جولة في مدينة البسفور-2-
محمد شركي
هبطت الطائرة الساعة الثانية صباحا في مطار صبيحة، وكان خاليا، لا وجود فيه لمسافرين مع قلة قليلة من شرطة المطار، وكان عناصرها يدُلُّون ركاب الطائرة، على الممرات المفضية إلى خارج المطار، وكانت متاريس مطار صبيحة أكثر من متاريس مطار الدار البيضاء، لا مندوحة عن السعي بينها ذهابا وجيئة. وخارج المطار اصطفت سيارات الأجرة، وأخذ سائقوها يعترضون من حطوا الرحال أملا في نقلهم، وقد فضل أكثرهم قطار الأنفاق، تحاشيا لما يروج عن سائقي سيارات الأجرة من تحايل على الأجانب للنصب عليهم، وقد أكد لنا ذلك فيما بعد مواطن تركي، مستاء من سلوكهم المسيء إلى سمعة بلاده، وعاينا ذلك أنفسنا إذ كلفنا قطع مسافة قصيرة ثمنا مبالغا فيه، ربما فاق ثلاثة أضعاف ما يستحق في غياب الرقابة، ومع صعوبة التواصل مع قوم، إما يجهلون التواصل مع غيرهم بغير لسانهم، أو يتعمدون ذلك، ربهم أعلم بهم.
ولقد كان نزولنا بإقامة بمنطقة شيشلي، قريبا من مسجد السلطان أحمد المعروف بالمسجد الأزرق، المقابل لمسجد أياصوفيا وهما آيتان في فن المعمار العثماني، وتجدر الإشارة إلى أن كل المساجد في مدينة إسطنبول، سواء في شطرها الأوروبي، أو شطرها الآسيوي، قد شيدت على نمط معماري واحد. وبين أياصوفيا والمسجد الأزرق ساحة فسيحة، لا تكاد تخلو من طوابير طويلة للسائحين من كل بقاع العالم، ومن مختلف الأجناس، يتطلعون إلى زيارة المسجدين، والوقوف عند معلمين تاريخيين، أحدهما تذكار شاده أحد السلاطين تعبيرا عن صداقته مع الألمان، وآخر عمود، قيل أنه يعود إلى العصر الروماني.
ولا شك أن السياح الغربيين يستهويهم ماضي أياصوفيا الكنسي، ولعلهم في وجدانهم يتحسرون عليه، وقد حل المسجد محل الكنيسة، وفي هذا ما فيه من دلالة تاريخية لا داعي لذكرها الآن، وكل من يدخل المسجدين ينبهر بمعمارهما المذهل، لكل منهما قبة عظيمة، وحولها قبب أصغر حجما، وزخارف داخلها وحواليها بمختلف الألوان، وأسفل منها آيات من القرآن الكريم منقوشة ومذهبة، فضلا عن اسم الجلالة، واسم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأسماء الخلفاء الراشدين واسمي السبطين، ويميزهما منبران طويلان، فضلا عن آخرين دونهما طولا، يؤذن منهما، وتقام منهما الصلوات، ويتلى القرآن، وتتلى الأدعية عقب كل صلاة، والملاحظ أن وقت الأذان عند الإخوة الأتراك، أطول من الوقت المخصص للصلوات التي تقام مباشرة بعد الأذان . ويتميز أئمة المساجد بزي موحد، وبعمامة تلف حول طربوش، وفيهم ملتحون، وفيهم حليقو اللحى، ويُظهر الأتراك احتراما كبيرا لبيوت الله عز وجل، ولكل ما له علاقة بها، ويجلس كثير منهم عقب الصلاة للتسبيح والدعاء يجهر به المؤذن.
ولا يخلو المسجدان من زوار أجانب، لا يسمح لهم بدخولهما، وقد خصص لهم حيز عند البوابتين، وترى غير المسلمات وهن تضعن أغطية على رؤوسهن قبل ولوجهن المسجدين، ولا ندري هل كن يُلزمن بذلك، أم أنه مجرد تقليد درجت عليه السائحات الاجنبيات.
وما قيل عن هذين المسجدين، ينطبق على غيرهما، كمسجد نور، وسليمان، ومسجد البسفور، ومسجد بايزيد، ومسجد شيشلي، ومسجد تقسيم، وكلها مساجد لا تخلو من سواح أجانب، ومسلمين، ويشعر المسلم وهو يزورها بفخر واعتزاز، لما ترمز إليه من عظمة الإسلام، وحضارته في تركيا، وإن اسطنبول بحق مدينة المساجد، وصدق نابليون حين قال: لو كان العالم دولة واحدة، لكانت اسطنبول عاصمتها، وهذه شهادة يعتز بها الأتراك، وقد شق البسفور مدينتهم، وهو يربط بين بحر مرمرة، والبحر الأسود، وفوقه قناطر عظيمة تصل شطر المدينة الأوروبي بالشطر الآسيوي ، ولعل الشطر الاوروبي أكثر جاذبية من الشطر الآسيوي، بسبب مآثره التاريخية التي تستهوي شعوب العالم زيارتها، ومن تلك المآثر قصر توبقابي، الشاهد على عظمة الخلافة الإسلامية العثمانية، وقد حوله أتاتورك إلى متحف يدر على تركيا أموالا، ومما يجلب إليه السياح، خصوصا المسلمين منهم، بعض ما قيل أنه مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، من سيوف، ورماح، وسرابل، ومخطوطات، وألبسة، وغيرها، بل هناك ما نسب لغيره من الأنبياء، كبقية من رفات نبي الله يحيى عليه السلام، والله أعلم بصدق ما يزعمون.
