عالم منزوع الآدمية..!
المختار أعويدي
من فواجع هذا الزمان المفجعة، وتجليات انحطاط بني البشر وحضيضهم، ما يحدث من تفرج العالم كل العالم، بغربه وشرقه، وشماله وجنوبه، وعربه ومسلميه، ونصاراه وملحديه، ومطبعيه وممانعيه، وشعوبه وحكامه. ومتقدميه ومتأخريه، و”متحضريه” ومتخلفيه، وفقرائه وأثريائه، و”ديموقراطييه” وديكتاتورييه، ومؤسساته ومنظماته، ومجالسه وهيآته المختلفة.. تفرج الجمييييع.. الجميييع بشكل مخزي حقير، منزوع الإنسانية مبتور الآدمية، على الجرائم الوحشية والمذابح البربرية العمياء، التي يرتكبها الكيان الصهيوني المجرم، منذ أزيد من ثلاثة أشهر كاملة، في حق أطفال ونساء ورجال فلسطين العزل في غزة. حتى قد أصبح الأمر من فرط طول زمن قيامه وخسائره الجسيمة، مسلسلا روتينيا يوميا معتادا، تُستعرض فيه حصيلة المذابح المرتكبة في حق الأبرياء، وتُحصى اعداد المؤسسات المدنية المدمرة، التي أجهز عليها العدوان الهمجي الغاشم (مستشفيات، مدارس، مساجد…) مسلسلا يوميا لا يكاد يُحرك في النفوس ساكنا، أو يبعث في الأفئدة حسرة، أو يبث في الضمائر وخزا وتأنيبا، أو يدعو إلى قيام صرخة حق توقف هذه المجازر، وتحقن دماء وأرواح الأطفال الأبرياء والنساء الثكالى والأرامل والشيوخ العجزة..
هل أصيب العالم أمام كل ما يحدث في غزة من مذابح بشعة بجلطة أخلاقية متعذرة العلاج، وبوَرم قيمي ميؤوس من شفائه، حتى يستطيب التفرج يوميا على قيام آلة حرب بربرية عمياء، بتحويل أجساد بشرية بريئة إلى دماء وأشلاء، من دون أن يتحرك عاقل أو يبادر غيور للقيام بأي رد فعل عملي لإيقاف ما يحدث..
هل بلغ العالم كل هذا الدرك والحضيض الأخلاقي. وهذا المصير الوحشي المحتوم، الذي نزع عن بني البشر آدميتهم، وعراهم من إنسانيتهم. وأفضى إلى ما هي عليه حالهم من وضاعة وحقارة وانتفاء لِحِسهم الآدمي.
لقد كشف هذا العالم الحقير الظالم، بخرسه المخزي وتفرجه السلبي أمام ما يحدث، على أنه يَعتبر الأرواح البشرية الفلسطينية رخيصة وغير جديرة بالحياة، إلى هذا الحد المخزي، الذي يسمح بل يبرر ويشجع أن تتحول فيه إلى صيد تافه لأدوات الحرب البربرية العمياء لمحتل غاصب مجرم، لتحصد منها المئات يوميا.. حتى قد بلغت حصيلة هذه الجرائم أرقاما مفزعة (25 ألف شهيد – 60 ألف جريح – 7 آلاف مفقود تحت ركام المنازل المدمرة…) سيسجلها التاريخ كوصمة عار تلطخ جبين هذا العالم الظالم القذر، وتهماً ثقيلة غير متقادمة، ستظل تطارد مجرميه وحكامه ومسؤوليه وجميع كائناته غير الآدمية، المتواطئة فيما حدث، اقتناعاً أو جبناً أو تقاعساً أو تخاذلاً أو لا مبالاة..
إنه فعلا عالم حقير وضيع، تحكمه كل قيم الطغيان والتسلط والإستقواء، حتى أنه يكفي أن تمسك بناصية التكنلوجيا وتتمكن من آلة الحرب الفتاكة التي لا تردعها قيم ولا أخلاق، كي تُنصِّب نفسك سفاحا قتالا ممسكا برقاب الناس الأبرياء، من دون محاسبة أو عقاب.
