آفة الإدارة: مسؤول فاسد، أو مسؤول حاقد، أو مسؤول جاهل
محمد طلبي
إن المتتبع لردود أفعال المرتفقين، سواء كانت كتابية، أو شفهية، أو حتى إيمائية، ضد إدارة ما، ليرى حجم التذمر الذي يعانيه المواطن المغربي عموما ضد جل الإدارات، والمؤسسات، بل وحتى الهيئات… إن تردي العمل الإداري ليرجع إلى عدة أسباب لن يتسع المجال هاهنا لذكرها، لكن أحد الأسباب الرئيسية في اعتقادنا هو الفساد المستشري بهذه الإدارة، وهذا الفساد يرجع أساسا إلى إسناد المسؤولية إلى الشخص الخطأِ، والذي يكون إما فاسدا، أو حاقدا، أو جاهلا!
لسنا هنا بصدد محاكمات، ولا بصدد إطلاق تهم، بل ما يهمنا بالأساس هو إثارة انتباه من يهمهم الأمر إلى ظاهرة خطيرة استفحلت، واستفحالها هو لا محالة قضاء على الآمال في رقي وطن… وبالتالي إثارة الانتباه إلى حجم ما يُقترف ضد وطن بكامله، عند تزكية شخص أو السعي من أجل تعيينه أو حتى تكليفه بالتسيير، رغم العلم بفساده، أو حقده، أو جهله!
وحتى لا يكون كلامنا عاما، سنحاول تركيزه على جزء مما نعيشه، ونتعايش معه! إن المتتبع لما يقع بالوزارتين الوصيتين على التربية والتعليم (عاليا كان أو أساسيا) ليرى حجم التذمر واليأس لدى شغيلتي هذين القطاعين الهامين والأساسيين لكل بناء حضاري مرغوب… إن مقارنة ما يصدر عن الهيئات الممثلة للمدرسين – وطنية كانت أو جهوية أو محلية – سواء من حيث الكم أو طبيعة المواضيع المطروحة، وما يصدر عن الأشخاص، سواء كتابيا من مراسلات أو مقالات أو تدوينات في مواقع التواصل، أو شفهيا في جمع لهيئة أو اجتماع أو حتى في لقائك بأحدهم بمقهى، بل وحتى بملاحظة إيماءاتهم، مع ما يصدر عن نظرائهم بدولة من الدول راقية التعليم، ليرى حجم الهوة، ثم حجم المنزلق الذي انحدرنا إليه… حيث يسود التذمر لدى هيئة التدريس – أهم هيئة لها قيمة اعتبارية خاصة في الأنظمة التعليمية الراقية الضامنة لمجتمعات أرقى، وهي تعيش بالتالي ضغطا نفسيا واحتراقا وظيفيا… وكمثال عن الاستهتار، بل والاحتقار نجد تجاهل المراسلات الموجهة للمسؤول سواء كان وزيرا، أو مديرا، والمراسلات الوحيدة التي يمكن التوصل بها هي التكاليف، والاستفسارات، والاشعارات! ليبقى المسؤول الملتزم بالتجاوب كتابيا مع مراسليه بكل احترام ومودة من الحالات النادرة في القطاعين، مما يعطي فكرة واضحة عن العقليات التي أصبحت تسير القطاعين، والتي سنصلح بها أعطاب تعليمنا! بل الأفظع من كل هذا هو تجاهل حتى منشورات الهيئات النقابية! وكم يحس المواطن بالغبن في وطنه لو علم أنه لو راسل وزيرا في حكومة أوروبية عن شأن ما لتمت إجابته شكلا ومضمونا، وفي آجال معقولة!
