رحلة من المحيط إلى البسفور
محمد شركي
شاءت إرادة الله عز وجل أن يصادف عشية يوم الرحلة عاصفة قوية، بغبار شديد ما ظننت يوما أن مدينة على المحيط ستشهد مثله، لقد كان أشد مما ألفتْه مدينة الألفية حين تأتيها العاصفة من جنوبها، ولقد وقعت في هذا اليوم حوادث سير على الطريق السيار ما بين بيضاء المحيط، وحمراء ابن تاشفين، ومن لطف المولى جل وعلا أننا انتقلنا إلى المطار عبر القطار، وكان من المقرر أن نصل إليه على متن سيارة، وما كدنا نصل المطار حتى ذُهلنا لحاله، وقد غشيته ظلمة العجاج، ودوت فيه عاصفة هوجاء عطلت مواعيد الرحلات الجوية، وظلت الطائرات جاثمة في مدرجات المطار، وهرع المسافرون إلى اللوحات الإلكترونية، يترقبون جديد مواعيد الأسفار، وقد بدا القلق على وجوههم، وهم ينفصون الغبار عن وجوههم وعن ملابسهم.
كانت بداية ولوج المطار من إجراءات المراقبة والتفتيش، عبر ممرات ومن خلف متاريس يدور المسافرون عبرها، ويخيل لمن يراهم على تلك الحال، أنهم يسعون كما يسعى الحجيج بين الصفا والمروة، إذ كان دورانهم بين تلك المتاريس عودا على بدء، وكان َمرورهم وامتعتهم عبر أجهزة الرصد الكاشف لكل مخبوء، وقد تكرر هذا المشهد أكثر من مرة، وكانوا في إحداها يقفون وأيديهم معلقة إلى أعلى، أمام عدسة كاميرا ترصدهم، ثم تمرَّر أيدي الشرطة على أجسادهم تتحسس أماكن معلومة منها، بما في ذلك الجيوب، وكانت بعض الملابس تمر مع الأمتعة عبر الرصد الكاشف، وكانت آخر محطات المراقبة، محطة فحص الهويات بعرضها على الحواسيب العالمة بما خفي من السوابق، وكانت وجوه المفحوصة هوياتهم تتطلع إلى وجوه الفاحصين تستطلعها في قلق لا يزول حتى يضعوا ختمهم على صفحات الجوازات، وتنتهي مرحلة المراقبة، لتبدأ مرحلة الانتظار، التي طالت بسبب اضطراب مواعيد الرحلات الجوية، في جو لم تهدأ ريحه العاتية، وازداد عجاجه وأظلمت سماء المطار كأنها سماء غزة، وهي تحت القصف، كانت أحوال الناس مختلفة كاختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، وكان فيهم معتمرون وجهتهم بيت الله الحرام، وسياح أجانب قادمون أو مغادرون، ومسافرون، ومما أثار الانتباه أن السائحات الغربيات كن يتمتعن بكامل حريتهن في الكشف عما أمر الله تعالى بستره، الشيء الذي استدعى التفكير في حرمان المسلمات من حريتهن، في اقتناء عباءاتهن في بلاد الجن والملائكة، فما أشد تخلف هذه الأخيرة، وهي التي يعتبر ساستها أوصياء على حرية البشر في المعمور، وما أشد انفتاحك يا وطني الغالي، الذي يحتضن بكل دفء كل وافد، ولا يبخسه حريته في ستر جسده، أو كشفه، ومع ذلك يقول عنك حسادك لست بلد حرية وفق طعمها عندهم، ومما أثار الانتباه أيضا، براءة بعض مواطنينا وهم يقلدون الأجانب في هيئاتهم، وفي طريقة حديثهم، وهم يحرصون على إسماع من بجوارهم على الكراسي في بهو الانتظار، أنهم يتقنون لغة بلاد الأنوار، ويتعمدون مخاطبة صغارهم بها، كأنها لغتهم الأم كأنهم يتحاشون عارا يلحق بهم إن هم حدثوا بلغتهم الأم، ولم يفت بعضهم أن يلحقوا بركب التحضر الغربي في كشف نسائهم وبناتهم، عما تكشف عنه غيرهن من بنات ونساء الغرب، مما أمر الله تعالى بستره، ومما أثار الانتباه أيضا انصراف انتباه عموم المسافرين إلى هواتفهم الخلوية، وقد شردوا بأذهانهم عن كل ما كان يدور حولهم، وبدوا منشغلين بها وبإدمان، ولكن بعضهم كان يحاول لفت الانظار إليه، وشد الانتباه إلى مكالماته بصوت مسموع، يكشف عن هويته اللغوية، معظمهم كان يلتقط صورا أو مقاطع فيديوهات. وبسبب ما أحدثته العاصفة من ارتباك في حركة الطيران كانت الأذان تترقب المستجدات عبر مكبرات الصوت، الذي كان الصدى داخل بهو الانتظار يحول دون وضوحه، فلجأ البعض إلى استفسار من بجوارهم عن جديد مواعيد الرحلات، وكانت جماعات بكاملها تتحرك بعد كل بلاغ من جهة إلى أخرى، كي تتجمع قبالة بوابة من البوابات المفضية إلى مدرجات، حيث الطائرات من مختلف الشركات جاثمة، تنتظر موعد إقلاعها، ومما أثار الانتباه بشكل ملحوظ شباب من أبناء الوطن، تشي مظاهرهم البسيطة بأنهم من بسطاء الشعب، وربما كانوا من المهاجرين، أو من حديثي الهجرة، رغبة في العبور إلى ضفة المتوسط الشمالية، عبر تركيا بحثا عن مصدر عيش، وكان بعضهم يحاول التمويه على بساطة الحال التي كانت بادية بل ناطقة به.
وحان موعد الانطلاق، فخرج من حان ركوبهم طائرة الخطوط العربية، عبر نفق إلى بوابتها الأمامية المشرعة في زحام، كعادتنا عند كل حيز نريد ولوجه، بالرغم من كون المقاعد محجوزة سلفا. كانت الطائرة متوسطة الحجم، وليست من ذوات الدرجات العلى، ولهذا اكتفى صاحب الإرشادات بذكر اسم ربانها، ورقم رحلتها، واتجاهها، ثم أحال الجميع على شريط مصور، يصف عمليات ربط الاحزمة، واستعمال ما يجب استعماله عند الطوارئ لا قدر الله، ولم يعلم أحد شيئا لا عن مسار الطائرة إلى أن أُعلن عن قرب نزولها في أحد مطارات مدينة البسفور. بطبيعة الحال لم يلتزم بعض الشباب بما أرشدوا به حين كانت الطائرة تمر بأجواء مضطربة، حيث تركوا مقاعدهم وظلوا واقفين كشأنهم في ركوب الحافلات، دون مبالاة بتكرار تنبيههم، وظل عدد من الركاب ذكورا وإناثا، وكان معظمهم من الشباب يتردد على مرحاض الطائرة، ومما أثار قلق الساهرين على أمن الرحلة ضبط أحد الشباب مخمورا، بالرغم من التنبيه المتكرر من التدخين، واحتساء المسكرات، وكانت شرطة المطار التركية في انتظاره، ليواجه ما جناه على نفسه.
إلى هنا أقف عن وصف الرحلة من المحيط إلى البسفور، على أمل استكمال وصف الإقامة في مدينة البسفور إن شاء الله تعالى .