بعد أن طالها ظلمٌ بشري، ونبذٌ اجتماعي صارخ، وقتلٌ سادي لأحلامها، وآمالها..تاركة ألماً شديداً في من حولها، وحزن عميق يملأ صدورهم..أسلمت الروح لباريها عسى أن يعوضها الله بما هو أفضل، وبما هو أحسن من حياتها في هذه الدنيا..فها (نرجس) و(نسرين) يبكيانها بحرقة وألم شديدين، يقبّلان خدّيها، يتمرّغان على صدرها السّاكن لأنهما فقدا دفءَ أمّ حنونة بسيطة شَقت كثيراً من أجلهما..
كعادته كل يوم يعود (سعيد) الى خيمته يسبقه قطيعه إلى زريبته لكنه اليوم تفاجأ بخبر موت زوجته ورحيلها الرحيل الأبدي..خبر نزل عليه كالصاعقة وهو يقتحم خيمته بعد طول عناء يومي..لم تتلقاه (سعيدة) بابتسامتها المعهودة، لم يرها تخرج من خيمتها لاستقباله، وقطيعه..ولم يرها تفتح باب زريبة الماشية..
يعانقة الكاتب على ايقاع عويل وبكاء، ولهول الفاجعة يهوي أرضا مغشياً عليه وسار الجميع يجر الأقدام إلى حيث يسجى جسد (سعيدة) وعلى صدرها يسجى جسد وليدتيها (نرجس)، و(نسرين) تحت ضوء قنديل باهت معلق بعمود مائل نحوها..في غياب تام لمن أوكلت لهم أمور البلاد، والعباد..
هكذا يرحل البسطاء.!! وهكذا يموت الأبرياء،الأشقياء.!!
وبجانبهم يرثيهم بؤسهم، وشقاؤهم. ويعانقهم تهميشهم، واقصاؤهم..هكذا هي شريعة آلهة الأرض..! وهذا ديدنها..!!
تقدم (سعيد) من جثمان زوجته فقبلها قبلات الوداع الأخير عدة مرات بين عينيها. وبدأ يتأمل وجهها بعيون جاحظة دامعة، وشريط صور لحياتها معه تمر بسرعة..يرثيها..يعدد مناقبها، ودموعه تهطل بغزارة..لقد كانت حياتهما مع بعضهما البعض في الجحيم نعيماً وسعادةً..يستحضر أيامه الجميلة معها حتى جاء رحيلها المفاجىء لما خطفتها يد القدر وتركت( سعيداً) وحيداً بين فجاج هذه الجبال يعيش أبشع صور الشقاء..وبعد أن ينتهي من كلماته التي تقطر حزنا وألما، يضم إلى جناحيه زهرتيه(نرجس)، و(نسرين). فيقضي الجميع ليلة ليلاء ظلماء، طويلة، وحزينة بهذا المكان الذي يعكس بظلامه ما بداخل هذه الأسرة الصغيرة..
ومع بزوغ الصبح يتوجه (سعيد) متثاقلا نحو جهات متباعدة لإشاعة خبر موت زوجته ومستعينا بهم لمساعدته على هذا المصاب، لمواراة زوجته تحت أطباق الثرى.
وبعد زوال هذا اليوم حضر نقر من المشيعين، والمغسلين، والحفارين، ليتشكل بعد ذلك موكب جنائزي رهيب نحو مقبرة هي الأخرى مهملة تتبعهم (نرجس)، و(نسرين) حافيتي القدمين، دامعتي العينين يتبعهما كلبهما الوفي، تارة في مقدمة الموكب، وتارة أخرى خلفهما وهو يتطاول إلى النعش المحمول..
بعد إقفال باب الغرفة الأبدية، وإلى الأبد. ودفنت (سعيدة) بهذه الحفرة، ومعها دُفنت آمال من سُمي (سعيداً) ظلماً، وزوراً. وتفرق المشيعون، وبقيت (نسرين) و(نرجس) واقفتين على قبر أمهما وقوف متهيبات..بعيون دامعة، صامتة. وكلبيهما منبطح بصدره على أرض هامدة..
أما (سعيد) كان منحنياً للحزن. فلمثل( سعيدة) يحق له أن يموت حزناً، و كمداً لأنها قاسمته الرغيف، والبؤس، و الشقاء. وأصبحت الآن كومة من تراب بارد. ولم تكن أبداً سعيدة بل كانت شقيّة تختفي وراء مسوح السّعادة المزيّفة..وأصبحت الخيمة الّتي كانت بالأمس ربع ذكريات أحبّاء موحشة، مزعجة..يعم الصمت المخيف أرجاءها..وهي أحق بالعزاء، وأولى بالمواساة..وأصبح كل ما حولها يذوب كمداً، وينفجر حزنا، وألماً..
وبعد صبح متأخر، وحزين، وبعد طول انتظار عزم الكاتب الرحيل عن هذا الجبل، ويغادر الأسرة بقلب مفجوع وكله حيرة، وقلق شديدين وهو يسائل نفسه إن كان هناك في العالم شقيًٌ أشقى من هؤلاء المعذّبين في أرض خلاء..وهل هناك أحد رحيم، ومنقذ لهؤلاء يحسّ بحالهم، ويعرف مكان تواجدهم.. فإذا بنداء داخلي يجيب عن تساؤلاته ويتردد صداه بين الجبل والوادي فلا وجود لأهل السلطة والجاه، ولا وجود لمن يدعي العظمة والقوة أو من يدعي امتلاك العلم والمعرفة أو من ينكر فضل البؤساء الأشقياء. هذا ما جعل أناس يتعالون على رقاب غيرهم علو هذا الجبل..ولولا ذل الفقراء، واذلالهم ما كانوا يخرون سجدا على أقدام أناس غيرهم كهذه الهضاب والتلال والروابي التي تسجد لهذا الجبل..فإذا به يستيقظ من غفوته، ويصحو من غفلته على إيقاع أصوات، وجلجلة محرّكات تقترب منه تسلك طريقاً وعراً عبر اِلتواءات هذا الوادي نحو القرية حيث المقبرة المهملة. فإذا بهذا الأمر هو موكب جنائزي مهيب، وعظيم. تتقدمه سيّارة رباعيّة الدفع فاخرة تمشي على مهل، تتحاشى صعوبة المسالك، ووعورتها تحمل ناووسا مزخرفا بلون ذهبي مغطّى بثوب حريريّ. ومن ورائها جمهور غفير، يتعثّر بعضهم، ويتساقطون، ويتقدّم البعض، ويتأخّر آخرون، وهم يهلّلون، يكبّرون يتسابقون الى مدينة الأموات.
إنه موكب جنائزي لا كالمواكب المألوفة (هرج، مرج، ضوضاء، تهليل، شعر، انتشار كثيف حول المقبرة، ألبسة بيضاء، أناس كثيرون كسرب نمل، مشهد كأنه يوم البعث أو النشور ).