إن كلامنا هذا ليس معناه إطلاقا أن هذين القطاعين لم يمر بهما مسؤولون نزهاء، مسؤولون محبون لوطنهم، مسؤولون أكفاء، مسؤولون همهم الرقي بالمنظومة… لكن حكم الطبيعة والجمال لا يمكن تحديه، فالفاسد يغلب، حتى لو كان قيد أنملة. الفاسدين والمفسدين لا يهم عددهم، بل يهم وجودهم، ووجودهم هو تدمير وتشويه لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي…
إن شخصية أي بشر كان عموما تعكس تراكمات ماضيه منذ أن ولد وحتى لحظته الراهنة، حيث يلعب مستوى ما تلقاه من تربية وتعليم، ومستوى ما تعرض له من ثقافة، وطبيعة ما عاشه من تجارب سابقة، الدور الحاسم في تكوين شخصيته… وبالتالي فلا بد أن نعرف أمام أي مرشح نحن؟ هل نحن أمام إنسان نزيه؟ أم نحن أمام فاسد يتقن فن “التحراميات”؟ هل نحن أمام إنسان سوي (والسواء درجات)؟ أم نحن أمام معتوه؟ هل نحن أمام محب لوطنه؟ أم نحن أمام حاقد؟ هل نحن أمام إنسان عارف بأدبيات التسيير ولو في حدها الأدنى؟ أم نحن أمام جاهل؟
إن الفاسد، وبمجرد جلوسه على الكرسي، لن تجد له “رأيا” أو “اجتهادا” في غير الأمور المالية! رغم أن المؤسسة بيداغوجية أساسا، أو بحثية، أو هما معا، وبالتالي تجد تركيزه، كل تركيزه، وكامل قواه العقلية، و”التحراماتية”، موجهة فقط إلى الصفقات، وإلى التعويضات، وكيف يمكن له أن يستولي هو ومن يدور في فلكه على النصيب الأوفر منها. كما أن المسؤول الفاسد سيسعى إلى التلاعب بأي شيء يحتمل التلاعب! وذلك رغبة منه في الحصول على مال أو على حظوة… ولمحاصرة هؤلاء فلا بد من ربط المسؤولية بالمحاسبة، وترتيب الجزاءات في حالة ثبوت التهمة، ولم لا رؤية أمثال هؤلاء الفاسدين يقيمون في “عكاشة” و”مول البركي”! مع ضرورة الحرص على استرجاع ما تحصلوه من المال العام…
إن شرط ربط المسؤولية بالمحاسبة هو أساس الإصلاح، والتقدم، ومن غيره سيستمر النزيف… ولا بد كذلك من تواجد تشريعات مُحَيَّنَة ودقيقة لا تسمح لأي كان بالتلاعب أو بالتدليس. لا بد من وجود هيئات حقيقية، ديموقراطية، لا تتستر على الخروقات، ولا تعقد الصفقات تحت الطاولة. لا بد كذلك من وجود موظفين أحياء أولا! موظفين محبين لوطنهم، موظفين قد تخلصوا من صفة الجبن – التي يعرفها علم النفس على أنها دلالة على ازدياد منسوب الخوف وقلق النفس، حيث يصبح الجبان عاجزا عن فعل أو قول كل ما هو حق، يتهرب من مساعدة الآخر، بل وحتى من مساعدة ذاته، في وقت الحاجة… حيث إن تواجد الموظف النزيه شرط أساس في محاصرة الفاسدين والمفسدين. لا بد كذلك من دمقرطة الحصول على المعلومة، وذلك بتسهيل الوصول إلى المعطيات المتعلقة بالتعويضات التي يُحَصِّلها كل موظف، ومهما كانت رتبته، سواء من طرف الهيئات، أو الصحافة، وحتى من طرف الأفراد بموجب حق المواطنة لدى كل دافعي الضرائب، حيث يعتبر هذا العامل حاسما في فضح التلاعبات والسرقة! وليسمح لي القارئ الكريم أن أهمس في أذنه أنه في الأنظمة الديموقراطية يُتعامل مع التعويضات بشفافية تامة، حتى يعلم المواطن أن المسؤول الفلاني أخذ ما يعادل 100 درهم من المال العام عن طريق الخطأِ، ومع ذلك عوقب! حتى يعلم المواطن أن وزيرة تصرفت فيما يعادل 700 درهم من المال العام، فأقيلت من مهامها، وحرمت من ممارسة السياسة بقية حياتها!