من شجون زيارة جرادة
محمد شحلال
قبل أن ينفتح باب الهجرة نحو أروبا بالنسبة لأهالي بلدتنا،كانت مدينة جرادة محطة هامة في حياة هؤلاء الناس الذين باعوا دماءهم مبكرا من أجل لقمة خبز في أعماق منجم قاتل.
كان العمل بمدينة الفحم، بديلا لا محيد عنه لكثير من الشباب الذين أنهكتهم البطالة المقنعة في بلدة يسود فيها نمط حياة لا يزيغ عنه أحد.
لم تمنع الحوادث المميتة الناس من الالتحاق بمناجم الفحم،ذلك أن العائدات الزهيدة ،كانت تسمح يومئذ ببناء حياة زوجية مخالفة للمألوف،وتساعد العائلات على اقتناء أهم ضروريات العيش البدوي،وفي مقدمتها ، السكر والشاي وبعض المرفقات التي تخل بالنظام الغذائي المعتاد.
إن استقرار أبناء البدو بمدينة جرادة،قد أحدث تغيرا في تقاليد أسرهم،وهكذا،وبمجرد أن يتأهل هؤلاء الأبناء،ويحصلون على إقامة في الحي المغربي* فإنه يصبح بإمكان الأبوين والأقارب عموما،أن يسافروا نحو المدينة العمالية لاكتشاف جزء من عوالم الحياة فيها بحس البدو الذين يلتقطون كل التفاصيل،ليسنجوا منها أحاديث العودة بما يلزم من ملح !
كان المسافرون في الستينات من القرن الماضي من بلدتنا نحو جرادة،يحترمون طقوسا عديدة،حيث يختارون بين استقلال الحافلة التي كانت تربطمها عبر رحلتين أسبوعيتين،أو التنقل عبر الشاحنات لربح بعض السنتيمات على حساب راحتهم وسلامتهم.
لم يكن السفر ليتم إلا بعد تحضير بعض الهدايا التي يترقبها ،،الزوفريا،،وعلى رأسها ،،ثوريفث،،وهي عبارة عن شعير محمص، يقبل عليه كثير من الناس،ناهيك عن البيض البلدي المسلوق،ونصيب من الزبدة الطازحة أو الحائلة تبعا للفصول.
عشية السفر،وبعد أن يكون جل الجيران على علم بالنبإ،فإن البعض يتهافت على بيت المسافر لتبليغ رسالة شفوية أو هدية ينتظر الردود عنهما عند العودة.
لقد ساد تقليد محمود بين أبناء البلدة العاملين بمدينة جرادة،حيث ما أن يعلموا بخبر قدوم أحد المعارف أو الجيران ،حتى يبرمجوا له وجبة غذاء تكريما له،بل إن الكرم قد يصل الى حد قضاء يوم أوعدة أيام في ضيافتهم.
كان،،الدواز،،*أو طبق المرق مرفقا باللحم والخضر،من أكبر أحلام الأهالي وهم ينزلون ضيوفا بمدينة الفحم،ذلك أن هذا الطبق كان غير مألوف عندهم،حيث تسود وجبات لا تجتمع فيها كل العناصر اللازمة لتحضير وجبة مثالية،لذلك كان ،،الدواز،،وجبة مصنفة تتحول إلى موضوع حديث ذي شجون عند العودة وتقديم جرد بأهم محطات الرحلة.
وإلى جانب،،الدواز،،فإن الذهاب إلى الحمام،كان إنجازا حقيقيا لضيوف المدينة،حيث يتاح لهم أن يكتشفوا مدى هول تجاهلهم لأجسادهم عندما تتحلل من كل أثقالها فتكتسي ،،لوكا،،جديدا.
كانت النساء القادمات الى مدينة جرادة أكثر إقبالا على الحمام بحثا عن دعم محتمل لأنوثتهن التي قادتها قساوة البادية نحو الخشونة المبكرة،كما كانت زيارة الطبيب في مقدمة برنامج زيارتهن ولو من غير سبب ليثبتن لمن يهمه الأمر،بأن حالتهن الصحية لا تشكو عطبا،وكلام الطبيب هو الذي يلجم كل الألسنة !
