إلى متى يستمر الجدل حول الاقتطاعات؟!
اسماعيل الحلوتي
في خضم الاحتقان القائم في الساحة التعليمية منذ أن صادق المجلس الحكومي المنعقد يوم الأربعاء 27 شتنبر 2023 على المرسوم رقم: 781.23.2 بشأن النظام الأساسي لموظفي قطاع التربية الوطنية، الذي أشعل فتيل الاحتجاجات والإضرابات المتوالية، التي شلت مؤسسات التعليم العمومي في كافة جهات المملكة، حيث خرج عشرات الآلاف من نساء ورجال التعليم للتعبير عن رفضهم له، معتبرينه نظاما مجحفا وتراجعيا، لا يستجيب لانتظاراتهم ويهدف إلى الحط من كرامتهم وإثقال كاهلهم بالمهام الإضافية، فضلا عن تطويقهم بحزمة من العقوبات الزجرية.
وبناء على مراسلة الكاتب العام لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بتفويض من الوزير شكيب بنموسى، الموجهة إلى مدير نفقات الموظفين بالخزينة العامة للملكة بتاريخ 17 نونبر 2023 تحت عدد 23/315 الرامية إلى تفعيل مسطرة الاقتطاع من أجور المضربين ابتداء من فاتح نونبر 2023، بسبب ما اعتبرته “تغيبا عن العمل بصفة غير مشروعة”، وهو أمر بالاقتطاع من أجور 47 ألف موظفة وموظفا تغيبوا بصفة غير قانونية…
تجدد الجدل ثانية حول مدى مشروعية هذا الإجراء، وإذا ما كان الإضراب حقا مشروعا كما تنص عليه دساتير المملكة والمواثيق الدولية، أم هو “تغيب عن العمل بصفة غير مشروعة” كما تدعي الوزارة الوصية، التي تلوذ بالتكتم الشديد حول طريقة تفعيل هذا الإجراء، ورفض مصالحها المختصة تقديم أي إفادة بخصوص المبالغ المزمع اقتطاعها من أجور الموظفين المنخرطين في الإضرابات، ولا عن عدد الأيام المعنية بذلك، باستثناء الحديث عن المذكرة السالفة الذكر التي تهم مباشرة 47 ألف “أمر باقتطاع”.
فتضاربت الآراء حول هذا القرار الجائر الذي ما انفك يؤرق الموظفين في ظل غياب قانون تنظيمي للإضراب، إذ هناك من يتحدث عن أن الاقتطاع سوف يشمل فقط نصف الأساتذة المضربين، من الذين تصنفهم الوزارة في خانة المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة، وبين من يرى أنه لن يهم مجموع أيام الإضراب دفعة واحدة، مرجحا بأن تأتي الاقتطاعات مجزأة على دفعات متتالية، لأن اللجوء إلى اقتطاع أيام الإضراب كاملة من شأنه أن يؤدي إلى خصم حوالي 2500 درهم من أجرة كل مضرب، إذا ما اعتبرنا أن مدة الإضراب لا تقل عن عشرين يوما، غير أن هناك اختلافا في الوضعيات الإدارية على مستوى الإطار والسلم، وهو الأمر الذي سيفاقم وضعية الأساتذة المضربين في ظل غلاء المعيشة، لما باتت تعرفه أسعار المحروقات من زيادات متصاعدة، أرخت بظلالها على أسعار باقي المواد الأساسية الوسعة الاستهلاك خلال السنتين الأخيرتين.
ومن المفارقات الكبرى أن يتم اللجوء إلى الاقتطاع من أجور المضربين، علما أن المغرب يعترف بحق الإضراب ومشروعيته منذ أول دستور له سنة 1962 في انتظار سن قانون تنظيمي، لكن تلكؤ الحكومات المتعاقبة حال دون إقرار ذلك النص الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق، مما فتح الباب أمام اجتهادات بعض “الفقهاء” في القانون، الذين يؤكدون على أن “الاقتطاع من أجر المضرب أمر مشروع إذا ما نظر إليه من الناحية القانونية الصرفة، وحسب ما دأب عليه القضاء سواء تعلق الأمر بالنظام الأساسي للوظيفة العمومية، أو مختلف الأنظمة التي تضبط عمل الهيئات والمؤسسات والإدارات في القطاع العام، وأنه لا يمكن للأجر أن يؤدى في غياب عنصر العمل، وذلك وفق ما تضمنه مرسوم المحاسبة العمومية لسنة 1967، الذي قام بتفعيله رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله ابن كيران، إعمالا لمبدا “الأجر مقابل العمل”.
فتطبيق مبدأ “الأجر مقابل العمل” مازال مثار جدل واسع ويطرح مشكلا كبيرا في تأويل القانون منذ أن تم اعتماده في مواجهة الإضرابات، إذ يرى فيه الكثيرون قرارا تعسفيا لمخالفته دساتير البلاد جميعها، خاصة أن هناك تفسيرات قانونية تعتبر الإضراب حقا مكفولا بقوة الفصل 29 من الدستور، الذي نص على أن “حق الإضراب مضمون، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته” إلا أن هذا الفصل يعتبر دون فعالية أو “موقوف التنفيذ” لعدم صدور ذلك القانون التنظيمي، حتى وإن كان الدستور يتميز بالسمو عن المرسوم المنظم لمبدأ “الأجر مقابل العمل”. ويرى أحد أساتذة القانون الإداري أن الدولة تستطيع إيجاد تأويلات في اتجاه تكييف الاقتطاعات ومنحها سندا قانونيا، عندما تذهب إلى اعتبار الإضراب تغيبا عن العمل بدون عذر شرعي، يمس باستمرارية المرفق العمومي. وهو ما يعد تهريبا له من وضعه كحق مكفول دستوريا نحو تكييفات أخرى، وبالتالي يمكن اعتبار الاقتطاع إجراء مشروعا في الجانب القانوني، بيد أنه ليس كذلك من الناحية السياسية، لما يشكله من إجهاز على أحد الحقوق الأساسية…
إننا وإن كنا نرفض بشدة حرمان حوالي ستة ملايين تلميذا من الدراسة في مؤسسات التعليم العمومي لخمسة أسابيع متوالية، ومازالت المدة مرشحة للارتفاع مع ما لذلك من كلفة باهظة على عدة مستويات، ما لم تسارع الحكومة إلى إنهاء مسلسل الإضرابات بإسقاط “نظام المآسي”، يحز في أنفسنا كذلك أن تظل بلادنا التي يقال عنها دولة “الحق والقانون” رهينة نص قانوني منذ أزيد من خمسة عقود، تتخبط في جدال حول مدى مشروعية الاقتطاع من أجور المضربين، في وقت يستطيع فيه المشرع المغربي سد فراغ الفصل 29 من الدستور، بإقرار نص تنظيمي لممارسة حق الإضراب، “وكفى الله المؤمنين القتال”.