فالفقيد ليس إلا سيّدهم (ابوضرع): (كبير أعيان القبيلة، وأغنى اغنيائها، أكبر أعيان السلطة، أهم مصدر للمعلومة الموثوقة، وغير الموثوقة، صاحب قول الباطل حقا، والحق باطلا. لا يخالفه أحد في القول صادقاً، أوكاذباً، خاطئاً، أو مخطئاً، ظالماً، أو مظلوماً، يتّصف بالورع، والولاية، و الإيمان..و…و..)
من حول نعشه يتباكون بنفاق. يطالبون بتوسيع قبر سيّدهم متربن طولاً، وعرضه متر..يسكبون العطور على أرض ترابه، وينشرون البخور في جوّ سمائه..ينشغلون بصقل الصّخور والنقش عليها بحروف تناشد من يقف على قبره أن يدعو له بالرحمة، والمغفرة.
مشهد يستحضر ما قاله الشّاعر( أبو العيناء ):
من كان يملك درهمين تعلمت
شفتاه أنواع الكلام فقالاَ
وتقدم الإخوان فاستمعوا له
. ورايته بين الورى مختالاَ
لولا دراهمه التي يزهو بها
. لوجدته في الناس أسوأ حالاَ
إن الغني اذا تكلم مخطئا
. قالوا صدقت وما نطقت محالاَ
اما الفقير إذا تكلم صادقا
. قالوا كذبت وأبطلوا ما قالاَ
إن الدراهم في المواطن كلها
. تكسوا الرجال مهابة وجمالاَ
فهي اللسان لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالاَ
فتأكّد لدى الكاتب أن الدّنيا أسواق يتسوق فيها الإنسان بالذّل، والتّملق، والرّياء، وتعامله فيها أخذ، وعطاء..
الدّنيا:(هباء، بدع، ادعاء، عناء، تعب، بؤس، وشقاء..) فلماذا كلّ هذا الشّقاء مادامت الموت راحة الأشقياء، ومنقذ البؤساء..؟؟ فلماذا هذه المعاناة أبا عن جد لينعم، ويحيا لمن سخرنا الزمان لخدمتهم…؟؟
بعد مراسم الدّفن شكل الجميع دائرة واسعة يدعون اللّه أن يهب (أبا ضرع) قصوراً في الجنّة، ويوسّع له فيها مساحات، جزاء فضله عليهم..ويدعو أحدهم الجميع لحضور طعام الوميضة، فإذا بأسراب المدعوّين تملأ السّرادقات، و الخيام المحاطة بالأضواء، والأعلام..وتغدق المكان بعلب السكر والشّاي..وبأكياس دقيق القمح الممتاز وعبوات الزيت والايدام..وأنواع مختلفة من الذبائح لمعز، وضأن، ولحوم دجاج، وثيران..و..
والنّاس جلوس على الأرائك، متّكييين على النّمارق ينشدون شعراً لا يخلو من نفاق أبداً، ويتناوبون في ترتيل القرآن، والثّناء على الفقيد بصالح الأعمال، والأفعال والإشادة بمناقبه وشرف أصوله الممتدّة الى آل بيت محمد عليه الصلاة، والسّلام..
وبعد ذلك يستديرون حول موائد بها من الطّعام ما لذّ وطاب تحت خيمة لا تشبه خيمة ( سعيد)، و(سعيدة) أبداً..بداً..!!
إن هذا الموقف جعل الكاتب يسائل نفسه بأن الدّنيا هي للاغنياء، كما هي الآخرة لهم أيضاً. وليس فيها مكان للتّعساء الأشقياء إلى أن يستفيق على حقيقة (سعيد) و (سعيدة ) الّتي هي مجرّدة من كلّ زيف وليس فيها من السّعادة إلاّ إسمها كما لم يكن في (نرجس)، و(نسرين) من الزّهور سوى رسمها. فلم يكن لهم مكان في الدّنيا، ولا نحسب أن يكون اللّه ظالما لهم في الآخرة..
فالحياة ليست هكذا بل هي علم، وشرف التّقوى، والأخذ بأيد الأنسانيّة المعذّبة..والأيّام تمرّ، وتذوب الحقائق في الأوهام..فيسمع الكاتب في نفسه عتاب نفسي لطول غيابه وانقطاع زيارته للأسرة الشّقية، ليقف على بقايا الموت بين تلك الرّوابي الخاليّة، ليعانق سجناء الحياة وراء قضبان، لا مرئية شفقةً، ورحمةً بهذه الهياكل الجامدة..إلى أن استوقفه شوق بباب خيمة مشمرة الأطراف، صامدة في وجه قساوة حياة تريد اقتلاع أوتادها، وزحزحة أحجارها، وطي أسرار من سكنوا بداخلها..فتشتت شمل من ملأوا قلب الزمان كرها..وبطون الأيام شراً، وصدور الليالي حقدا، لأنهم لا يريدون علوا في الأرض ولافسادا فيها، ولاظلما، ولاجورا و عنادا..آمنوا بالشرف الرفيع وراء الغنى، والفقر. وبالسعادة أمرا وراء الكوخ، والقصر..فاشعلوا لهيب الغيرة في قلب الدهر وزلزلوا الأرض تحت أقدام من ألفوا الصّيد في الماء العكر..
وجد الكاتب نرجس، ونسرين تجلسان بباب الخيمة شاحبتي الوجه غائرتي العيون يخيم عليهما حزن عميق..
بينما سعيد وحيد بجانبه كلبه الوفي، يمرر يده على ظهره. ومن حوله يدور قطيعه الذي أصبح هزيلا طاوي البطن، لم يجد ما يروي عطشه أو يسد جوعه بأرض جافة، قاحلة..
اقترب الكاتب منهم، ولم يتم استقباله كعادته
أحس الكاتب أنه قصر في حقهم، وتخلى عنهم في محنتهم. فأثناء مصافحة الكاتب لسعيد لم يبال به ولا كلبه الجاثم بقربه أعاره اهتماما. لكن نظرات العتاب، واللوم كانت بادية على عيونهم..شاخصة من نبرات صوتهم..
وأخيراً يفسح الكلب المجال للكاتب ليجلس إزاء سيده ليقدم الكاتب اعتذاراته لسعيد جراء غيابه عنهم ثم يتبادلان حديث الألم وأنين الأوجاع. وعلم الكاتب أن الجرح لم يندمل بعدُ..وأن الحزن لا يزال يذيب القلوب..ويمزق لفائف الكبد..
كان الكاتب يحترم مواقفهم، ويتعاطف مع أوضاعهم، و يحس بأحاسيسهم رغم محاولة استعطاف قلوبهم أحيانا وأحيانا أخرى مقدّراً لظروفهم القاسية. وهو يسأل عن أحوالهم رغم أنها بادية على محيّاهم..
