(المجالس التأديبية) أداةً لانتقام الإدارة من الأصوات الحرة
سعيـد عبيـد
أقدمت وزارة التربية الوطنية على إيقاف أزيد من خمسمائة أستاذ وأستاذة وإطار دعم، مع وقف صرف أجورهم الشهرية، عقب الإضراب المطول الذي خاضته مختلف التنسيقيات التعليمية على المستوى الوطني. وفي الوقت الذي تعتبر فيه التنسيقيات هذا الإيقاف إجراء انتقاميا، وبالتالي تطالب الوزير بسحب قرارات التوقيف باعتبارها غير شرعية، وإرجاع الأطر إلى وضعيتهم الإدارية السليمة، يتمسك شكيب بنموسى بإتمام الإجراءات (التأديبية)، وذلك بعرض الأطر المعنيين على ما يسمى بـ(المجالس التأديبية)، مع الترويج لسيرورة هذه المجالس سيرورة موضوعية عادلة.
وبما أنني مررت حديثا بتجربة التوقيف المؤقت، مع وقف الأجرة، ثم العرض على (المجلس التأديبي) بالرباط، مما أتاح لي الوقوف من كثب على طريقة تفكير المصالح المركزية في هذا الشأن، وطريقة اشتغال هذه المجالس، فإني أقدّم هذه الشهادة الحية تنويرا للرأي العام؛ وخلاصة القول في هذه الشهادة أن تمثيلية الإدارة في (المجلس التأديبي) مجرد أداة قمعية لكل صوت مخالف، وأبعد ما تكون تحري الحقيقة الموضوعية، ومستعدة لاتخاذ أقصى ما تتيح لها سلطة الأمر الواقع من العقوبات، لمجرد توجيه خارجي مباشر أو عبر الهاتف، وإلم يتأسس قرارُها على مُزعة من حُجةِ عقل أو علم أو منطق أو واقع، وحتى لو اشتمل على تناقضات فاضحة صارخة، مثل ما هو الوضع بالنسبة لحالتي!
وقبل ذكر تفاصيل هذا الأمر، أشير إلى أني كتبت منذ 2016 عشرات المراسلات والتدوينات والمقالات، تناولت فيها بالتفصيل بعضا من قضايا الخلل والانحراف والفساد في منظومة التكوين ومراكز التكوين، باعتباري أستاذا مكوِّنا مكويًّا مباشرة بالخوف من وُشوك انهيار المدرسة العمومية من باب تسفيه تكوين أطُرها الذين هم رأسُمالها الوحيد المتبقي، وإفراغه وإفراغهم من أي محتوى. وهكذا كتبتُ عام 2017 إلى وزير التربية الوطنية رسالة مفتوحة عنوانها “رسالة مفتوحة إلى وزير التربية الوطنية بخصوص تعطيل وظيفة المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين”، حيث تم عام 2016 توظيف 11 ألف متعاقد، وعام 2017 توظيف 16 ألف متعاقد، توظيفا مباشرا، دون الخضوع لأي تكوين، بينما كانت المراكز وأطرها الذين يَربون عن الألف معطلة ومعطلين تعطيلا إجباريا طيلة عاميْن! وكاتبتُ الوزير والمفتشين المركزيين للشؤون التربوية والإدارية بالوزارة عبر السلم الإداري بخصوص عدة أوجه للفساد بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة الشرق بوجدة – حيث أشتغل – تهمُّ أمورا خطيرة وقعت بالمركز، يعاقِب على بعضها القانون الجنائي، كإنجاح متدربة راسبة، (وللإشارة فقد كان عبد ربه من الأقلة النادرة وطنيا الذين يرسُب لديهم من لا تتوفر فيهم الأهلية العلمية أو المهنية لممارسة التعليم رغم ضغوط الإدارة المطالِبة بإنجاح الجميع، فالمسألة مسألة مبدإ وأمانة)، وكتزويرِ محضر مداولات، وتزوير بريدي الإلكتروني من أجل تغيير بنية شعبة العربية، والشروع في تزوير محضر اجتماع، والحض على الغش وتغيير النقط، والإقصاء من التكوين ومن الاجتماعات، والكذب، وإفشاء سر المهنة، والحرمان من المراسلات… كما نشرتُ عشرات المقالات التي تعالج بعض قضايا خلل التكوين منذ 2011، أي منذ أن أصبحت الأكاديميات الجهوية تنظمه في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، بعد أن سحبت الوزارة بساطه من تحت أرجل هذه المراكز، محولة إياها إلى مجرد مؤسسات للمناولة، بدءا بمقال “الشيطان الذي يقف خلف مرسوم فصل