ولا مندوحة لمن يزور اسطنبول من ركوب البسفور، الذي يصل البحر الأسود ببحر مرمرة، وعلى جانبيه تبدو العمارة التركية البديعة، أبراجا، وعمارات، وقصورا، وتمر فوقه ثلاثة جسور عظيمة، وتقطعه سفن المسافرين وعبارات السائحين. وتتميز هذه المدينة بجمال شوارعها، ونظافتها، وبديع هندسة بناياتها، وسحر حدائقها، التي تغشاها غربان يخالط سوادها بياض خلف أعناقها، فضلا عن أسراب الحمام، وبعض اليمام، وطير النورس الذي ينتقل بين بحرها وبرها. وما يثير الانتباه وجود كلاب ضخمة، باسطة أذرعها هنا وهناك، لا تنزعج من مارة، وكذا قطط جميلة ونظيفة، لا تنزعج هي الأخرى، بل ترغب في المداعبة.
وتبدو اسطنبول مدينة تجارة بامتياز، ببازاراتها خصوصا الكبير محمود باشا البازار المصري، فضلا عن أسواقها الممتازة، ومحلاتها التجارية، ومطاعمها التي تقدم مختلف الأطباق التركية، خصوصا الشورما، والبيك، وشربة العدس، ومقاهيها التي تقدم مختلف المشروبات، خصوصا شاي الفواكه، وعصير الرمان، فضلا عن محلات بيع مختلف الحلويات، خصوصا الكنافة، والبرك، والأيران، وهو لبن مالح، وحمص وبقلاوة وحلقوم وأدناكباب. ويبدو أن هذه المدينة متميزة بكثرة الأكلة فيها، فلا يمر المار شوارعها إلا والناس فيها منهمكون في الأكل والشرب، ويكثر التدخين عندهم ذكورا وإناثا، ولقد دخلنا محل بيع صور تحف المخطوطات، وما كدنا نلج الباب حتى صدنا صاحبه قائلا: اذهبوا إلى البازار، فهناك اللباس، والأكل، فهذا المحل تقصده النخب الاعجمية المثقفة، من إيرانيين وباكستانيين، أما العرب فيقصدون البازار من أجل اقتناء الألبسة، كما يقصدون المطاعم من أجل الأكل، وقد رددنا على كلامه بما ناسب تعميم تجريحه للعرب. وقد يحس الإنسان العربي بنوع من شعور بعض الأتراك بالتعالي على العنصر العربي، إلا أن خيارهم يُبدون ترحابا ومودة، ولعل مرد ذلك إلى آصرة الإسلام ليس غير.
ويبدو المجتمع التركي في هذه المدينة منقسما إلى محافظين متدينين، وغير محافظين ولا متدينين، ولعل ذلك مما كرسته سياسة أتاتورك العلمانية، التي قطعت الصلة مع مظاهر التدين، ويحس من يزور اسطنبول تطابق نتائج الانتخابات الأخيرة، مع واقع الحالة الاجتماعية فيها، حيث تبدو مدينة كباقي المدن الغربية، من حيث سفور الإناث فيها، إلى حد الكشف كشفا فاضحا عما يستوجب الستر، وأكثر من ذلك، تصادف الزائر مشاهد مخلة بالحياء بين بعض الشباب الأتراك، تقليدا للشباب الغربي، ولكن ما يعزي النفس عن تلك المظاهر التي لا تليق بعاصمة الخلافة الإسلامية، هو رواد مساجدها، وحرصهم على المواظبة على صلواتهم مع إظهار التدين، إلا أنهم قلة بالنسبة لأغلبية تنشغل عن الصلوات تماما كما الحال في معظم بلاد الإسلام في هذا الزمن . ولقد شهدنا صلاة الجمعة في أحد مساجدها، بجواره مقاه، ومطاعم غاصة بروادها وقت الصلاة، هذا ما تيسر من وصف ما شوهد خلال هذه الجولة القصيرة، ونتمنى للجميع رحلة ممتعة إلى مدينة كانت عاصمة الخلافة الإسلامية، التي نتحسر على ضياعها، بألم وحسرة شديدين ولله الأمر من قبل ومن بعد.