تقف نرجس وهي غاضبة، وتنفجر حزناً وألماً لِمَا أصابهم حيث جفت عيونهم من الدمع، ونفذ صبرهم. وتوجهت إلى الكاتب وكأنها تلتمس منه دعمهم في هذه الظروف الصعبة جدا. ثم عانقت أختها نسرين بحرقة شديدة، وهما يسيران نحو الخيمة في جو بارد وبلباس لا يقيهم زمهرير الشتاء. و كلبهما على اثرهما يسير..وبقي الكاتب، وسعيد ومن حولهما القطيع يدور حولهما وهما يتبادلان في صمت الآهات، والزفرات، والنظرات الصامتة..
حاول الكاتب كسر هذا الجمود فربّث على كتف(سعيد) وبدأ في مواساته بأن يرحم نفسه لأن هذا هو حال الدنيا التي هي إلى زوال، وإلى فناء حتمي..وأنها لا تساوي أي شيء. وفي أعماقهما تثور أمواج من الحزن العميق..ف(سعيد) لن يجد ل(سعيدة ) بديلا بل أصبح يرى بأن الحياة خدعة دنيوية تستدرج الإنسان المحب لها إلى نهاية مؤلمة. وتقوده إلى موت مأساوي لا مفر منه. فتضحك الحياة من غروره وسذاجته، وهي تلقي به في حفرة الموت ليكون عبرة لغيره وآية لمن يمشون على الأرض الخيلاء، ويبنون القصور على الثلوج. لكنهم بداخلها غرباء ينتظرون دورهم الآتي..
يعترف سعيد لصديقه الكاتب بأنه لن بستطيع مواساته وعزائه أو إقناعه بحب هذه الدنيا. ولن يستطيع أبدا أن ينخدع بمكرها، وغدرها، وسخريتها. يجري الناس فيها طمعا وجشعا، وجهلا بحقائق الأمور. لكنه نادم وبعد فوات الأوان أنه لم يؤمن بالعلم الذي عرّفتهُ به الأيام، والليالي. لكن بعد فوات الأوان. ويتمنى أنه لو كان حكيما عبقريا، أو قياديا بطلا..
يعيش يومه كأنه نسخة لأمسه، وغده كأنه نسخة ليومه يعيش أياما مكرورة، ومعادة سجينا بين هذه الروابي المحروسة بالتقاليد البالية مطوقين بأسلاك شائكة، وأسوار عالية وعيونهم تتطلع إلى الحرية و هم مثقلين بأفكار مصيرية في هذه الحياة حيث يقتات غيرهم من معاناتهم وتجثو على صدورهم ساديتهم، ولن تنجيهم توبتهم.. أو ندمهم..
وفي سبيل رعاية أسرته سهر الليالي، وأنفق قوته، وأيامه لأجلهم..ومن أجل قطيعه وزوجته وابنتيه، جهود لم تشفع له ليعيش سعيدا..بل جعلته يفكر في مغادرة هذه الروابي و تركها وهذا الجبل لغيره وبما في ذلك المقبرة المهملة التي دفن فيها كل شيء ويتولى أمر هذا المكان ابو ضرع لحراسته الى الأبد لكن يتراجع وبداخله قوة الارتباط بالمكان حتى إلى أن ترتفع هذه الروابي من سجودها وتتمرد ضد الظلم وضد القهر. وأن ترفع الرؤوس في وجه الظالم الذي أخلف الوعد، وسرق الود فلن يرحل حتى يرى الوديان تتحرك في كل اتجاه نحو السهول الجرداء، ترويها و الحقول القاحلة تسقيها لعلها تنبت رحمة وشفقة، سلاما، و مودة.. ليعود فصل الربيع مزهوا بأنواره ثم تقوم سعيدة من مرقدها وتنبعث في أجمل الحلل لتسكب في اكواب السعادة للمتعطشين نخب الانعتاق، والحرية..
ويحا لك أيتها الأيام بشرك وشرورك..!اِذهبي وزمنك الرديء بقحطه، وجفافه، وهوانه لأسياده، وعبوديته، بعد هدوء لم يدم طوءسيلا ينفجر سعيد صد أحكام الطبيعة الجائرة قائلا :بانه لا يمكن ان يكون الشر طريق الخير ، و الموت وظيفية للحياة ويتمنى ان يعمر طويلا ليرى سعيدة وهي تنبعث امراة حديدية ثائرة ضد البشرية الظالمة الجاهلة..لكن يقتنع بانها لن تعود ابدا لتنجب نرجسا ونسرينا مرة ثانية فتجد لهما عرسانا، وشجعانا ما أبعد تحقيق ذلك..سيطول الانتظار..ويدب فيه الملل..يريد المو.ت عاجلا لأن الندم، واليأس سيعذبانه، ولا حياة لهذه الربوع مادام أهلها يستكينون للعبودية، ولشظف العيش بدون مقابل..لا يريد أن يكون وطنه هباء، والديمقراطية رياء، والحرية ادعاء..
يربث الكاتب على كتف سعيد مهدئا له من روعه المختزن في صدره لسنين خلت..وهو يستفسره لمن سيترك ابنتيه (زهرتيه )وهما في حاجة إليه، ولعطفه حتى يزفهما ليد آمنة تعطف عليهما…لكن سعيد يخاف عليهما من غدر الزمان خوف كل أب يزفهما خادمات، وسبايا، وعبيدات لآلهة الأرض وزبانية الشر، والفساد. فيُقدّمن طعمةً للحيتان الجائعة، ولقمةً للتماسيح الغادرة، وقرباناً للأصنام الجامدة..
فيرى الموت أهون، من رؤيته لهن يتعذبن بين أحضان ذوي الملابس الخشنة..وستكون خسارته أعظم..وندمه أوجع..
فيوصي صديقه إن مات قبله بأن يقف على قبره في خشوع فستعانقه روحه..وكله امل في ان يعانق روحه روح حبيبته(زوجته) اّلتي أشربته حنان صدرها، وأن ينقش على قبره: هنا دُفنت آمالُ، وأفراحُ ذلك الرّجل الّذي قصّر في حبّ حبيبته، وتهاون في حقّ فلذتي كبده. مهما أوفى خدمةً لأرضه، بزراعتها بأشجارٍ مثمرة. وأن تكون كلماتك عبرة لمن هو مثلي، ونصيحة لمن هم لجهنم حطبا. والتمس منه أن يدعو له عسى الله أن يغفر له ويرحمه..