التوظيف عن التكوين” عام (2016)، ومقال “تكوين إيهْ؟” (2016)، ومقال “حق التعليم وكابوس القطاع الخاص” (2017)، ومقال “التهييء لمباراة التوظيف بالتعاقد: سوء تخطيط أم متاجرة بالأمل أم هما معا؟” (2017)، ومرورا بمقال “تكوين التكوينات: هيئة التدريس، حكاية جريمة” (2017)، ومقال “استمرار تعطيل المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين: أين المحاسبة؟” (2018)، ومقال “ربط المسؤولية بالمحاسبة في مراكز التكوين: جعجعة ولا طحين” (2018)، ومقال “زمن تكوين أطر هيئة التعليم بالمغرب والنمور الآسيوية: مقاربة سُريالية” (2018)، ومقال “من اختلالات الموارد البشرية في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين (2018)، ومقال “فضيحة نقل ريع من مركز وجدة إلى مركز تكوين المفتشين” (2020)، ومقال “ريع منصب مدير مركز التكوين بجهة الشرق” (2020)، ووصولا إلى مقال “يحدث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بوجدة: مزبلة وكلاب داخل المركز! وأساتذة بلا قاعة! وتوقيت مستمر بلا مقصف! وهدر لزمن التكوين!” (2023)، وهو المقال الذي أُوقِفتُ أربعة أيام بعد نشره!
لكن كافة هؤلاء (المسؤولين) الذين راسلتُهم بدافع الواجب المهني والأخلاقي والوطني، في الوزارة ومفتشيتيْها، لم يحركوا ساكنا واحدا لإصلاح شيء من ذلك، وبالمقابل عمل بعضُهم بمكر لإسكات صوت عبد ربه، وإخراس قلمه؛ وهو ما ستُقْدم عليه الإدارة المركزية بتاريخ 08 مايو 2023 الماضي، حيث أوقفتْني عن العمل، مع وقف أجرتي بشكل كلي، بما في ذلك تعويضاتي العائلية لثمانية أشهر، لسبب أقل ما يقال عنه أنه تافه، طارت به فرحا، وأوَّلتْه بمزاجها المحكوم بغريزة الغريق في الظفَر بأي قشة من أجل إدانة عبد ربه، لتستريح من صوتٍ من تلك الأصوات (المزعجة) التي تضعها أمام مرآة حقيقة التكوين السائر موسما بعد موسم إلى حافة الانهيار، بدل تزويق واقعه بماكياجات تقارير (العام زين) التي يدبِّجها أصحاب الأصوات اللينة المتملقةِ الطامحة إلى استمرار حلْب بقرة الريع.
وهكذا منحتِ الوزارة نفسَها حقَّ تكييف توظيفي لصورة الختم النبوي الشريف في اختبار تربوي موضوعه قصيدة في المديح النبوي على أنه خطأ مهني جسيم، رابطة إياه بقفزة شبيهة بقفزة البهلوان على ركح السرك براية (جهة متطرفة)، رغم أن الوزارة نفسَها وظفتْ نفس الصورة في برنامج التربية الإسلامية للسنة 2 من السلك الثانوي! (الصورة رفقته)، ورغم أن الصورة نفسها كذلك معروضة في المعرض الدولي للسيرة النبوية المنظم من لدن الإسسكو تحت الرعاية الملكية! لكن الوزارة – لتصفية الحساب مع عبد ربه – عميتْ عن كلتا الحقيقتين الدامغتين، وأصرت على متابعة الإجراءات ضدي بالعرض على ما يسميه قانون الوظيفة العمومية بـ(المجلس التأديبي)، وهي أصلا تسمية غير علمية ولا أخلاقية ولا موضوعية البتة، لأنها منحازة منذ البداية إلى صف الإدارة، ولأنها حكم ضمني مسبق بالإدانة التي تقتضي التأديب، حيث اتخذت من هذا المجلس مجرد أداة للانتقام من عبد ربه، بعيدا عن أدنى أخلاق الحياد والموضوعية والإنصاف، وذلك كالآتي:
أولا: لم يتم إشعاري من لدن الإدارة بالمجلس إلا يوما واحدا قبل تاريخ انعقاده، وذلك لكي لا أطلع على ملف (التأديب)، مع العلم أن الاطلاع عليه خمسة أيام قبل انعقاد المجلس حق مكفول للموظف. ولولا أنْ أخبرني ممثلو الأساتذة أعضاءُ اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء بالتاريخ من قبلُ لما حضرتُ من وجدة إلى الرباط قبل ذلك بأيام، وبالتالي لما اطلعت على ورقة واحدة من الملف.
