من السلطان الحسن الأول إلى الملك الحسن الثالث
بقلم: عبدالحق الريكي
“هذا جِيل جديدْ ما فيه عبدْ ولا سِيدْ […]”
ناس الغيوان في أغنية “والنادي أنا”
كثر الحديث مؤخرا عن السلطان الحسن الأول الذي ازداد بفاس سنة 1836 وتربع على العرش من سنة 1873 إلى أن وافته المنية في سنة 1894، لسببين رئيسيين: الأولى تتعلق بكون الملك المقبل سيحمل اسم الحسن الثالث، والثانية كون السلطان الحسن الأول كان مُصلحا وحارب التدخل الأجنبي.
ونجد ذلك في مجموعة من الكتابات تناولت بالتحليل ظاهرة الحسن الأول، أذكر منها على سبيل الاستئناس الكتاب الجماعي الصادر عن جامعة سطات (2024) وكتاب المؤرخ الشاب فريد البحري “السلطان مولاي الحسن – سياسة تتحدى الغرب” (2023) ومقالات المؤرخ عبد الأحد السبتي في مجلة تاريخية، شهرية، تصدر من الدار البيضاء وكذا العديد من المقالات في نفس المجلة. كما لا يفوتني ذكر كتاب الطبيب الفرنسي لويس أرنو (Louis Arnaud) “زمن “المحلات” السلطانية” (1860-1912) (Le temps des Mehallas)، ومقالات محمد قنبيب.
والتذكير بالمقال المهم حول هذا السلطان، المكتوب من طرف الشاب آدم بوبل، الذي يذكرنا أن أول مؤرخ مغربي تحدث بإسهاب عن السلطان الحسن الأول كان المؤرخ الكبير عبد الله العروي في كتابه القيم “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912″، وكان في الأصل بحث الدكتوراه قدمه المعني بالأمر سنة 1976 باللغة الفرنسية. يخبرنا الباحث في القانون الدستوري، الشاب آدم بوبل، أن عبد الله العروي كان “مُعجبا” بالسلطان الحسن الأول الذي حاول إدخال بعض الإصلاحات (في التعليم والإدارة والجباية) وإبعاد محاولات الغرب الأوروبي احتلال المغرب. أشجع الشباب للبحث عن هذا الموضوع الشيق جدا، وعن هذه المصادر وأخرى لم يحالفني الحظ لإيجادها.
لست مؤرخا، لذا سأتحدث في مقالي هذا عن السلطان الحسن الأول، وعن “نصيحة” محمد الفقيه البصري حين تنصيب الملك الحالي محمد السادس، والطريقة التي كانت تدار بها البيعة وعلاقتها بالدستور وأشياء أخرى. لا تتسرعوا، سيتضح قصدي بإدخال في الموضوع، المقاوم محمد البصري الملقب ب “الفقيه”. أطالب منكم الصبر حتى نهاية المقال، فإن أصبت فلي أجران، وإن أخطأت فلي أجر الاجتهاد. فلنتوكل على الله عز وجل.
في هذا الإطار، أحيل القارئ إلى عدة كتب ومقالات، أذكر منها الكتاب القيم المعنون ” الفقيه محمد البصري – سيرة الوفاء” من حوار المثقف حسن نجمي وتقديم الأستاذ عبد الصمد بلكبير في طبعة ثانية منقحة، وكذلك مقالات الكاتب اللبناني والمحاضر في معهد العلوم السياسية بباريس، “جورج الراسي”.
عند تنصيب الملك الحالي، محمد السادس، سنة 1999، والعهدة على الرواة، صرح المقاوم محمد الفقيه البصري، أن على هذا الملك اتباع سياسة جده محمد الخامس وليس سياسة أبيه الحسن الثاني. يمكن أن يقال الشيء نفسه عن الملك القادم الحسن الثالث الذي يجب أن يحتذي بطريقة السلطان الحسن الأول في إصلاحاته ومحاولاته إبعاد قدر المستطاع المغرب عن الغرب الإمبريالي، وليس سياسة جده الحسن الثاني. لكن السؤال يطرح نفسه: من هو الفقيه ومن هذا العبد الضعيف.