ثم نهض( سعيد)، واستعان بعصاه، واتّجه إلى خيمته غاضباً فاقتلع أوتادها، وطوى أطمارها وسار بقطيعه إلى أسواق الجزارين، ليسفكوا دماءها..ثم طاف حول معالم خيمته، وهو يقبلها قبلات وداع أخير. وجلس وراء موقد نار (سعيدة) يبكيها ويحكي للملإ صور ذكرياته الأليمة. ثم ضمّ فلذتيه إلى صدره، واتّجه على متن عربة مجرورة نحو المدينة، لينزل براحلتة في أطرافها يحسبها أرض خلاء، و أرض الله واسعة..لكن لم يمض من الوقت إلا قليلا فإذا بحراس المدينة يقفون بباب خيمته ينادونه بالرحيل وبدأ سعيد يقلب وجهه في السماء، فبدأ رحلة جديدة مع الحياة القاسية، وهو يلعن السياسة، والسياسيين، والحاكمين، و المتحكمين، ودعاة الوطنية، والوطنيين. وسار يبحث عن وجهة لا تكون مملوكة لهم، ولا محروسة من طرف عبيدهم ليضرب خيمته دون منازع..لكن هيهات فكل الأرض بأطراف المدينة هي لآلهة الأرض لم يبقو منها لإلاه السماء شبراً يهبه للضعفاء..فإذا بالذي أكرم اليتيم، وهدى الضال يبعث له بفاعل خير من أفراد الجالية الذي عاش كل عمره مغتربا بأرض لم تمنحه أي شيء، سوى ما قدمه بعرق جبينه. عاد لا يملك شيئاً..إلا ما ملكت يداه بلا صاحبة وبلا بنين فانضمّ إلى صفوف الأشقياء ليقضي عمره بهذا الوطن الذي هجره صغيرا..فكم حنّ إلى الرجوع إليه منذ عشرات السنين إلى أن صار شيخا..وأمله أن يقضي بقية عمره بين ربوعه مطمئنا، يستنشق هواءه، ويتغذى من ترابه، ويشرب ماءه
وأمله الوحيد أن يدفن بأرض وطن ولد على ترابه..ذاك ما بقي له من أحلام..لكن الأقدار بيد الله ماشاء فعل..حيث يعرض رجل على سعيد أرضا شاسعة يخدمها ويأكل مما تجود به عليه من رزق. وسكن واسع يأويه وزهرتيه (نرجس)، و(نسرين) اللتين لم يترك فيها الزمن الرديء من فصيلة الزهور سوى اِسما بلا مسمى، وبلاعبق..وبلا أريج أيضاً.. فنرجس تبدو أكبر من سنها، نشيطة، رشيقة، وجميلة أنيقة. تعشقها العيون، وتحبها القلوب، وتتخطفها مخالب الصقور لتصبح خادمة في( فيلا) ولي نعمتها..ولم تشفع لها طفولتها من اِستغلالها، خانعة، طائعة..لتتحول إلى أصغر عروس قاصرة لم تهيىء لها أمها جهاز عرسها..ولم يمهلهالكن كانت نرجس بجانب شيخ الموت لتسير في موكب زفافها باستثناء أختها نسرين التي مشت الهوينا بجانبها. تشد ازرها نيابة عنها، وهي تصطنع الفرح. أما والدها فهو الآخر كان يمشي منحني الرأس مثقل بالهموم، ومنهك بالأحزان. أفنته مصائب الدنيا..أما الكلب الوفيّ فظلّ يجوب أطراف البيت، ويملأه نباحاً على غير عادته لِهَمٍّ يهمّه..ومن الغريب أن يزفّ الرّبيع زهرة (نرجس) إلى الخريف ليجرّدها من عبقها، ومن جمالها..ومن العجب كذلك هو اغتصاب الإنسان لطفولة نرجس الصغيرة..البريئة..
هكذا ينتهك الزمان الرديء بحوافر الشرائع البشرية ما يسمونه حقوق الطفولة. وتستسلم الطفولة للشيخوخة بذلّ وهوان. هكذا نرى زهرة النّرجس تنكمش، تلوى عنقها بلا عبير، وبلا رائحة لتجلب إليها النحل، والطيور. كما لم تجلب الزغاريد الفرحة للعروس، وتشفي قلبها العليل، ولا وفر لها الراقص السعادة.. لكن كانت نرجس بجانب شيخ ينتمي لزمن غابر كدمية على مائدة أثرية..في متحف من المتاحف التاريخية..فكان محسن العريس يضع خاتم العروس في بنصر (نرجس) ويتبث التاج على رأسها المثقل بالهموم، وهو يميل إليها متمتما بكلمات في أذنها ثم يرفع كفيه إلى السماء فهي ليست سوى كلمات تضرع ليهب له الله ولداً يرثه..ولمّا سمعت (نرجس) بذلك انفجرت بكاءً خوفاً من أن يغدر بها الزمن بمثل ما فعل بأمّها. فعلّمتها الحياة ألاّ تأمن غدر الأقدار، وألاّ تنخدع بعهود الأزمان.بقية عمره فهي لا ترغبُ في وارثٍ لإرثِ أبيه، ولا وارثة لشقاءِ أمّها..
تمرّ الأيّام في لحظات، وقد تمر ألفُ سنة لكنّها عند ربّنا كيوم واحد..وتبقى الحياة تجر وراءها سلسلةً من الأحداث والكوارث..و تنتظر عمر الإنسان مفاجآت يكشفها الزمن ويبقى دوما مهددا إلى أن تغادر الأجساد هذه الحياة..وتنتقل من ظهر الأرض إلى باطنها ويمحي التراب معالمها وهو أمر سيتحول إليه (سعيد) بعد أن وهن عظمه وخارت قواه بأقدام مثقلة بقيود السنين، يخطو بخطى سريعة نحو فنائه ويعد بقية أيامه فيولي وجهه للشمس طلبا لدفئها صباحا، ويستظل من حرها زوالا. يقضي يومه وحيدا وبجانبه كلبه الوفي، صديق شبابه. وشيخوخته ومؤنس وحشته. فيتبعه كلبه الوفي أينما حل، وارتحل في نهاره وفي ليله..وعندما يجلس ينبطح قبالته محركاً ذيله وهو ينظر اليه بعيون جاحظة كأنّه يحسّ بما يحسّ به (سعيد) من ألم دفين. وكلما غابت شمس يوم يحس بانتزاع ورقة من حياته..وقد كانت نسرين هي الأخرى تملا حياته فهي زهرة بستان شبابه، وعصفورة جنان حياته فهي تتلمس أوجاعه، وتمسح من على جبينه أثر الحمى، فتلامس أصابع يديه، ورجليه وتُدني الطّعام من فمه، وجرعة الماء من شفتيه، ليروي عطشه ويسد جوعه..وتقدم له حبة الأسبيرين بأصابع مرتجفة لتسكين ألمه إلى أن يموت (سعيدا) شقياً بتعب كلّه حياة..
غربت الشّمس، وأظلم اللّيل، وسكن كلّ شيء كما هي الحياة منذ آلاف السّنين..واقتحم النّوم ساحة اليقظة بجيوش كوابيسه فيحتلّ المضاجع في القصور المشيّدة والبيوت المصدّعة والخيّام المرتّقة والأكواخ المتهالكة..وفي العراء..وفي كل مكان على الارض الخلاء فيجعل الأحلام تتقدم خلية لتستولي على الأجفان، وتحتل مواطن اليقظة. وكان سعيد يعاني الالم، ويقاوم الوجع، يطارد الكوابيس والأوهام تحت جنح الظلام، ويصارع سكرات الموت..