ثانيا: تم تكليف المسؤول السابق بالوحدة المركزية لتكوين الأطر، المدير الحالي للمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء – سطات برئاسة (المجلس التأديبي)، مع العلم أن هذا الرجل نفسه سبق أن قدمتُ به شكاية رسمية إلى الوزارة، رفقة مجموعة من الأساتذة المكونين، (المراسلة الأولى رقم 583 بتاريخ 24/12/2018. والمراسلة الثانية بعد تسعة أشهر للتذكير بالمراسلة الأولى رقم 474، بتاريخ 26/09/2019، مع فاكس مباشر إلى الكتابة العامة للوزارة ومفتشيتيْها تحرزا من قطع الطريق أمام المراسلة، وضمانا لعدم تهرب الجهات المرسل إليها من مسؤوليتها)، بسبب ما اقترفه من جرائم إلكترونية في حق سبعة أساتذة مكونين في كل من مراكز وجدة وتازة والقنيطرة وفاس ومراكش؛ حيث استغل المذكورُ منصبه في الوحدة المركزية لإصدار بيانات تتضمن سبا وشتما وتحقيرا وتشهيرا وافتراء ضد هؤلاء، بمعطيات كاذبة، ولغة سوقية بذيئة، لا لشيء إلا لكتاباتهم الصحفية والنقابية التي كانت تعالج بعض الاختلالات في منظومة التكوين، محمِّلة الوحدةَ المركزية لتكوين الأطر التي كان المعنيُّ (مسؤولا) فيها الجناية على التكوين، مما جعله يحس بالتهديد المباشر لمنصبه! وقد كان (المسؤول) المعنيُّ يتخفى – طيلة سنوات – خلف ألقاب وبُرُد إلكترونية مختلفة، كشفَ التحري الإلكتروني عن هويته المندسَّة خلْفَ حجابها. غير أن الوزارة لم تجب عن أي من تلك الشكايات، ولم تفتح تحقيقا، ولم تفعل شيئا، اللهم إلا إبعاد المذكور عن رئاسة قسم استراتيجيات التكوين بالوحدة المركزية إلى إدارة مركز البيضاء – سطات!
وبطبيعة الحال كان انحياز المعنيِّ ضدي في (المجلس التأديبي) واضحا فاضحا، رغم ضعف حجته ضعفا مضحكا أحيانا. وأتذكر هنا أن الرجل وقع في نفس التوهم الذي يقع فيه العوامُّ حين لم يستطع التفريق بين راية دولة قائمة الكيان هي دولة جزر موريس، وراية الشواذ، مما أضحك الحاضرين. وقد كانت هذه الواقعة وحدها حجة كافية لإيضاح ما وقع فيه العوامُّ والكائدون الذين التبس عليهم جهلا، أو خلطوا عمدا، بين الختم النبوي الشريف الذي وظفتُه سندا ديدكتيكيا في وضعية اختبارية – ولم ولن أتنازل عنه قطعا – وراية داعش، لولا عمى عناده الانتقامي الذي فاجأ الجميع ممن لم يكن يعلم خلفية الصراع السابق، وكونَه بالتالي في حالة تَنافٍ بين صفته خصما لدودا وصفته حَكَما.