محمد الفقيه البصري كان من ضمن قادة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، وكان يعتبره السلطان محمد الخامس ولده ليس من صلبه، وحين استقلال المغرب سنة 1956، كانت تقام احتفالات “ثورة الملك والشعب” في الدارالبيضاء، بخطابين: خطاب الملك الراحل محمد الخامس وخطاب المقاومة يلقيه الفقيه البصري. وفي هذا الصدد على الباحثين التيقن من هذه المعلومات وعلى الدولة إن كان هذا صحيحا فعليها تغيير توجهها نحو قراءة جديدة للتاريخ.
لقد عرفت “الفقيه”، عبر صديقي عبد الكريم بنعتيق، لما دخل المغرب بعد تقريبا ثلاثين سنة من المنفى في الخارج (1966-1996)، وخاصة بعد أحداث 1973، وقضايا أخرى ما بين 1956 وخروجه الاضطراري من المغرب سنة 1966. لم أكن من أتباعه. كنتُ أحترمه كثيرا لأفكاره وخاصة موقفه من “الكتلة التاريخية”.
يقال إنه كان “نظيف اليد والضمير” لذلك ساهم بالمال الذي أعطي له بعد الاستقلال في خلق مقاولة “التحرير” الصحفية (كان مديرها ورئيس التحرير كان الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي)، ودار النشر المغربية والبنك الشعبي وذلك قبل جيل الشباب الذي خلق مقومات الاقتصاد الوطني، وأقصد عبد الرحيم بوعبيد و ديوانه المشكل، خصوصا، من محمد لحبابي، عزيز بلال و ابراهام السرفاتي.
وأغتنم هذه الفرصة للمطالبة علنا من المرحوم محمد الفقيه البصري، المسامحة على “تطاولي” عليه في مكالمة هاتفية (أعتقد أن الأجهزة لها تلك المكالمة الليلية الطويلة، ما دام هاتف الفقيه كان مراقبا). ونعود لموضوعنا المهم والأهم. أعتبر جازما أن الملكية المغربية لها طقوسها، وإنها حريصة على عدم إنهاء العهد بيد من يمسك المُلْك، وأنها واعية بتاريخها. لذلك لا داعي للتذكير بأن ملكا معينا عليه اتباع خلف ما.
ما أرى، وهذا من صلب السياسة، أن الدولة المغربية مطلوب منها تغيير منهجها العام، والانفتاح على محيط متغير وشبات وشباب طموح، وذلك عبر إصلاحات مؤسساتية ودستورية، وتنقية الأجواء عبر إطلاق كل المعتقلين السياسيين ومنح للشعب حرية اختيار ممثليه.
يجب القول أنه من قبل كان السلطان يعين من أراد من أفراد عائلته وليس بالضرورة ذكرا من صلبه، أما في هذا الزمان فالدستور الحالي (2011) في فصله 43، يقول بالحرف ” إن عرش المغرب وحقوقه الدستورية تنتقل بالوراثة إلى الولد الذكر الأكبر سنا من ذرية جلالة الملك محمد السادس، ثم إلى ابنه الأكبر سنا وهكذا ما تعاقبوا، ما عدا إذا عين الملك قيد حياته خلفا له ولدا آخر من أبنائه غير الولد أكبر سنا، فإن لم يكن ولد ذكر من ذرية الملك، فالمُلك ينتقل إلى أقرب أقربائه من جهة الذكور، ثم إلى ابنه طبق الترتيب والشروط السابقة الذكر”. يتحدث هذا الفصل، عن الذكور. وعلينا الانتباه إلى كون جارتنا القريبة الأوروبية ستحكمها ملكة عما قريب وهي الأميرة ليونور، أميرة أستورياس.