في صمت أسرعت إليه( نسرين )المرهفة بعد سماع أناته فأشعلت شمعة وعلى ضوئها الباهت رأت وجهاً شاحباً وعينين شاخصتين إلى الأفق البعيد..فيتناول يدها بلطف ويقبض عليها بأصابع جامدة، باردة..كمن يتلمس من الموت أن يمهله ليهمس في أذن نسرين فيوصيها بحقيقة الحياة. لكن الموت رفض وترك الزمان لينوب عنه في هذه الوصيية. وعيونه تفيض دموعاً على خده فتسيل على راحة (نسرين) وهو يعلل سبب بكائه الذي هو حزن على فراقها، وشوقاً للقاء أمّها، وهو يسمع صوتها من وراء سجف ضبابية، في أجمل صورة لها كما كانا طفلين يسابقان ظلّهما على هذه الرّوابي الخضراء، وهما يعانقان بعضهما البعض على بساط الربيع، المزين بأزهار النسرين، والنرجس..اعجابا بهذه الزهور وجمعها باقات مهداة لبعضهما البعض لذلك تمت تسمية البنتين بهاتين الزهرتين( نرجس، نسرين). وقد كان سعيد وسعيدة سعيدين جنبا إلى جنب. وكانت الطبيعة تبارك لهما هذا الحب..فها هو الآن يشتاق إلى أمها أكثر ويحس بطول أمد الفراق فلم يطق صبراً. ونسرين تسمع له بإرهاف، وكلماته تتسارع على لسانه بمعية ابتسامة ظلت لسنين حبيسة صدره، فأفرج عنها اليوم بعد رحيل العمر، ونفاذ الصبر. فظهرت(سعيدة) في أفق ذكرياته فحسبت نسرين أن الأمر هو بشارة خير بشفائه..لكن سرعان ما أطبق (سعيد) جفنيه عن صور تلك الذكريات الجميلة، وعن حلمه الذي يجمعه بشريكة حياته. وهو يستعد للرحيل ويستعجل السفر لمعانقة حبيبته الغالية. ثم سرعان ما يهدأ وتظنه (نسربن) قد شفي من ألمه لكن لا يلبث إلا قليلا فيعود لوضعه..
لقد سمح الموت له بالرجوع ليودع الوداع الأخير فلذة كبده، لكن هذه المرة مكتفيا برمش من جفنيه الذابلتين..ولم تستطع نسرين أن توقظه من نومه الأبدي. أو تعطل إقلاع طائرته نحو السماء، حيث تقف سعيدة على رصيف المحطة في انتظاره..ثم سجي سعيد في مرقده، وتصدعت أركان البيت وتداعى سكون الليل على صرخات نسرين، فلم يتحاوب معها أحد إلا كلبها بنباح مسترسل على غير عادته.. امر قض مضجع نرجس، لتهب مسرعة تسبق درج السلم بخطوات عشوائية. فتزل القدم بها فتسقط أرضا فسارت تجر أخرى لترتمي على صدر والدها مضجرة بالدماء..ليس من قدمها، أو خدش في جسدها، أو كسر في في ساقها، بل هو من نزيف داخل بطنها.
لقد اجهضت نرجس ومن هول الصدمة أسقطت جنينها كما أسقطت من قبل أخت لها غضة من رحم أمها ربما يكون حدس نرجس أخبرها بذلك منذ ليلة عرسها الأولى بما سيحدث لها ذات يوم..
بعد بزوغ الفجر كانت نرجس بين أيدي أطباء يحاولون انقاذها قبل الأوان وفي جهة أخرى كان جسد (سعيد) ييتقلب بين أيدي مُغسّلينَ، ومُكفّنينَ..
من مدينة الأحياء إلى مدينة الأموات يتجه الموكب الجنائزي نحو المقبرة تتبعه نسرين مطأطئة الراس وراءها كلبها كعادته يتطلع إلى النعش بعينين دامعتين ولسان حاله كأنه يعبر عن عن ما بصدره من أحزان..وبعد زمن قصير اختفى (سعيد) عن الأبصار. دُفن تحت التراب، وأصبح عبارة عن كومة من التراب، بعدها سيصير غباراً ورميمَ رفات..وسيبقى مجرد ذكرى كما هي سعيدة من قبله على أرشيف الذكريات القاسية الأليمة..
ثم قفل المشيعون راجعين، بعد دفن (سعيد). وقد تناسوه كما يتناسون عودتهم إلى هذه المقبرة، مشيعين أو مشيعين، أحياء، أو أموات..دون أن يقف بينهم واقف يدعوهم إلى وميضة العزاء على غرار (أبي ضرع). ولم يبق بجانب القبر إلا ذاك الكلب الوفي منبطحا على صدره يبصبص بذيله معبرا عن حزنه، ومجددا الوفاء لسيد ولم يبق واقفا على القبر غير نسرين تروي التربة بدموعها..وتدعو له بالرحمة و بالمغفرة..وبينهما وقف الكاتب متأملا هذه الدنيا العادية وقيمتها. فما رأى سوى أنّها مسرح يعكس كل مظاهر الرّياء والناس فيها سوى كراكيز، تتمايل على الخشبة وكأنهم رسوم متحركة على الشاشة متفرجين، واقفين، جالسين، يرقصون، يصفقون إلى حين ينهكهم التعب، ويغلبهم النوم فيغادرون إلى حال سبيلهم ثقالا، وخفافا وهم لا يشعرون..
وقبل الغروب غادر الكاتب ونسرين مدينة الأموات إلى مدينة الأحياء الصاخبة وهم يتركون قبر (سعيد) في اتجاه المستشفى مسرعين لتفقد حالة المريضة. فوجدوا (نرجس) على سريرها وهي في غيبوبة ومن يدري أن روحها في زيارة لوالديها. على مقربة منها وجدوا محسنا رفيق عمرها متكئا على طرف السرير واقفا كصنم منحوت جامدا صامتا من هول الصدمة. وإلى جانبه وقف الجميع في انتظار عودة سفينة الغيبوبة التي تجوب (بنرجس) عالماً آخر مجهول. حيث ستلتقي هنا بمن هم أعز لديها..
فهل سيمهلها الموت لتآنس أختها ولو لأيام قلائل تحمل معها وزر الحياة..؟ أم سيشدها الشوق، والحنين بوالديها فتبقى هناك، وتترك نسرين تواجه مآسيها، ومعاناتها لوحدنا..وتتخلى عنها وعن كلبها، وزوجها وعن الحياة كلها وترحل إلى الأبد، وتغادر الأرض التي جاءوا إليها إلا ليذوقوا طعم الشّقاء، والبؤس، والظلم، والضياع..
