تأنيث العطر
محمد شحلال
سادت ثنائية ،،المذكر والمؤنث،، منذ أن خلق الله آدم ثم أخرج حواء من بين جوانحه،قبل أن تتحول هذه الثنائية إلى قاعدة تشمل كل الكائنات الحية ومعظم الجمادات،بل إن المرض ذاته لم يفلت من هذه القاعدة،فهذا سقم مذكر يسهل علاجه،وذاك مؤنث لا مفر من مضاعفاته !
عندما أدرك الناس قيمة وأهمية هذه الثنائية،عمدوا إلى التفنن فيما يميز الذكر عن الأنثى،وكان على،،تاء التأنيث،،أن تتولى هذه المهمة في كثير من الحالات،وفي مقدمتها أسماء الأشخاص في المجتمع العربي على وجه التحديد.
وهكذا،فإن الأنثى صارت ملزمة بحمل ،،تاء،،في آخرها لولا أن بعض الإناث قد زهدن في هذه التاء التي يغني عنها تأنيث معنوي، مثلما هو الحال في،،مريم وزينب وهند…
وبما أن التلازم قائم بين الجنسين إلى الأزل،فإن العرب نافسوا الأنثى في،،تائها،،فسموا ذكورا يحملون تاء تأنيث تشمل اللفظ دون المعنى،فكان،،طلحة ومعاوية وعكرمة…مما جعل اللغويين يميزون بين المؤنث تأنيثا لفظيا كزينب ،والمؤنث تأنيثا لفظيا ومعنويا كفاطمة، ثم المؤنث تأنيثا لفظيا فقط، مثل الأسماء السالفة الذكر.
انشغل الناس بثنائية المذكر والمؤنث، حتى تمكنوا على مر الأيام من تجسيد الذكورة والأنوثة عبر إبداعات لا حدود لها.
وهكذا،أصبح من البديهي أن نميز لباس المرأة عن لباس الرجل،ناهيك عن الأحذية ووسائل الزينة والنظافة ثم الأناقة،وكان على الجهات المتنافسة في هذا المجال أن تبتكر علامات ودورا وتوقيعات خاصة بكل جنس،مما فتح باب التنافس الاقتصادي على مصراعيه في هذا المجال.
وإذا لم يكن بد من الإقرار بقدرات الإنسان المعاصر على خلق عوالم قائمة بذاتها لكلا الجنسين،فإن ما يستوقفني -شخصيا- في هذا المجال المتسارع نحو التجديد،هو نجاح هذا الإنسان في تأنيث العطر !
لقد عرف الطيب في كل مجتمعات الدنيا منذ القدم،وكان لكل جنس طيبه المستخلص من مواد طبيعية ،يضفي عليها كل طرف ما يميز طبيعتها ويجعلها حكرا على الرجل وحده أو المرأة.
لم تشذ أمهات جيلنا عن القاعدة،فحرصن على صنع طيبهن من مواد محلية ،تغذي أنوثتهن قبل أن يسهم،،العطار،،في تعزيز رغباتهن عبر مستحضرات بسيطة يصرفها بين نساء الأرياف.
لعل الاستقلال في وسائل الأناقة قد تحقق منذ زمن بعيد،حيث إن الشاهد على هذه الحقيقة،قد ورد في قصيدة لشاعر الغزل الأموي،عمر بن أبي ربيعة ،قالها في حق عشيقته،،نعم،،.
وهكذا فإن عمر قد قرر أن يزور ،،نعما،،في جنح الظلام بناء على اتفاق مسبق،فلما صار على مقربة من الخيام التي تقيم فيها معذبته،تعذر عليه أن يهتدي إلى خبائها،ومكث هناك يترقب إلى أن جاء الفرج فجأة حينما وصله،،ريا،،*نعم الذي خفق له قلبه فتأكد من مصدره وصاحبته،وهو ما قال بشأنه:
وبت أناجي النفس أين خباؤها؟ وكيف لما آتي من الأمر مصدر؟
فدل عليها القلب ريا* عرفتها لها وهوى النفس الذي كاد يظهر
لقد كان ،،لنعم،،طيب خاص لا يوجد عند غيرها من النساء،وهو ماسهل مأمورية عمر الذي ماكان بوسعه أن يميز خباءها دون أن يعرض نفسه للشر.
إن صناع العطر قد استطاعوا أن يدسوا الأنوثة في قوارير العطر ،بحيث يكفي فتح إحدى هذه القوارير لتحدد حاسة شمنا ارتباطه بالمرأة،وبالمقابل،فإن ،،ذكورة العطر،،لا تحتاج إلى كبير جهد لتصنيفه،لأن دور الإنتاج قد أعفت الناس من البحث.
وإذا كانت دور إنتاج العطر قد نجحت في تذكيره وتأنيثه من غير حاجة لإقحام تاء التأنيث،فإن هذه الدور قد انتقلت إلى مرحلة متقدمة، حين تمكنت من ربط بعض العطور بالشبقية التي تنوب عن معظم بنات حواء في ابتكار الجاذبية ،فهل تظل هذه الثنائية قائمة،أم أن الناس ماضون نحو مجتمع تنتفي فيه الفوارق المعهودة بين الجنسين بعدما كثر ،،المنشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال،، ؟
* الريا : الريح الطيبة…