حق الله وحق العباد
محمد بنعلي
أعرف رجلاً كهلاً محترما ممتلئا بقيمه الإنسانية لا يعامل غيره إلا بالحسنى، ولا يرتاد مجالس اللغو، وحلقات الثرثرة الفارغة، لكن له ثلاثةُ عيوبٍ: لا يصلي ولا يزكّي، ولم يكلّفْ نفسه تجربةَ التسجيل في قرعة الحج.. على الرغم من كونه ميسوراً والحمد لله.
سألته عن السبب، فلم يجد غضاضةً في تعليق عذره على مشجب الكسلِ والتراخي، قبل أن يستدرك قائلا ما معناه: “والمهم هو معاملة الناس؛ لأن الدين هو المعاملة التي تتعلق بها حقوق الآخر. أما حقوقُ اللهِ من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحج، فهو قادرٌ على أن يتجاوز عنها”
قلتُ له: قبلَ أن أُدْليَ برأيي في رأيِك ووضعيتك، أودّ أن أؤكد لك أن الزكاة لا تتعلق بحقوق الله فقط، فهي حقٌّ من حقوقِ الفقراء.. فإذا كنت تؤمن بأن الدينَ المعاملةُ، فطبّقْ ونفِّذْ، وبادرْ إلى معاملةِ الفقراءَ بما فرضَ عليكَ اللهُ سبحانه، فقد مضتْ عليك سنواتٌ طوالٌ وأنت تعتدي على حقوقِهم، وتأكلها بغير موجبِ حقٍّ ..
أما الصلاة والصيام والحج فهي من حقوقِ الله فعلاً، لأنها ميثاقٌ بينكما، لكن من ضمن لك أن الله سيتنازلُ عن حقوقِه؟ هل قرأتَ ذلك في كتابه سبحانه؟ أم هل وجدت ذلك في سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم؟ أم اصطفاك الله بعلمٍ من الغيبِ فأنتَ تحفظُه؟ أم اتخذْتَ عنده عهداً ألا يمسّكَ بعذابٍ، فلن يخلف الله وعده؟ أم هو الهوى والنفسُ والشيطانُ يأمرونك بغير ما أنزَل الله.. فالذي يعرفُه المسلمون، وأجمعَ عليه العلماءُ أنّ الإيمان قولٌ وعملٌ: اعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فلماذا تجعلُ القرآن عِضين، تؤمن ببعضٍ وتكفُرُ ببعضٍ.. تأتي ببعض الفرائضٍ وتتركُ بعضاً؟ ألا تعلم أن هذا من عملِ المنافقين؟! يكفي أن تستحضرَ مكانةَ الصلاةِ، وعظمَ شأنِها، والمكان المقدّس الذي فُرِضتْ فيه قبلَ أن تُمارَس في الأرض، والوعيدَ الذي ما فتئَ عليه السلام يطلقه ضد من يتهاون فيها وفي أدائها في الجماعات، ويكفي أن تتذكّرَ دائماً وصيته الخالدة: الصلاةَ، الصلاةَ.. لتتأكد من ضعْفِ حُجّتِك، وتتيقّنَ أنَّ المعاملةَ الحسنةَ وحدها لا تعصِمُكَ من النار..
فالدين واضحٌ صريحٌ في تقديمِ الأعمال التي نحن مكلّفون بها، وترتيبِها على حسَبِ الأولويّاتِ وإذا شئتَ الدليلَ والبيان فتأمّلْ جيِّداً هذا الحديثَ القدسي الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ اللَّهَ قالَ: “…وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ…”
وآفةُ الكثيرين منا أنهم يقدمون النوافل ويؤخرون الفرائض التي رتّبَها الله تعالى في المقام الأول… ثم من أينَ للمسلم الذي لا يصلّي أن يعرفَه الرسولُ عليه السلام يوم القيامة، وهو الذي حدّدَ علامتهم بأنهم “يأتون غرّاً محجّلين من الوضوءِ” وما بعدَ الوضوءِ إلا الصلاةُ ؟ وكيف يأمن من لا يصلي الدخولَ في عمومِ قوله تعالى: “فخلَفَ من بعدهم خلْفٌ أضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهواتِ فسوفَ يلقوْنَ غيّاً.”؟
فالواجبُ على المؤمن أن لا يتعلل بمثل هاته التبريراتِ الواهيَة التي لا تصمُدُ أمام نصوصِ الكتابِ والسنّة، فدينُنا شبكةٌ من الأوامر والنواهي علينا الالتزام بها إلى أقصى قوّةٍ في وُسعنا واستطاعتِنا.. والذين يؤمنون بأن أساسَ الدين وحده هو المعاملة كثيرون بين ظهرانيْنا للأسف الشديد، فحملَهم ذلك على الاستهانةِ بالصلاة، وإلقائِها خلفَ ظهورِهم، مع أن الواجب المحتَّمَ الملزِمَ أن تكون في صدر أعمالِهم؛ لأنها أول ما يُحاسبُ به العبد، وآخرُ ما يُرفعُ من الأعمال، وهي الفرْضُ الوحيد المشترَكُ بين المسلمين، لا رخصةَ فيه لعاقل، كما هي الحال بالنسبة للزكاة والصوم والحجِّ.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه…..