وللإشارة، فإن (رئيس) المجلس هذا، وعضو آخرُ هو رئيس قسم التدبير المندمج لموظفي التعليم الابتدائي، لم يطَّلعا على صفحة واحدة من ملف (التأديب)، حيث إنني كنت حاضرا في عين المكان، بمكتب الشؤون التأديبية بمديرية الموارد البشرية، طيلة يومي الاثنين والثلاثاء اللذين سبقا يوم الجلسة، من أجل الاطلاع على ملفي، وصبيحةَ الأربعاء، يومِ الجلسة، منذ التاسعة صباحا، إلى حدود الواحدة زوالا، ساعة انطلاق الجلسة، (أما السبت والأحد فكانا يومين من أيام عطلة عيد الأضحى). فأما الأول فأتى مباشرة من الدار البيضاء، ودخل رأسا إلى قاعة الاجتماع، وأما الثاني فظل طيلة الاجتماع شاردا، وبين الفينة والأخرى يلقي كلمة خارج السياق، منتظرا متى ينصرف على أحر من الجمر! وهذا لم يكن مجرد دلالة على النية المبيَّتة بإدانتي المسبقة فحسب، ولكنه كان كذلك استهانة فاضحة بالواجب المهني، وباللجنة، وبآداب الاجتماعات ورئاستها! لذلك لم أستغرب أنني حين قدَّمتُ للَّجنة سبع وثائق إضافية جديدة مهمة للغاية لتُضم إلى الملف، قاطعني (الرئيس) بتهورٍ فضحَ عدم اطلاعه قائلا: “هذه الوثائق كلها موجودة في الملف، وهي لا تقدم ولا تؤخر شيئا”! مما جعل أحد ممثلي الأساتذة يتدخل بقوةٍ لإسكاته، لا لأن الوثائق كلها لا أثر لها في الملف كما ادعى فحسب، ولكن كذلك لأنه ليس من آداب تسيير الجلسة مقاطعة الموظف المعني أثناء تقديم دفوعاته، ولا إصدار الأحكام المسبقة على وثائق قبل الاطلاع عليها وفحصها ودراستها.
ثالثا: رغم نص القانون على عقد (المجلس التأديبي) في أقرب وقت، فإن الإدارة أجلت الجلسة الخاصة بملفي ثلاث مرات، لمدة أكثر من شهرين، إلى أن بلغتْ بها اليوم ما قبل الأخير داخل أجل الأربعة أشهر التي يمنحها إياها القانون كحد أقصى! وما ذاك إلا تمديد – في نظرهم – لمعاناة الموظَّف المعلَّق، وزيادةٌ في تعذيبه ماديا ونفسيا واجتماعيا، كما يتوهمون، مع العلم أن تأجيل الجلسة لا ينبغي قانونيا أن يتجاوز 30 يوما من تاريخ انعقاد أول جلسة.
رابعا: حاولت الإدارة التفاوض معي عبر وسطاء بخصوص قبول (عقوبةٍ) ما، يتم الاتفاق عليها بين الطرفين. ولما رفضت العرض رفضا مبدئيا قائلا: “إنهم لو أصدروا في حقي (إنذارا) فحسب، فسأتابعهم أمام القضاء الإداري، لأنني بريء من كل المنسوب إلي براءة لا يستطيع أحد نكرانها أو دفعها بأدنى حجة، وأن الذي ينبغي أن يقدم حقا للمجلس التأديبي هم زمرة الفاسدين الذين راسلتُ الإدارة في شأنهم بحجج الخروق القانونية الموثقة التي اقترفوها في حق التكوين وحقي طيلة سنين”، كان جوابُ ممثلي الإدارة انتقاميا واضحا كالآتي: “إذًا، وبما أنه رفض الحل الوسط، فإننا سنوقع عليه أقصى ما هو متاح لنا من العقوبات، وهو الإقصاء عن العمل مع وقف الراتب لمدة ستة أشهر”! وهو ما استغربه واستنكره ممثلو هيئة التدريس داخل (المجلس التأديبي) الذين طالبوا بالبراءة التامة وعدم المتابعة، لعلمهم علم اليقين بما نالني من مؤامرة كيدية، وتعسف لمجرد التأويل المبيَّت، فلذا رفضوا مشكورين التوقيع على العقوبة.