كنا- معشر الصغار- ننتظر عودة المسافرين لنيل نصيبنا مما حملوه من هدايا تتلخص في كمية من الفول السوداني،ونوع من،،البشكيطو،،من أرخص الأنواع،وهو على شكل حروف لاتينية،إلى جانب بعض الفواكه تبعا للفصول.
لم تكن الهدايا وحدها هي التي تستهوينا،وإنما كنا نسعد بسماع أخبار الجولة حول،،التريسينتي،،والفورنو،،وخبز،،بولانجي،،والطوبيس و،،الحلايقية،،وما ينشرونه من ثقافة يلتقطها البدو بأمانة فتصبح مرجعية لا غنى عنها،وهي أحداث كانت كلها تدفعنا لالتماس السبيل نحو الحياة في المدينة ،وكان التعلم اختيارا مثاليا.
عندما يعود ضيوف المدينة إلى مسقط الرأس،فإن الجيران يتحلقون حولهم لسماع اخر الأخبار، والاستمتاع بريبيرتوار الزيارة التي تعاد فصولها بكل دقة على نكهة الشاي والفول السوداني،وهو ما يوقظ في نفوس الاخرين رغبة في برمجة زيارة لمدينة العمال للتنفيس عن النفس وتجديد الإقبال على الحياة.
مع مرور الأيام وبعد استعراض كمية أطباق ،،الدواز،،التي أعدت على شرف الزائر،فإنه يشرع في تدقيق حساباته خاصة بعد اقتراب فصل الصيف،حيث يعود جل،،الزوفريا،،لقضاء فترة،،الكونجي،،بمسقط الرأس.
إن الكرم الذي عاشه البدوي بالمدينة،لا يلبث في الواقع أن يتحول إلى دين يتعين قضاؤه.وهكذا ،يستعرض رب البيت مع الزوجة وأفراد العائلة لائحة مستضيفيه ،وعدد وجبات،،الدواز،،التي التهمها،ليرد الدين بطريقته.
كان البعض من هؤلاء البدو ممن يسر الله عليهم،يذبحون شاة ،،للزوفريا،،الذين أكرموهم،ثم يتلو ذلك تقديم أطباق الدجاج البلدي على الطريقة البدوية،وإذا كانت الظروف رائقة،فإن ،،الزوفري،،يتناول كمية من جبن الماعز الذي يعتبر أجود أكلة عند سائر الأهالي خاصة إذا كان على طريقة ما يعرف ب،، أحباس،، وهو الجبن الذي يتم تقطيره في شبكة من أغصان الحلفاء، فتنضاف نكهته الى شكله الهندسي.
ما لبثت هذه المعاملات أن تحولت إلى تقليد متبع بين ساكني البلدة والمدينة،وصار لكل طرف مستضيفوه حتى كاد هذا التقليد أن يتحول الى دين،لولا تعاقب تعاقب الأيام التي فعلت فعلتها في كل شيء،فلا جرادة عمرت الى اليوم،ولا البادية احتفظت بمقومات الماضي،فكان هذا النمط الجديد من سلوكات الأفراد الذي خلا من كل لمسة إنسانية بريئة.
في مدينة ،،جرادة،،أتيح لجل الساكنة المهاجرة من الجوار،ثم من كل أنحاء الوطن ،أن تعرف أبجديات الحضارة التي أرسى دعائمها الرجل الأشقر حين اكتشف الفحم فبنى العمران وأضاء بواسطة،،التريسينتي،،ثم أحضر القطار،وبنى السنيما،قبل أن يرحل ويتركنا نأكل بعضنا البعض !
* الحي المغربي،هو الحي السكني الوضيع الذي خصصه المستعمر للعمال،وكان يفتقر الى شروط السكن اللائق،حيث يتكون بالنسبة للأسرة الصغيرة من غرفة ومطبخ ومرحاض بدون باب في جل الحالات،بينما يتكون من غرفتين بالنسبة للاسرة متعددة الأفراد،وكان الماء لا يطلق الا في اوقات محددة يجب ترصدها.
يقابل هذا الحي اخر يعرف بالحي الاروبي،وهو عبارة عن فيلات فسيحة خصصت للنصارى قبل أن يستفيد منها الأطر المغاربة لاحقا…..
محمد شحلال