كل هذا لتفادي ما وقع في التاريخ القديم والحديث. مثلا كتاب “رحلات عبر المغرب” الذي كتبه، تقريبا، سنة 1870 أستاذ اللغات “فرانْثيسكو دِ أسيْس دِ أُرسْتِراثو” (Fransisco De Asis Urrestarazu)، الشهير بالطالب “سيدي عبدالقادر بن الجِيلالي” وترجمة الدكتور مزوار الإدريسي، الصادر بمدينة تطوان (2023)، في الصفحات 33 إلى 35، متحدثا عن الأسرة العلوية، من مولاي علي الشريف إلى المولى إسماعيل، هذا الأخير ترك أولاد كثر، ما يلي : “مولاي سليمان، اعتلى العرش سنة 1796، وبعد صراعات دموية مع مختلف الطامحين، أرسل سفيرا إلى نابليون الأول؛ ألغى القراصنة، وأُزيح عن العرش من قبل مولاي إبراهيم، الذي من جهته أُزيح من قبل أخيه مولاي زيد سنة 1821، وهذا من قبل سليمان، الذي حافظ على الحكم حتى سنة 1822، التي عين فيها خليفة له مولاي عبدالرحمان، ابن مولاي هشام”.
أما في القريب فالكل يعرف كيف تولى العرش السلطان بن يوسف، أب السلطان محمد الخامس، هذا الأخير، فضل أطروحة الحركة الوطنية على تلك المقدمة من طرف المستعمر الفرنسي، ولقب بذلك من ضمن الألقاب الكثيرة، ملك “كريان سنطرال”، وهكذا يخبرنا موقع كازا 24، بما يلي: “وتجمع الروايات على أن اسم الحي المحمدي، هو كناية على السلطان محمد الخامس الذي زار الحي مرارا، إلى درجة أن السلطات الاستعمارية كانت تلقبه بملك كريان سنطرال، قبل أن يحمل اللقب بشكل رسمي بعد الحصول على الاستقلال”.
ما يؤكد كون الملك محمد الخامس كان يتردد كثيرا على الدارالبيضاء ما قال محمد الفقيه البصري في سيرة الوفاء، صفحة 102، بما يلي: “وحدث يوما أن كنت عائدا إلى البيت من زيارة قمت بها لعبد الله ابراهيم… وعندما وصلت قرب الملعب الشرفي، إذ بالمغفور له محمد الخامس في سيارته التي كان يقودها سائقه الشخصي، فسمعت صوت “المنبه” وانتبهت لأجد الملك إلى جانبي. توقفنا في الشارع. وسألني: سي محمد، ما هذا الوضع في البلاد؟ وأضاف: ” أنا غادي نعتمد عليك. خاص هذه القضية يتلقى لها حل، ونبقاو على اتصال”. ومباشرة عدت إلى بيت عبد الله ابراهيم، أخبرته بأنني التقيت الملك في الطريق من بيته إلى بيتي…”.
لقد جرى، حسب الرواة دائما، نقاش خصب بين الحاكمين، عند تنصيب الملك محمد السادس، بين القائل بالاكتفاء بدستور 1996 وما بين المتشبثين بالبيعة. كان الرأي الراجح من جانب أصحاب البيعة. اليوم (2024) لدينا وثيقتين، الوثيقة الدستورية لسنة 2011 التي تتحدث عن المواطنات والمواطنين ووثيقة البيعة التي تتحدث سوى عن الرعايا.
هناك الكثير ما يقال… لكن الحي المحمدي الذي ذكرناه سابقا، أنتج فرقة غنائية ألا وهي ناس الغيوان. قالت هذه الفرقة الكثير، لكن ما زالت كلمات خالدة في ذهني، لأنها أمثال فلسفية تاريخية ونضالية، من قبيل، “غيْر خُودوني؛ لله غير خودوني”، و”يَا صَاح رَاني وسْط الحَمْلة”، “سبحان الله صِيفْنا ولَى شْتوَة”، “ما هموني غير الرجال إلَى ضَاعُو… لحْيُوط إلى رَابُوا كلّها يَبْنِي دَار”، وخاصة “هذا جِيل جدْيد ما فيه لا عبْد ولا سيدْ”.
لا شك أن ذاكرتكم تبحث عن مقتطفات أخرى من أغاني ناس الغيوان.
بقلم: عبدالحق الريكي
الرباط، الإثنين 29 يناير 2024