يرحَلُ الكَان، ويَبقى الوَطن
بقلم: إدريس الواغيش
الوطن أكبرُ من رُقعة جغرافية ترسُمها الحُدود، وأبعدُ من دَوري في كرة القدم. الوطن هوية، نُعرف بها، هو شُعورٌ وإحساسٌ داخلي يسكُننا ونسكُنه. وسواء شئنا أم أبينا في مقابلات البطولات الرياضية، ما بعد إقصاءات المجموعات، سيكون خاسر ورابح، وفق ما يتطلب قانون اللعبة. وفي قانون مثل هذا، دائما هناك غالبٌ ومَغلوب، ولسنا نحن من يشاء التّموقع، ولكن هذه المَرّة، شاء الحظ أن نكون من الخاسرين في مواجهة جنوب إفريقيا. خسرنا المقابلة ولم نخسر المُستقبل، ولا عزاء للحاقدين.
وهنا لن أكون حاقدًا ولا جاحِدًا، ولن أنكر ما عشته مع ملايين العرب والمغاربة من لحظات مُمتعة، ونشوة فرح منقطعة النظير مع كتيبة أسود الأطلس في مونديال قطر، وأنكر الجميل في لحظة انفعال عابر، وبُركان غضب مُنفجر، ما أنجزه “راس لافوكا” وليد الرّكراكي من أمجاد كروية. يكفي أن أذكر بأنه أوصلنا إلى العالمية، وتوقفنا في المركز الرابع بمونديال قطر، وكنا نذهب بعيدا لولا تواطؤ الإفرنج ضدّنا، وحصلنا على المركز الأول إفريقيا وعربيا، كما عشنا معه نشوة الانتصار في مقابلات أخرى رسمية وودّية، كانت آخرها مقابلة مع البرازيل منتخب “السامبا”، في احتفالية استعراضية أدهشت العالم بملعب طنجة.
ولكن في الكَان الإيفواري، شعرت بغُبن وحُزن شديدين في ليلة الإقصاء. وحين أحسست بغُصّة في الحلق، أطفأت التلفاز قبل صفارة النهاية. لم أكن أراهن على الذهاب بعيدا، لأنني كنت أعرف بمعرفة المُستعلمين لا العُلماء ما عند خُصومنا، وما بين أيدينا وأمام عُيوننا. صحيح أن الفريق الوطني المغربي كان مدجّجًا بأسماء وازنة تمارس في كبريات الأندية الأوربية: فرنسا، ألمانيا، هولندا، إنجلترا، تركيا وإسبانيا، عكس جنوب إفريقيا التي يلعب أغلب لاعبيها في فريق صن داونز المحلّي، ولكن لم يكن لدينا فعالية في مراكز هجومية حسّاسة. وهذا النّقص المُزمنُ لازم منتخبنا، وغاب عنّا رقم 10 منذ غياب عزيز الدّايدي رحمه الله ومحمد التّيمومي أطال الله في عمره. لا نتوفر في المنتخب الوطني على صانع ألعاب حقيقي، وموزّع جيّد، يخلق لنا توازنا داخل الفريق. ونعاني من غياب رقم 9، ينقصنا قلب هجوم قنّاص، يمكنه تسجيل أهداف من أنصاف الفُرَص، ويصنع الفارق في أيّ لحظة.
كنت أعرف كمُتتبّع عادي أنّ الأجواء في الكان Can ليست كمثيلاتها. والذهاب إلى أدغال إفريقيا، لم يكن في يوم من الأيام نُزهة كروية، لأنّ الأجواء هناك مختلفة، وبالغة الصعوبة والتّعقيد. الفرق الإفريقية تعتمد، بشكل شبه كلي، على القوّة البدنية، هي التي يفتقد إليها أغلب لاعبينا، ورطوبة عالية مع حرارة مُرتفعة. أمّا ضعف التحكيم وانحيازه، الذي لطالما عانيانا منه في إفريقيا، فقد قللت من تداعياته غرفة الفارVAR في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، لم أكن أتوقع أن نُقصى من البطولة بهذه الطريقة. كنت ولا زلت أعشق لعبة كرة القدم، كما باقي شعوب العالم. والآن، أكتفي بمتابعة مباريات كرة القدم، حين يكون المنتخب الوطني طرفا فيها أو أيّ فريق مغربي آخر يمثل الراية الوطنية. ولكنني لست من المهووسين بها، ولا خبرة لي في قوانينها التي لا تكفّ عن التطوّر والتغيّر، ولا أدّعي أنّني مُتخصّص في خُطط المدرّبين ودهائهم، ومع ذلك أكاد أجزم هنا بأن بعض الأخطاء قد ارتكبت في مواجهتنا مع جنوب إفريقيا.
لم يحدث أن كنت متوتّرا في متابعة المباريات، كما هذه المرّة على غير العادة، ودون أسباب واضحة تذكر. شعرت بهذا الإحساس قبل بداية المقابلة وأثناء المباراة. الفريق الجنوب إفريقي لم يكن أحسن حالا منّا، هم أيضا كانوا خائفين مثلنا أو أكثر، وقد رأيتهم متوجسين ومترددين ومُتوتّرين في لعبهم. داخل المستطيل الأخضر، ولكن الحظ كان إلى جانبهم. من فرصتين سجلوا هدفين، وفي المقابل، ضيعنا نحن ضربة جزاء، وأكثر من فرصة للتّسجيل. ماذا سيفعل الرّكراكي كمدرّب؟ هل كان عليه أن يدخل إلى الميدان، ويُسجّل ما عجز عنه مُهاجمونا؟ الله غالب.