يبدو أن كل المواثيق والقوانين والقيم والمؤسسات الدولية التي يتغنى بها الغرب، ويعمل على تسويقها والتبشير بها، واستعمالها في مَنح شهادات “حسن السيرة والسلوك” للدول والبلدان المقهورة والمغلوبة على أمرها قد انهارت وتبخرت، وانكشفت حقيقة كونها لا تعدو سوى أن تكون معزوفات مشروخة تافهة فارغة من أي مضمون، يستخدمها الإنسان الأبيض لإخفاء وجهه البشع الملوث على مدى تاريخه بالجرائم وبالدماء والأشلاء والجثث. مواثيق وقوانين ومؤسسات لا أثر ولا وقع ولا تأثير لها، سوى حينما يتعلق الأمر بالرجل الأبيض (أوكرانيا نموذجا). ما عدا ذلك، ليس هناك سوى سلطة واحدة وحيدة، هي التي يتم إنفاذها في هذا العالم الظالم، هي سلطة القوة والغلبة والجبروت.
أمام هذه الصورة الموغلة في السوداوية لهذا العالم الظالم، يبدو أن لا أديان ولا شرائع و لا تعاليم ولا ثقافة ولا حضارة ولا قيم ولا يحزنون، استطاعت تهذيب الجانب الوحشي في هذا الإنسان، وتمكنت من تلقينه قسطا من موجبات آدميته، ونجحت في تعليمه كيف يمارس إنسانيته ويحرص على آدميته، ويتصرف كإنسان سوي، وهو الكائن “العاقل”، “المتحضر”، “المتدين”، “الحقوقي” “الحامل للقيم والأخلاق والمبادئ”..
إن ما يزيد قساوة المشهد وقتامة الصورة، صورة هذا العالم اللاأخلاقي، أمام ما يحدث في غزة، ليس قهر الأعداء وجبروتهم فقط. (،لكن في ظل كل هذا المشهد السوداوي الكئيب،) ولكن أيضا تقاعس ونكران الإخوة في الدين والانتماء والهوية. فليس أكثر ما يحز في النفس، ويوغر القلب، ويبعث على المرارة والحزن وكل صور الوجع والألم، من هذا التقاعس المخزي والخذلان العارم، الذي أبداه وكشف عنه العرب والمسلمين حيثما وجدوا. لا بل واصطفاف بعضهم بوقاحة ونذالة، بشكل أو بآخر، في صفوف العدو الصهيوني المجرم. من قبيل ما يفعله نظام مصر العميل في الجهر والعلن، من خنق وتضييق وتجويع للشعب الفلسطيني اليوم، بل ومنذ سنوات في غزة، وما يفعله كثير من الخونة المتواطئين في السر وخلف الكواليس.
لقد بلغ التقاعس والخذلان والنكران، والتفرج السافر اليومي السلبي على مذابح الأطفال والنساء والشيوخ، الذي كشف عنه مجموع العرب والمسلمين، ومنهم ويا للحسرة وطننا، الغارق في التطبيع مع الكيان الصهيوني المجرم، حدا جعلنا نخجل من انتمائنا، ونشعر بالخزي والعار والهوان أمام ما يحدث. ونعاني أزمة ضمير حارقة لا سبيل إلى الإنفكاك منها. ونتجرع أوجاعا وآلاما مريرة لا تكاد تفارقنا منذ انطلاق مجازر هذا العدوان الصهيوني البربري على الأبرياء من أبناء فلسطين.
فليذهب هذا العالم الظالم بجميع مواثيقه وقوانينه وهيآته ومجالسه ومؤسساته وقيمه ودوله المتغطرسة الظالمة إلى الجحيم.
ولتذهب كل الشعارات الفارغة، من قبيل”الأخوة العربية”، والوحدة العربية”، والتعاون العربي”، و”الميثاق العربي”، و”الدفاع العربي المشترك”، و”التضامن الإسلامي”، وغيرها من الإنشاءات الجوفاء إلى الجحيم.
ختاما هذه صرخة وجع، أن إرحمونا في وطننا من ألم وهوان التطبيع المخجل، وخزي الإرتماء في أحضان الكيان الصهيوني الغاصب، وارفعوا عنا حرج الشعور بالعار وتأنيب صوت الضمير الحارق لذواتنا. وأنصتوا قليلا إلى نبض الشعب. فقضيتنا الوطنية التي نقايض بها هذا الثمن المخزي، ونضعها في ميزان المساومة مع هذا الكيان الصهيوني المجرم، هي أكبر وأقدس وأشمخ مِن أن تلوث بجرائم هذا الكيان الغاصب الذي لا يؤمَن شره أبداً أبداً. فأخطار تغللغله في بلادنا، منذ انطلاق التطبيع المشؤوم، لا تنفك تتعاظم وتزداد خطرا، “فاعتبروا يا أولي الألباب”..!