… أما عندنا في المغرب، فقد أصبح أمر التعويضات من الأسرار حتى يحصن الفساد والريع. والمتتبع سيلاحظ أن النقابات لم يسبق لها أن أطلعت الرأي العام عما يُؤخذ من تعويضات، بل وحتى المجالس المنتخبة ببعض المؤسسات المعنية يتم حجب مثل هذه المعطيات عنها! إن معضلة الفساد المستشري بهذين القطاعين الحيويين، ومنذ البرنامج الاستعجالي خصوصا، طرحت بالبرلمان، وأشارت إليها مجالس دستورية في تقاريرها، بل وأقر بها وزراء مروا بالقطاعين… وهذا كله يستدعي التحرك، وبالدقة اللازمة، من أجل محاسبة مفسدين أسهموا ويسهمون في مأساة وطن، ومن أجل استرجاع مال عام نحن في أشد الحاجة إليه داخل القطاعين، ومن أجل السير المنطقي الصحيح في اتجاه الإصلاح المنشود… هذا ودون أن نغفل ضرورة التحقيق في مآل الأموال المحصلة من الجهات الخارجية. إن هذه الأموال لا يتم ضمها للميزانيات المعتمدة، والجهات الخارجية لا تمنحها إرضاء لهذا أو ذاك، بل هذه الهبات هي مقابلا لما تمثله أو تقدمه الدولة المغربية للطرف المانح…
وأما الحاقد فهو لا يقل خطورة عن قرينه الفاسد، بل الفاسد في الأساس هو حاقد، حاقد على وطنه بالأساس… والحاقد غالبا ما يكون فاسدا حتى يعوض عن عقد نقصه. المسؤول الحاقد يكون مريضا بعقد النقص والحسد المكتسبة في الماضي، والتي تستمر مؤثرة على تصرفاته وقراراته في بيئة عمله. وفي هذا الصدد يشير عالم النفس (ماكبرايد) بأن بعض العقد قد تعيش في لاوعي الشخص، وتفرز الاضطراب النفسي والكبت والشعور بالدونية، فيؤذي بالتالي من حوله لأجل التنفيس… والمتتبع يلحظ مثل هذه التصرفات من خلال محاولة المسؤول الحاقد تحطيم قدرات الموظفين، وسرقة إنجازاتهم، وتلويث بيئة العمل… هذا دون أن نغفل ما قد يتعرض له الموظف من مضايقات واستفزازات حيث يحضرني هنا، مثلا، توزيع ما يفوق الثلاثين استفسارا على أساتذة باحثين في مؤسسة للتعليم العالي أسندت مهمة تسييرها لأستاذ للثانوي في الأصل!
وأما الجاهل فضرره خاصا، حيث قد تتعطل المهام على يديه نظرا لفهمه القاصر للقوانين، والتفسيرات الغبية لها أحيانا، كما تنعدم لديه روح الابتكار والمبادرة، مما ينفر الموظف الجاد من العمل، ويدفعه إلى رحمة العقل بالابتعاد قدر الإمكان عن الغباء والتلوث الفكري… والجاهل ينحو نحو محاربة كل من رأى فيه تميزا إن لم ينخرط هذا المتميز في خدمته أو خدمة جهله، وبالتالي يصبح الجاهل حاقدا. كما أن المسؤول الجاهل معروف عنه الاهتمام الزائد بالمظاهر، فتجده حريصا على ربطة العنق، ومصرا على إضافة نوع من الهالة بكل ما يحيط بمكتبه. كما أن المسؤول الجاهل متميز بالجبن والخنوع لكل من هو أعلى منه رتبة إدارية، وهو في محاولة مستمرة لشراء الأفراد وحتى الفِرَق… مما يحتم على الجاهل أن يكون فاسدا…
إن المسؤول الذي تتوفر فيه إحدى الخصال الثلاث، موضوع المقال، يعتبر مسؤولا سيئا، والعاملون معه سيعانون من الشلل، والانقسامات، والصراعات، والمكائد، وتسييس جو العمل بوجه عام. والمسؤول السيئ غالبا ما يلجأ إلى بعض الحيل والأساليب غير الأخلاقية، مثل استغلال بعض الموظفين لنقل الأخبار ونشر الشائعات لصالحه، مع مكافأة هؤلاء المتزلفين، والسعي إلى التضييق على المعارضين من أجل فسح المجال للموالين، وتشجيع الصراعات بطرق ماكرة لكي يضمن إشغال معارضيه، بل وحتى التفكير في إزاحتهم! كما يسعى جاهدا إلى أن يخلق لنفسه شلة من المتنفعين والمطبلين للإشادة بإنجازاته الوهمية. كما يركز المسؤول السيئ على التقرب، وبشتى الطرق، ممن هم أعلى منه في الهرم الوظيفي، حيث يظهر أمامهم كالتلميذ المطيع، ويذعن لهم في كل ما يطلبونه منه! مع التعويض عن ذلك بالتنمر على مرؤوسيه… ولينتبه القارئ الكريم أننا بصدد الكلام عن مسؤول سيء بناء على اتصافه بصفة من الصفات الثلاث، وسنترك له أن يتخيل واقع من يعمل مع من توافرت فيه كل الصفات من فساد وحقد وجهل.