من المقبرة إلى المستشفى ومنه إلى المسكن الهادئ حيث تسيطر عليه الوحشة، والظلمة، والأحزان..وبأركانه، ملل، و اكتآب..وتذكر الكاتب أن بهذا المجلس كان يجلس، وصديقه (سعيد )الذي كان يستقبل الشمس، ويودعها..فيمسح دموعا تنهمر بغزارة من عيون مجروحة على خدي نسرين، كحمم بركانية. دموع وافرة كانت تختزنها لمثل هذا اليوم. ولم تسكبها لتطفئ حرائق الأحزان، وتخمد لواعج نيران الحرمان. وبراحة الكاتب الأخرى كان يمسح على راس كلبها المنبطح إزاءهما منطوياً على نفسه متامّلاً كلّ حركة في صمت، وبعيون مغرورقة…
كان الليل طويلا وهم في حضرة شمعة تذوب تُقاوم الظّلام وتحترق في صمت قاتل. وعلى هذا الضّوء الباهت كان الجميع يغالب النّوم، والأرق في انتظار طلوع فجر يوم جديد تأّخر كثيراً..يرى الكاتب فيه أشباح الشقاء تعانق الأشقياء، وتقضّ مضاجع البؤساء..يوم يتنكر ءفيه الإنسان لفضل أخيه في غياب الضمير الإنساني، وفقدان الوعي الاجتماعي فيعم جور الجائرين فتبقى الحياة عملة بدون قيمة فيها يعيش الشرفاء السأم، والضجر..حتى يكرهوا المقام فوق الأرض..فإما يهجّرون، أو يهاجرون، يقتلون أو يقاتلون، أو يزهدوا في الحياة، ومتاعها..ثم يرتمون في أحضان الموت الذي هو منقذهم من العذاب. وفي الآخرة تتوقف رحلتهم، ويتم اللقاء، وتبدأ الرحلة مع حياة جديدة بين يدي عادل، وماهو بظلام للعبيد..
مع مطلع الشمس وباطلالتها الكئيبة من وراء جبل مترفع على هضاب متواضعة حيث يبسط ظله، وقوته على محيطها، ويسلط قهره، وظلمه على القريب، والبعيد..وبين منعرجات المكان سار الكاتب، و(نسرين)مسرعين نحو المستشفى وكلهم أمل في أن يسمعوا خبرا عن نرجس لكن أملهم توقف عند باب غرفة علاجها حيث وجدوا اليأس يفصل الكفن و(محسن) يسند رأسه إلى زنديه مطرقا إلى الأرض بعيون دامعة، وهو يقول: لقد قطف القدر زهرة النرجس، واستنشق الموت عبيرها. حاول الكاتب إمساك ذراع (نسرين) التي سقطت أرضاً مغمى عليها كثمرة تساقطت قبل نضجها من فعل عاصفة هزت غصنها الهزيل..وبقيت (نسرين) وحيدة في عالمها كمن فاتها قطار الموت وبقيت في العراء بمحطة البؤس، والشقاء. وكأنها بقاعة الانتظار لقطار مرتقب قد يصل بعد حين..
كان الكاتب يضمها إلى حنان صدره، وهي منهكة خوفا من أن تلفظ أنفاسها الأخيرة وهما يسيران وراء نعش (نرجس) بأقدام مثقلة، وعيون دامعة وجوانح مكسورة في موكب رهيب إلى غرفتها الأبدية، بجوار والدها.. هنا كان بصر الكاتب حديد يرى ما لا يراه غيره : أشباح الموت، البؤس، الشقاء، الحرمان، مجتمعين يرقصون، يتراقصون..ويرى الدنيا كأنهاعجوز شمطاء، منهكة غير مهتمة بشيء..أو كدولة يتداولها الحكام على المناصب..أو ككرة تتلاعب بها الأقدام في الملاعب..أو عملة يتداولها التّجار في الأسواق..أو كبغية يرتمي في أحضانها العشاق..
وقبل أن يلقي الغروب وشاحة على الأرض، ويخفي فساد مفسدين كان الليل يهزم روح نرجس لتطرق باب قبر أبيها في الظلام لتدخل إليه بشوق..فلاريب أنه كان في انتظارها لمعانقة روحها ويضمها إليه بحنان كأعز ضيف، عند أعز مضيف تحت أطباق الثرى مستعجلا الرقي بروحها على متن سفينة حنان إلى السماء حيث روح أمها في جنات النعيم..
لو عرف الأشقياء، البؤساء مقامهم الجميل هناك لما بقوا في الدّنيا ولفرّوا منها. كما لو كان في مقدور الأغنياء نقل أموالهم إلى هناك لاشتروا الفردوس، والنعيم..ولألقُوا بالفقراء في الجحيم. ولما فسحوا المجال لغيرهم للموت هناك..ولا يتركون لهم مكانا في المقابر إلاّ واشتروه بكلّ مايملكون ويلقون بأجساد غيرهم إلى المزابل، فتصبح الكلمة في الدّنيا للأغنياء، والآخرة لهم أيضا..ولا مكان هنا أو هناك للضّعفاء، الفقراء..الأشقياء، البؤساء..
عندما كان الكاتب يتأمّل في الدّنيا بخياله كان يرى منغصاتها، وكلّما توغّل في أعماقها كالضّائع التّائه يهيم كالمجنون في متاهاتها، ومغرياتها..فيعيد البصر مرتين نحو العوالم الأخرى، ويطوف على أجنحة الموت حيث يجتمع مع أطرافها الأحباء، والأصدقاء، والخلان، والأهل، الأبناء، والآباء..وكأنّه يراهم يجلسون على الأرائك في جنات النعيم..فيستهويه منظرهم الجميل، حتى عاد يكره الدنيا، و مقامه بها كالغريب..ويسأم تكاليفها، ويملّ من بقائه في هذا العالم كالسجين..فيحب الرحيل إلى عالم يحكمه عادل حكيم اِسمه الله..هذا العالم الذي يتطلع إليه البؤساء، التّعساء بشوق، راغبين في الانتقال إليه غير نادمين..بالمقابل يرى مخالفيه بدوام الدنيا، والآخرة لهم لا لغيرهم، ولا مكان فيها للبؤساء، الأشقياء..