خامسا: لما أدى ممثلو الإدارة في (المجلس التأديبي) دورهم في المسرحية بنجاح، ووافوا الوزير بتقريرهم، حبسَ الوزير التقرير لديه لقرابة أربعة أشهر أخرى، لزيادة تمطيط تعذيب الموظف! ولما لم يسكت هذا الموظف عن ممارسة حقه الدستوري في حرية الرأي، فكتب فاضحا ما تم مؤخرا من خروقات في مباراة الولوج إلى المراكز الجهوية، من تأخرٍ غير مفهوم لبداية التكوين، وهدرٍ لأربعة أشهر من زمن التكوين، وعدم شفافية النتائج، وكذا حول فضيحة جديدة تتمثل في تمديدِ تكليفِ مدير إقليمي سابق مُعفى بإدارة المركز الجهوي لجهة الشرق بوجدة، رغم رسوبه في مباراة الإدارة لثلاث مرات متتالية! (وللإشارة فهذا المركز لم يعرف مديرا حقيقيا معيَّنا تعيينا ثابتا منذ ثماني سنين، إن هُم إلا مكلَّفون على شفا التقاعد يسهُل التحكم فيهم!)، أفرج الوزير أخيرا عن ملف عبد ربه من مكتبه، موجها إياه إلى رئيس الحكومة، طالبا منه – بدافع انتقامي كذلك – تشديد العقوبة، وهو ما كان، حيث تحولت الستة أشهر الباطلة إلى ما هو أبطل منها، وهو العزل: عزل موظف ليس بملفه سابقة تأديبية واحدة، ولا استفسار عن غياب أو تأخرٍ واحد، ولا إخلافٌ واحد للآجال القانونية للاختبارات وإدخال النقط وباقي الواجبات المهنية، ولا أيُّ خرم أخلاقي أو مهني طيلة 27 عاما من العمل، ولا أزكي نفسي. ولكنه في ملفه – بالمقابل – الكثير من مقالات الرأي، ومن حريةِ النقد المؤسس على وقائع عينية خطيرة، ومن مراسلاتِ فضح الفساد الموثَّقة!
كل ما ذكرتُه يبين أن ما يسمى بـ(المجالس التأديبية) أبعد ما يكون عن تحقيق العدالة الوظيفية، مما يجعلها أدوات مسخرة للإدارة بنيَّة مسبقة، أعلاها الانتقام، وأدناها الترهيب للمعنيِّ ولغيرِه، لا غير. والعيب هنا ليس في الأشخاص المفتقدين إلى الضمير الحي وإلى الإحساس بروح المسؤولية الأخلاقية والوطنية فحسب، ولكنه كذلك في القوانين المنظمة لهذه المجالس، حيث تكرس هذه القوانين بشكلٍ مَعيب اليدَ العليا للإدارة على حساب إنصاف الموظف وإحقاق الحقيقة: فالإدارة هي التي تكيِّف الخطأ كما تشاء، ودون مقياس محدد، وأحيانا بشكل مزاجي ذاتي انطباعي، والإدارة هي التي تقوم بالبحث وتطلب وثائق إضافية إن شاءت، وترفض ذلك إلم تشأ، والإدارة هي التي تحدد الآجال، وتخرق الآجال، وتمدد الآجال، وتصدر الاستدعاءات، وفي نفس الوقت تتلكأ في إيصالها إلى أصحابها في وقتها المقنن، والإدارة هي التي تجعل صوت رئيس المجلس، الذي تعيِّنه هي، يرجِّح كفة القرار عند التصويت!!! وكل هذا بعيد عن منطق العدالة البدهي، والدليلُ على ذلك أن القضاء الإداري يُبطل مشكورا كثيرا من قرارات (المجالس التأديبية) المشتطَّة هذه.
وقبل أن أختم المقال، أبشر القراء الكرام بأن المحكمة الإدارية بوجدة قد أنصفتني من هذا العسف الذي وقع عليَّ، وذلك بحكم قطعي بإلغاء قرار توقيفي المؤقت أصلا، وإبطال ما ترتب عنه من آثار. وهو الحكم الذي أثلج صدري وصدور كافة المتعطشين إلى سيادة القانون، وإلى وضعِ حد لتغوُّل الإدارة ضد الموظفين الشرفاء الذين تسعى بسلوكها التسلطي إلى تدجينهم من باب قطع الأرزاق، كأنها لا تعلم أن سلوك محاكم التفتيش هذا قد عفَّى عليه الزمن، وأن الموظف بصوته وبتمثيلياته النقابية والمؤسسية شركاءُ ينبغي كسبُهم بصدق النيات والإرادات، وإثابة الطاقات، لا فقدانُه بالتجاهل أو الانتقام أو الترهيب، أو بتقريب المتزلفين الباحثين عن تسلق المناصب، الجوعى إلى كل ريع، هنا أو هناك، على حساب منظومة التربية والتعليم التي هي آخر شيء يفكرون فيه!