المَصائب لا تأتي فُرادى، ظروف متابعة المقابلة في المقهى، هي الأخرى “كان فيها العَكس المُبِين” مُنذ البداية، شنآن وسباب لم يحدث أن رأيته في الثلاث مباريات الأولى، المتفرّجون والمشاهدون كانوا مشحونين أكثر من اللاعبين داخل الملعب. الشيء الذي دفعني إلى استبدال مقهى بآخر. وجدت نفس الشّيء، الكل كان فيها متوتّرًا، وبالتالي “ناضت قربالة” أخرى بين رواد المقهى، وهذا شيء طبيعي بين جمهور متوتر ومشحون في انتظار مقابلة حاسمة، مع ما لازمها من تجييش إعلامي، طغت فيه السياسة على كرة القدم، واجتمعت في الكثير من المقاهي كل المتناقضات: “الخاتر” مع “اللّي كا يطير من المقلة”. ولذلك سارعت إلى مغادرة المقهى والرّجوع مبكرا، وأنا غير مقتنع بلعب منتخبنا الوطني في الشوط الأول، وأكملت متابعة المقابلة على هاتفي الصغير في المنزل.
أنا حزين، ليس بسبب الإقصاء وطبيعة الخسارة، كل الأمور واردة في لعبة دوّارة وغدّارة. أعرف أن في مباريات كرة القدم كل شيء يصبح مُمكنًا، وقد تنقلب الأمور في أيّ لحظة، إمّا لك أو عليك. ولكنني حزين من أجل اللاعب الجميل أشرف حكيمي، غزال الأطلس والقطار المغربي السريع TGV، ليس بسبب أنه أضاع ضربة الجزاء، وهو اللاعب الخلوق المتمرّس والأغلى قيمة سوقية، والمُصنّف أحسن ظهير أيمن في العالم. أعرف أن كبار النجوم أضاعوا ضربات الجزاء، من ميسي إلى رونالدو ومارادونا وغيرهم. كان حكيمي هو اللاعب السّاحر سيّء الحظ في هذه المقابلة، تمرّدت عليه ركبتاه وتبعته لعنة الحظ الفادحة والموجعة. ومع ذلك، سيأتي فمٌ لزجٌ في الأخير، يُسيل لعابه ويطلق لسانه إلى الخارج، ويقول كلاما لا يليق بلاعب وطني جفّ عرقه في ملاعب ساحل العاج. وأنا حزين كذلك، لأنني سوف لن أرى بعد اليوم وجوها كثيرة في المنتخب الوطني، سيكون عامل السن حاسما في اعتزالها، وقد لا نتمكن من رؤيتهم ثانية في مناسبات قارية ودولية مقبلة، وقد عهدنا فيهم الإخلاص لوطنيّتهم الصّادقة، وألفنا وداعة وُجوههم داخل الملاعب.
البُعبع الأكبر في المنتخب المغربي، كان دائما هو وُجود بُدلاء في بعض المراكز الحسّاسة داخل المنتخب، وسيكون من الصعب في الأمد القريب على الأقل، أن نجد من يلعب في قلب هجوم صريح أو صانع ألعاب. وهذان المركزان بالذات، كانا دائما نقطة ضعف في منتخبنا الوطني. وكلنا يتذكر الأسماء التي شغلت هذه المهمات الصعبة بنجاح، ولكنها تبقى قليلة ومحدودة، وتعدّ على رؤوس الأصابع: حميدّوش، البوساتي، أحمد فرس، كماتشو، أما يوسف النصيري فقد ألفنا لعبه، “مرة يمركيها، ومرة يزكلها”، وبذلك كدنا ننسى رقم التسعة والعشرة من حساباتنا الكروية.
كنت أمنّى النّفس، ولو من باب التّمَنّي، أن يُنهي لاعبون من أمثال: غانم سايس، بوفال، زياش، بونو وغيرهم ممّن شرّفوا الكرة المغربية، وأشرفوا على إنهاء المشوار، أن تكون نهاية مشاويرهم الكروية مُكللة بالتّتويج في بُودْيُوم هذا الكان الإيفواري، لما قدّموه من خدمات إلى فرقهم وإلى الكرة المغربية عموما، ولكنّ “الحِلو ما يكملش” كما يقول المصريون، وأجواء إفريقيا تصرّ دائما على أن تظل عنيدة ومختلفة، وتعاكسنا مع كل جيل ذهبي. ولكنني من جهة أخرى سعيد جدا، لأن أفواها صدئة ستقفل طيقانها في بعض الاستوديوهات العربية والمغربية المتربّصة دائما والماكرة بطبعها، وكتيبة من الإعلاميين والصحافيين المغاربة، كانوا إلى الأمس القريب آكلين شاربين “ما عليهم، ما بيهم”، على حساب جيوبنا في فنادق في ساحل العاج، وإذا بالإقصاء يفاجئهم. وسيكون عليهم الرحيل والرجوع إلى مكاتبهم، آسفين حزينين مثلنا في نفس الطائرة، وهم يلبسون زيهم الرسمي الموحد الذي غادروا به مطار محمد الخامس، لأن مشاويرهم “المهنية” انتهت.
وفي الأخير، يرحل الكان عنّا كما في كل مرّة، ويظل الوطن في القلب سَكَنًا وَمَسْكَنًا. برافو الرّكراكي، برافو الدراري. ديما مغرب، وإلى كان CAN الرباط، بحول الله تعالى، لو في العُمر بقيّة.