وبعد تعب يعود من جولته في عوالم التيه، والخيال على متن مركبة الأحلام..فتقف به على قاعدة اليقظة في عوالم الحقيقة فيجد (سعيدا)، و(نرجسا) عبارة عن كومة من تراب بارد، وجامد..يرقدان جنباً إلى جنبٍ..وليس للحياة مكان بينهما..وقف الإثنين وبينهما نسرين، رافعين أكف الضراعة إلى الله أن يرحم ساكني القبرين..ثم ترحل نرجس تلك الزهرة الذابلة فتنزل كقطرة غيث صافية بتربة طيبة..حيث تنمو من جديد زهرة يانعة في جنان الخلد تحت رعاية راع أمين، وعناية رحمان رحيم..كما رحلت من قبلها (سعيدة)، و(سعيد )فراراّ بسعادتها من شقاء الدنيا إلى متاع، ودوام الآخرة، وبقائها..وعلى إيقاع صمت القبور، ورهبة الموت أسالو دمعاً قليلاٍ رغم حرمانهم من الدنيا، ومتاعها..وبعد ذلك غادروا عالم الأموات عائدين إلى الغرفة المظلمة..حيث ستقيم (نسرين) وحيدة، منفردة في”الفيلا” الجميلة الواسعة التي أصبحت موحشة، خالية إلا من أشباح الذكريات المزعجة..وهي لا تختلف عن الحفرة الضيقة المسماة الغرفة الأبدية..هنا ستستقر نسرين في مقر سُمي (قبر الحياة ) وهناك ترقد نرجس في حفرتها المسماة (حضن الموت الضيق ). وهنا يواصل محسن إحسانه، واحتضانه لنسرين كإبنته والتي هي بدورها تعتني به كأبيها..في انتظار عودة قطار الموت فيأذن الرحيل بفراقهما..وهنا حاول الكاتب تركهما لوحشتهما وكآبتهما، وهمّ بالمغادرة ككل مرة عندما يضيق صدره، ويشتد حزنه..ولم يستطع كبح صبره عندما وجد ثالث الاثنين، كلبهما الذي اصبح هزيلا جائعاً، أليماً موجعاً، يمشي وراءه وهو يودعه بنظرات كمن يدعوه للعودة للبيت عساه يجد له مايسد رمقه، ويروي عطشه، ويخفف من ألم أهله، ولو لوقت قصير..وارضاءً له وعطفاً عليه عاد يتبع خطواته و هو يمشي أمامه يتوقف بين خطوة، وأخرى ثم يلتفت إليه إن كان يتبعه..وإلى باب غرفة (نسرين) حيث كانت منكبة على وجهها غارقة في دموعها، وألمها هناك انبطح الكلب لاهثاً أمامها يلطع لعابه..وفهم أنّه جائعٌ، مريضٌ وحزينٌ، لا يختلف وأحوال الإنسان..][ فحمل بعض الأكل، والشراب لكنه رفض وواصل ينظر إلى نسرين، ويتطلع إليها بعينين جاحظتين.. لترحم نفسها من الجوع، والضمأ وتكف عن البكاء..وكان يقرأ في حركات جفونه كلمات شكر يرسلها تباعا..ثم مسح على رأسه متجاوبا معه بلغة عينيه، وهو يقول له من أعماق قلبه: لا شكر على واجب أيها الصديق الوفي..حينئذ تقدم نحو صحنه يلغُ ما فيه بنهم..وقد وقع هذا بعد عودته من المقبرة التي يخيم عليها سكون الموت وهدوء الوحشة..إلى المسكن المظلم الخالي الذي يملأه الحزن ويعمه الشفاء..ثم توجه نحو مدينة الأحياء حيث الضوضاء، والصراع على أشده بين الأقوياء، والضعفاء و الاغنياء، والفقراء بين الحياة، والموت من أجل البقاء..
ولم يكن يريب الكاتب هذا الصراع من أجل البقاء، وعرض الدنيا بل ما يهمهه من اسندت لهم الأمور، وهم ليسوا أهلا لها، وغير قادرين على تدبير الأمور، وشأن المتصارعين ولا من يعانون من ويلاتهم لأنهم مجرد أوراق انتخابية فقط..لا تسمن ولا تغني من جوع بل حقيقتها خدع ملفوفة بالأكاذيب، ووعود سرعان ما يظهر زيفها..ولم يجد البؤساء من هذا الواقع وهم في زوايا النسيان من طريق غير الموت لأنه منقذهم مما يجدونه من استغلال لضعفهم في المدن، و القرى جراء ما ارتكبوه في حق أنفسهم، وفي حق الأجيال بجهلهم، وطمعهم، وسذاجتهم وغبائهم، وجهل الظالمين المتسلطين عليهم، والذين لا يتقون الله في أنفسهم التي يحملونها ثقل ما رفضت الأرض، والجبال حمله..فحملوه كالحمير يحملون أسفاراً، وهم مغترين بأنفسهم أكثر من الجبال طولا، وأوسع من الأرض عرضا.. وحقبقة امرهم انهم جاهلون ظالمون اغبياء يحسبون الظلم و الفياد علوا فب الأرض ورقيا، وازدهارا في الدنيا وفي الآخرة لهم الثواب الأكبر..لكن مصيرهم أقسى وعاقبتهم جهنم..وحسابهم عند ربهم عسيرا..وهل يضنون أن مكانتهم على الكراسي الوثيرة، والقصور المكيفة، والقبب البرلمانية المريحة تشبه الجلوس علي الأرائك في جنات النعيم، والفردوس العظيم.. لكن جلوسهم أصغر على مقاعد من نار في الجحيم..ليتهم عرفوا الحقيقة لما كانوا من شر الدواب عند الله لكنهم كانوا جاهلين، ومتجاهاين حتى جاءهم اليقين، ويحاسبون..
ولم تكن (نسرين) إلا ضحية من ضحاياهم الكثيرين.. وبقيت كورقة خريف ضائعة تتلاعب بها الرياح، ولا أحد يتذكرها إلا كورقة انتخابية منتهية الصلاحية إلى أجل..ولا منفعة منها..ولم يسلم الكاتب من تأنيب ضميره ومن عتاب نفسي عن كل معروف مقدم لهؤلاء الأشقياء منذ أن ارتبط بهم ارتباط عاطفي انساني وليس ارتباط سياسي، انتخابي. إنه ارتباط بدون فائدة لأن هؤلاء الأشقياء لم يستفيدوا من بكائه على معاناتهم شيئا، أومن حزنه على مآسيهم ردّ عنهم شراً..
رغم ذلك فإن الضمير يربط هذه المسؤولية بالمحاسبة من أحل انقاذ (نسرين) وفاء للصداقة، وحبا للوفاء خوفا من مساءلة الله و6 يوم بماذا قدمت لهذه الأسرة ولِ (نسرين) البريئة كما سيسأل المسؤولون تجاهها لأن كل صغيرة.وكل كبيرة إلا وهي في كتاب، ويلقاها عند ربه منشورة..
وقد فاتح الكاتب السيد محسن شريكه في المهمة في أمر (نسرين) لإنقاذها..ولم يخالفه الرأي في. شأنها..فأصبحت ال((__ضرورة تدعونانهما لإخراجها من عزلتها، لترسم طريقاً في الأفق لمستقبلها..فلقد كان محسنٌ، محسناً..فتعهد بتكفلها مادام حيا، وأن يهب لها كل ممتلكاته بعد وفاته، ابتغاء مرضاة الله..وباشر الكاتب انزال الفكرة على أرض الواقع وسار ب (نرين ) إلى إحدى المدارس التكوينية وتم توجيهها من قبل اللجنة المكلفة إلى مجال الصحة، و الرعاية الاجتماعية..لأنه مجال يناسبها*؟ وتتبع مسارها. وكانت لها رغبة جامحة في تمواصلة تكوينها، ولها رغبة في الاندماج بمجتمعها هروباً من وحدتها.. فاخبرته ذات يوم عن فرحتها لمرافقة لجنة التكوين لها كمولدة، ومسعفة اجتماعية..ولن يتطلب الأمر وقتا طويلا للتخرج، والحصول على شهادتها..وزادتها موافقة الكاتب تشجيعا على مواصلة التكوين في هذا المسار الأنسب لها للخروج من دائرة الحزن، والبؤس، والشقاء، والحرمان..