وكما لاحظت أيها القارئ الكريم فإننا لم نشر البتة إلى الشهادات العلمية! إذ رغم ضرورتها البديهية، هناك من يغطي على جهله بشهادات وخبرات وظيفية سطحية! إن الشهادة العلمية، أو الخبرة الوظيفية، إن لم تقترن بالأخلاق، والأمانة، والضمير الحي، فلا بد لك أن تستشعر أن هناك خللا ما، وهذا ما يمكن لمتفحص فطن أن ينتبه إليه في منظومتنا التي أصبحت تعرف فاسدين ومفسدين من مختلف الرتب والأصناف، حتى أصبحنا نقف على كوارث ترتكب من أجل الترقي المادي أو الوظيفي أو الاجتماعي…
إن ما يبلغنا بخصوص طريقة اختيار مسؤول ما، سواء لتعيينه أو حتى تكليفه في قطاع التعليم المدرسي أو قطاع التعليم العالي، ليتعارض مع ما يجب أن يتوفر من أخلاق الشخصية المهنية، كالأمانة، والسواء، والكفاءة، والجدية، والذكاء، ويجعل الأمل في النهوض بقطاعين حيويين، وبالتالي المساهمة الفاعلة في النهوض بمجتمع يعاني، مسألة مؤجلة… حيث لا زال يبلغ إلى مسامعنا كلام غريب عن التدخل المحتمل، وفي حالاتٍ للحزب والزاوية، للعرق والقرابة، بل وحتى للقبيلة والمصاهرة، بل ولأشياء أخرى، من أجل الظفر بمسؤولية في هذين القطاعين! لتبقى الاستقامة، والكفاءة، والمهنية ضحايا في مشهد عبثي…
إن ما نراه منطقيا هو أن يتم استبعاد كل المحددات غير العقلانية، والتي تدخل كلها في إطار الرشوة وتقاسم الريع، والعمل مقابل ذلك بلجان انتقاء مختصة، ونزيهة، وتضم بالضرورة أطباء نفسانيين! حيث تعطى لها حرية القرار… كما وجب التنبيه إلى أن الجو السائد الآن يجعل منظومة التربية والتكوين والبحث محرومة من العديد من كفاءاتها، كفاءات ترى أن تقلد المسؤولية معناه الخنوع والانخراط في ولاءات لا تليق، وبالتالي الانخراط في فساد ما! كما لا يجب أن نغفل حالات نادرة لمسؤولين حاولوا إطلاع الجمهور على نسبة إنجاز المشروع الذي اختيروا بناء عليه، وما أثار ذلك من استغراب، واستهجان! في بيئة جعلت من المشروع المقدم شكلية من الشكليات يلتزم المرشح بمناقشتها أمام لجنة الانتقاء، وليس للتنزيل وإطلاع الجمهور على ما تم تحقيقه مع نهاية الولاية، ليكون بدل ذلك مشروع “راهُمْ عَيْطُو عْلِيَّ من الرباط!”… وأما التكليف المؤقت فلا بد أن ينضبط للقانون أولا، لا أن تصبح الجهات الوصية أول خارق للقانون حيث يصير التكليف طول الوقت بشكل من الأشكال! كما يجب المصاحبة والتتبع الصارم لكل مكلف، لأن المكلف إذا سادت لديه عقلية الغنيمة قد يرتكب حماقات لا يمكن تصورها…
*
كلمات دلالية: الإدارة؛ الفساد؛ المسؤول السيء
—
محمد طلبي
أستاذ باحث في الرياضيات
عضو اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي
وجدة، المغرب.