عن،،المشيخة،،بمدينة جرادة
محمد شحلال
رغم أن مدينة جرادة من المدن الحديثة بشرق المغرب ،حيث يعود الفضل في نشأتها إلى اكتشاف الغحم الحجري،فإنها تعتبر من معاقل الطرب الشعبي ولا سيما ذلك الغن المتوارث الذي يجمع بين الشعر البدوي والناي .
لقد انتقل طرب،،الشيوخ،، من تراث متوارث،إلى حاجة نفسية لأولئك العمال الذي ظلوا يصارعون الموت المتربص بهم في أعماق الأرض،فإذا عادوا إلى الحياة،كانوا في أمس الحاجة إلى من ينسيهم في أهوال ما يلاقونه تحت الأرض،فكان،،الشيوخ،، في الموعد غداة،،الكانزينة،،ليطربوا وينتزعوا نصيبهم من دريهمات بطعم الدم، بعد أن يتفننوا في ترديد الأغاني الشعبية المأثورة أو ما جادت به قرائحهم ،مدفوعين بالتنافس المحموم لصنع مكانة لدى هؤلاء البسطاء الذين يتناوب عليهم الموت في أبشع صوره.
يروي بعض كبار السن أن أشهر عرس نظم بمدينة الفحم،هو الذي أحيته الساكنة في الأربعينات من القرن الماضي، حينما تزوج ،،بلخير،،- أسطورة القمع-الذي سارت بذكره الركبان.
لقد كان عرس ،،بلخير،،حدثا استثنائيا التقط خلاله سكان المدينة أنفاسهم ،ليعيشوا ساعات تعطلت خلالها آلة القمع والتنكيل،ويستمتع المحظوظون منهم بمشاهدة ومتابعة الشاعر البدوي الجزائري : الشيخ المدني الذائع الصيت،والذي حضر خصيصا ليحي عرس،،بلخير،،!
كان حضور،،القصارة،،خاضعا لطقوس صارمة،حيث تنافست القبائل المتعايشة بالمدينة ،في تقديم الهدايا بنية الزلفى والخوف، وفي ذهن كل طرف أن يكسب شيئا من ود هذا الرجل الذي أطلق المستعمر يده ليكون الآمر والناهي بدون منازع.
تمت تصفية،،بلخير،،فجر الاستقلال،وانفتحت أبواب المدينة أمام المطربين الشعبيين القادمين من كل ربوع الوطن،لكن أهل جرادة الأصليين،ظلوا أوفياء ،،للمشيخة،،حيث إن جل الأعراس بالمدينة،لا تكتمل إلا بحضور أبرز الشعراء البدويين وأمهر العازفين على الناي.
وهكذا،وما إن ينطلق صوت الناي في ركن ما من أزقة المدينة،حتى يتقاطر المهووسون ب،،لقصارة،،لينشطوا الحفل عبر،،التبريحة،،التي يتبارون في مضامينها ،ليبوحوا ببعض مكبوتاتهم التي تسعفها كؤوس النبيذ الرخيص على مغادرة الصدور !
مازلت أتذكر كيف عاش الحي المجاور،،لدار الصابون،،ليلة استثنائية حينما استدعي،،الشيخ المير الطيب،،*ليحي عرسا هناك.
كان الشيخ المير الطيب وهو بالمناسبة رجل تعليم،قد بدأ يغزو القلوب بفضل قصائده التي تحترم الوحدة العضوية والكلمة العفيفة بحثا عن بز منافسه،،الشيخ عبد القادر الوكيلي،،.
لقد ظل من حضروا ،،القصارة،،مع الشيخ المير الطيب،يتباهون بهذا السبق الذي لم يتكرر،بينما تألم الذين ضاعت عليهم هذه الفرصة !
قضى الشيخ المير الطيب وهو في أوج عطائه، في حادثة سير مؤلمة،لكن أهل جرادة لم يقطعوا مع،،المشيخة،،وكأن الأعراس لا تكتمل إلا بهؤلاء الشيوخ المتفردين بزيهم وطقوسهم في إحياء الأفراح.
وللأمانة،فإن مدينة جرادة،كانت مقصدا لصناع الفرجة من كل حدب وصوب،فهناك منظمو،،الحلقة،، والمطربون الشعبيون الذين يجد العمال بينهم من يذكرهم بمسقط رأسهم عبر الأنغام التي تطبع كل جهة من جهات الوطن.
كان المطربون من منطقة،،سوس،،يتوافدون على المدينة بانتظام ،لوجود مئات من العمال المنحدرين من هذه المنطقة، والذين دأبوا على إسعاد أبناء بلدتهم سواء عبر الأهازيج السوسية أو الألعاب البهلوانية التي يبرع فيها،،أولاد سيدي احماد أموسى،،وبالمقابل،فإن المكافآت كانت سخية.
كانت مدينة جرادة تتحول يوم استلام الأجور( الكانزينة)،إلى معرض لكل أشكال الطرب،أما إذا حل عيد العرش،فإن الساحة الفسيحة بالوسط،تصبح عبارة عن لوحات فنية تختصر ما يعج به بلدنا من ألوان الطرب والرقص.
إن ظهور مطربين ،،نمطيين،، في أيامنا هذه لإحياء الأعراس والأفراح،وإن عرف طريقه إلى المدينة،فإنه لم ينس الساكنة في ،،المشيخة والتبريحة،،التي يصر الناس هناك على استمرارها لوجود نزعة فطرية بين السكان الأصليين نحو التراث البدوي.
لقد بلغ هيام الساكنة بطرب ،،الشيوخ،،إلى تخصيص أحد المقاهي ذات زمان لبث أغاني ،،الشيخ المدني وعبد المولى،،والشيخة رحمة العباسيةوهم بالمناسبة، من أبرز رواد الشعر البدوي بالجزائر، وكان لهذا المقهى زبناء أوفياء،حيث يتيهون في عوالم الشيخ المدني وهو يناجي فرسه أو يصف حال،،عين ابا دحو،، !
توقف استخراج الفحم ،وتخلص الرجال من الكحل القسري الذي ظل يميزهم،غير أن الأعراس بالمدينة مازالت تعانق الماضي لأن هذه الساكنة لا تريد التفريط في هواية،،العيد كرزة،،*الذي تحول إلى أيقونة أهل جرادة،حيث يفتتح أجواء الطرب بصوته الشجي،ويدشن نوبات رقص،،العلاوي والنهاري،،مفسحا المجال لانطلاق الطقوس المعتادة في أعراس جرادة،فتحية لأهل هذه المدينة ،وتحية لأبناء جرادة الذين لا يبخلون على،،كرزة،،بالدعم والتشجيع.
* الشيخ المير الطيب،من أبرز الشعراء البدويين،وقد تميزت قصائده بوحدة الموضوع،