تنظر نسرين الى الكاتب نظرة مشرقة وهي تقول له كم تأسفت على أيام العمر التي مضت..لوكنت وجدت من يأخذ بيدي ما ضاع مني أبي، وأمي، وأختي..وما كان التشرد يجعلني أفكر في الانتحار هروبا من قساوة الحياة..فيرى الكاتب دمعة الأسف تسيل من عينيها..
وبعد أيام قليلة تخرجت (نسرين)، وحصلت على شهادتها التي أثبتت وجودها، وتمكنها من العمل، واتخذت من “الفيلا” الموهوبة لها عيادة لإسعاف الأمهات، وتوليد الحوامل، وأنقاذ المعسرات..ولمّا كان الكاتب يحضر حفل التخرج، وافتتاح المقر الجديد كانت نسرين تتناول كلمتها المؤثرة وسط حضور مكثف أنساها ماضيها الأليم وهي تقف بين الكاتب والسيد محسن تقول :
إن المرء إذا اراد فإن القدر يستجيب له بكل ثقة..فلابد من مواجهة الزمن بشجاعة، والتعامل بصدق مع المجتمع..و قالت بأن أباها مات و ماتت أمها وأختها وحسبت ان ذلك هو نهاية العالم..ولم يكن لها أخ، لكن رزقها الله أخا أكبر ومات أبوها ووهبها اللّه اباً روحيا.. فموت امها هو سبب مغادرة قرية نماةفبها شقاؤها فانحدرت الى الندينة ووجدت سعادتها فطلبت من الجميع المساعدة على شكر هذا الأخ، وهذا الأب..انقذوها من الضياع وحملوا معها هموم الحياة ووقفوا بجانبها في كل ما أصابها
فكانوا نعم الملاذ، وأحسن الماوى..وعاهدت نفسها أن تظل تذكر فضلهما عليها وسيكون عملها أجرا خالصاً، وصدقة جارية لمن ماتوا من أجلها أشقياء، ولمن وقفوا بجانبها تعاطفاً..ثم تناولت يد الكاتب، ويد محسن تقبلانهما، وعيون الفرح تسقط من عيني محسن..فأحسا على أنهما أديا واجبهما في هذه الحياة..فكان المشهد مؤثرا، وعاطفيا فوقف الحضور متدافعين من أجل معانقة (نسرين) وتهنئتها، وتهنئة كل من يدعمها..فرأى الكاتب السعادة ترفرف في القاعة تنثر الورود، وراى عمل الخير في تربة طينية ينبت خيراً..
وبعد مرور الأيّام دعت( نسرين )الكاتب لزيارة قبر أمها للترحم عليها..فإذا كل الطرق الصعبة، والمسالك الوعرة عبر الوادي، وعبر الهضاب، والروابي التي تنتهي إلى المقبرة كلها معبدة..وعند باب الضريح، ومدفن الولي الصالح ما يسمونهم سيدهم (أبي ضرع). ثم شاهدوا علامة على مشارف مدخل القرية، وبجانب هذا الطريق تحمل اسم القرية منسوبا لابي ضرع وترحبة بالزوار، وأصبحت القرية معلومة ولم تعد مجهولة كما كان من ذي قبل..وبعد سيرهما على أرض المقبرة بحثا عن قبر(سعيدة) فلم يجدا لها أثرا داخل سور يتوسطه بناء مزخرف حول قبر (أبي ضرع ) كبير أعيان قبيلة الأحياء، وسيد ضعفاء الأموات..وببابه يقف شخص ذو لحية طويلة، وعلى رأسه عمامة، ويلبس عباءة فضفاضة فبادرهما بسؤال عما يبحثان فقالا عن قبر ميتهما قد طمست أيدي المفسدين معالمه، ولم يراعوا حرمة الموتى. فأجاب بأن معالم القبور، وما تحتويه من حجارة حولها بَنى بها المصلحون سورا حول ضريح الولي الصالح ودعاهم للتبريك ببركة الولي الصالح حتى ينعما بالسعادة في الدنيا وفي الآخرة، وأن يدعوه ليشفع لميتهم عند الله.. ولما سأله الكاتب عما يكون أجاب بأنه خادم الولي الصالح في حياته، ومماته..
وبعد أن نزعا نعالهما، ولثما على بابه، وسلما على قبره كما أمرهم الخادم فوجدا عليه تابوتا مكسوا بألوان مختلفة من الأثواب المزركشة، وعلى التابوت صندوق بداخله عدة قطع نقدية يعتاش منها خديم الولي الصالح، ومحافظ الضريح مقابل توليه مهمة اشعال شموع مختلفة الأشكال، والألوان الموجودة حول التابوت، ومقابل استقبال الزوار و ارشادهم وتذكيرهم بمناقب الولي الذي أوكل إليه الله العناية بالقرية، ورعاية أهلها..
قد ضاع قبر (سعيدة)، وأُتلفت معالمه كغيره من القبور، ولم يبق على سطح أرض أصبح أديمها من أجساد الأموات، وتحولت معالمها إلى بناء صرح هذا الضريح الذي سيبقى يحدّث الأجيالَ عن غباوة آبائهم، وجهل أجدادهم..وسيظلون على أثرهم سائرين، ما لم يَرفعِ العلمُ الحجرَ عنهم، وينفضٌ الوعي الغبار عن أبصارهم، ويزول الغل من قلوبهم..
لم يبق من (سعيدة ) سوى حباً دفيناً ومن قبرها سوى رسماً على الذاكرة..وتمر الأيام، والسنون ولم تسمح لهم الظروف بمعاودة زيارة القرية، والوقوف على قبر لم يعد له وجود معلوم بمقبرة مهملة..لكن الصدفة قادت الكاتب يوما إلى المرور عبر الطريق الذي يمر بقرية (أبي ضرع) التي أصبحت عنوانا لمسقط راس كل مولود من مواليدها..وهم ينتسبون فخراُ واعتزازاً إلى جدّهم (أبي ضرع) سليل الأولياء الصالحين..
وتساءل الكاتب هل يسود الاِعتقاد حقّاً أن الدنيا، والآخرة للأغنياء الأقوياء، وللبلداء، والأغبياء أيضاً..ولا مكان هنا و هناك حقا للضعفاء، والبؤساء، والأشقياء، وحتى العقلاء، و الأذكياء، والعلماء أيضاً..
إنه سؤال سيبقى مطروحا على الأجيال، ودونه مئات علامة استفهام محيرة..!!
●مقاربة فنية للبنية الروائية (يتبع )